حين تجاوز أصدقائي الشماتة في الولاياتالمتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر! ، بدأت المحاولات التفسيرية لتحليل المشهد ووضعه في سياق كلي يأخذ في الإعتبار المسار التاريخي القريب للولايات المتحدة وسقوط الإتحاد السوفيتي وحرب أفغانستان وحرب العراق الأولى والثانية ، وكانت نظرية المؤامرة ذات المقدرة التفسيرية العالية لحادث يحيط به هالة من الغموض والإبهام هي الأقرب لأذهان أغلب التحليلات العربية التي حاولت فهم الحدث في سياقه الكلي ؛ فأرتكز التفسير على خطابات إعلامية أمريكية وعلى ثغرات مرئية في عملية التفجير وتفاصيل متعلقة بطبيعة المبنى وتاريخه والمتواجدين فيه في هذا التوقيت والغائبين عنه وجزئيات متناثرة أخرى تم التعسف لإقحامها داخل نموذج تآمري لتفسير الحدث المبهم بحشد الأحداث ونظم الوقائع والتفاصيل والأجزاء في صورة معدة سلفاً لتوكيد ما سبق تقريره وسلف إثباته! ومن ثم فقد لجأت حينها لعدة كتب مثل (أحجار على رقعة الشطرنج لويليام غار كي ، اليهودي العالمي لهنري فورد ، قادة الغرب يقولون حطموا الإسلام وأبيدوا أهله لجلال العالم) ، إستدعاء المؤامرة طفا من جديد بعد الثورات العربية المجيدة بتفسير تآمري للثورات إستناداً لتفاصيل منثورة وأجزاء مبعثرة يتم تجميعها وربطها في سياق تعسفي ينسب إشعال الثورات لمستفيد خارجي (هو الولاياتالمتحدة) ويتناقل كثيرين عبر الشبكات الإجتماعية مقاطع فيديو وتحليلات تشكك بدوافع صفحة خالد سعيد ووائل غنيم وحركة 6 أبريل والبرادعي وشركات جوجل وفيس بوك وتويتر ومراكز تدريب اللاعنف وبعض منظمات حقوق الإنسان . والمؤامرة كنظرية هي محاولة تفسير الأحداث الموضوعية وفق رؤية مسبقة تنسب الأحداث إلى فاعل (شخص أو منظمة أو دولة) وتنفي عفويتها وتلقائيتها وتعتبر التلقائية سذاجة ومن ثم فإنها تفترض بالضرورة وجود فاعل مستفيد من الحدث (غالباً ما يكون هو الصانع الحقيقي للحدث) قد لا يكون حاضراً في الصورة الظاهرية (تتبنى المؤامرة على الدوام ثنائية الظاهر والباطن وتعتقد بوجود تفسير باطني للحدث على الدوام ففيها قدر من الغنوصية) ويبالغ بعضهم فيعتبر أن هناك مؤامرة محكمة أزلية قديمة يتم تنفيذها على مر الزمان من قبل اليهود والمنظمات السرية الدولية. لا أدعوا إلى نفي المؤامرة على الإطلاق فهذا ينافي العلمية والمنهجية ويقع في سذاجة مقابلة لسذاجة المؤامرة الكبرى ومدونات التاريخ ملآى بالمؤامرات! والثورة العربية الكبرى 1916 كانت مؤامرة بريطانية حقيقية ضد الرجل العثماني المريض! ، غير أن الثورات في الغالب لا يمكن التكهن بتأثيراتها المستقبلية وإستشراف إنعكاساتها وتبعاتها وهناك بدائل تآمرية أكثر أماناً بكثير مثل ما يشهد التاريخ ! ربما لأن كثيرين لم يستطيعوا تفسير الدعم السياسي والإعلامي الذي وفرته الولاياتالمتحدة ودول غربية أخرى للثورات التونسية والمصرية والليبية (إذ أن المعهود أن هذه الدول لا تحركها عوامل مبدأية ونزعات أخلاقية وإنما مصلحية براجماتية عملية بحتة) فلجأوا للمنطق التآمري ، مع إغفال أن تتبع مسار ردود الأفعال الأمريكية والأوروبية يثبت أن الإرتباك كان سيد الموقف وأن الضغوط التي مارستها الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا إعلامياً وسياسياً على أنظمة بن علي ومبارك والقذافي كانت رضوخاً لميزان القوى على الأرض الذي مال لكفة الثوار وأصبح رحيل رؤوس الأنظمة حتمي وقطعي ومسألة وقت بالنظر لإصرار الثوار وتمسكهم بمطالبهم ولتزايد الأعداد وتصاعد الزخم الثوري والأفق المطلبي ، والحقيقة أن من لم يشارك في الثورات وينفعل بها ويتفاعل معها ويدرك بنيتها المركبة ويحللها من داخل نسقها وقياسها ويفهم الدوافع والبواعث (الكامنة والظاهرة) للثوار والطبيعة العفوية التلقائية لها قد يلجأ للتفسيرات التآمرية البسيطة السطحية ولو إمتلك أدوات أكاديمية ومنهجية معرفية (غالباً لا تمتلك منظور لتفسير الثورة بإعتبارها تغريد خارج السياق والنسق الأكاديمي الواقعي المحافظ السائد) . خطيئة المؤامرة العلمية هي أنها تستبدل منطق المصالح (السياسية والإستراتيجية والإقتصادية) التي تبنى عليها المواقف والخيارات السياسية برؤية ثنائية للعالم (وأحياناً للكون!) بتقسيمه لمتآمرين وملائكة وسذج (لاحظ البعد الماورائي المتجاوز للطبيعة) وأظن أن التحليل النفسي يقدم مدخلاً مهماً لفهم منطق المؤامرة (جمهور باحث عن التفسير والحقيقة ونظرية ذات مقدرة تفسيرية براقة ومريحة وتوفر إشباع عاطفي خصوصاُ لدى القوميين واليساريين بعد نكسة المشروع العروبي الوحدوي والإشتراكي (ولا زالت رائجة لدى القوميين خصوصاً) ثم بعض الإسلاميين بينما غابت عن أذهان الليبراليين (ربما لأنهم جزء من المؤامرة بالنسبة للبعض!) . وهو أسلوب التآمريين المكرور (لاحظ أن ربط الثورات بمؤامرات خارجية أستخدم بشدة من الأنظمة القمعية التسلطية بأجهزتها الدعائية التي تفترض وجود مؤامرات خارجية على الدوام (لاحظ الإيحاء بوطنية الأنظمة!) وجرى التركيز عليه من صالح والقذافي ومبارك والأسد لإسباغ الشرعية على الأنظمة وتحصينها ضد الثورات) إذ يستندوا لمعطيات حقيقية واقعية حدثت بالفعل (كالدورات التدريبية ولقاءات 6أبريل والبرادعي وغيرها) ويحاولون تضخيم دورها وتسليط الأضواء عليها وإستبعاد مشاهد أخرى عفوية كثيرة من الصورة وتطويع هذه المعطيات لتصل للنتيجة المسبقة المقررة سلفاً وكأنه إستنتاج علمي (أذكر أني دعيت للمشاركة في أحدى هذه الدورات في سويسرا برعاية مؤسسة حقوقية معروفة ورفضت لأسباب خاصة) ، وقد أستفدت كثيراً من علاقتي بالقائمين على أكاديمية التغيير[1] (م/وائل عادل ، وأ.أحمد عبد الحكيم ، و د/هشام المرسي) وأخذت دورة لديهم في اللاعنف والتغيير المدني وقرأت كتبهم كما قرأت كتابات جين شارب [2]ومعهد أينشتين وغيرها ؛ أقول هذا لأني متيقن أني لم أكن شريكاً للولايات المتحدة في مؤامرة غرضها قلب الموازين الإستراتيجية في المنطقة وإستبدال الأنظمة الديكتاتورية العميلة بهلال إخواني يمتد من تركيا إلى المغرب! وشهدت تأسيس شبكة رصد وكنت قريب من طاقم إدارتها حتى رحيل المخلوع ، ومن أصدقائي عبد الرحمن منصور وأحمد صالح (من مديري صفحة خالد سعيد) من أثق بأنهم ليسوا جزءً من مؤامرة أمريكية بردعاوية إخوانية! (ليعذرني القارئ على إضطراري لذكر بعض الأسماء والحديث عن بعض الإهتمامات الشخصية لدحض فكرة هندسة الثورات (المصرية والتونسية تحديداً) من قبل مدربين أمريكان (لاحظ مركزية الولاياتالمتحدة والإيحاء الضمني بأنها سيدة الكون وتستطيع فعل كل ما تريد وهي فكرة إستشراقية تقليدية مكرورة) تطبيق نظرية المؤامرة على ربيع الثورات العربية يوصلنا أن الثورات هي صنيعة قوى خارجية غربية (أمريكية أو أوروبية أو صهيونية) وليست نتيجة محضة لفشل الأنظمة الفاسدة المستبدة (المفارقة أنها أستمدت تماسكها من الدعم الغربي لها) وأن هناك مصالح (ربما تكون إقتصادية وربما سياسية أو جيوإستراتيجية) لن تتحقق إلا بالثورات العربية وتغيير الأنظمة (وهذا يخالف منطق الثورات التي تعتبر مشروع تحرري لمواجهة تبعية الأنظمة وإرتهانها بالخارج ، وتعديل النظام الإقتصادي ليحقق العدالة الإجتماعية للمواطنين مما يمس بالمنظومة الإقتصادية الحاكمة ، وتقويم السياسة الخارجية لتعبر عن المصالح الوطنية والقومية وتتسق مع الهوية ودوائر الإنتماء بما في ذلك إعادة الإعتبار للقضية الفلسطينية كمركز الصراع وإعادة تعريف الأمن القومي وخريطة الحلفاء والأعداء ) وهذا بالضرورة يضر المصالح الإستراتيجية والإقتصادية والسياسية (معلوم أن الإرادة الشعبية المصرية الحرة ترفض إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وقد تلغي المعاهدة وترفض تصدير الغاز ولا تؤيد السياسات الإقتصادية النيوليبرالية التي تضر بالأغلبية الفقيرة وترفض الهيمنة الأمريكية وتؤيد سياسات الإستقلال وتولي أولوية للإمتداد العربي والإسلامي) مما دفع مراكز الأبحاث ودوائر صنع القرار وواضعي السياسة الخارجية لمحاولة الإستفادة من الثورات (وليس صناعتها) وتوجيهها وتوظيفها والحد من جذريتها وإحتوائها بالدمقرطة الداخلية وتوسيع هامش الحريات وإحتواء الغضب والسخط المتراكم شريطة ألا ينعكس في سياسة خارجية أو نظام إقتصادي مختلف عن سابقه! (وهذا يفهم في سياق عفوية الثورات لا في سياق تآمري) إنه من الضروري بمكان سواء (أعتقدنا بالمؤامرة أم بضدها "العفوية التلقائية") ألا نستخدم رؤية مسبقة لتفسير الأحداث (أو لتجاوز عجزنا عن التفسير العلمي المنهجي) وأن ندرك أن ميادين التحرير والتغيير هي مركز الحدث لا دوائر صنع القرار الأمريكية والأوروبية ، وأننا لم نعد في عصر أسطورة التفرّد والسيطرة المطلقة للأمريكي المنتصر الذي يعاني الآن من مشكلات إقتصادية وهزائم عسكرية غير مسبوقة في تاريخه ! ، وأنه لم يعد قادراً على فعل كل ما يريد إذ أن بروز أقطاب جديدة على الساحة الدولية أفقدته زمام المبادرة والسيطرة الميكانيكية المطلقة على مسار الأحداث ومآلها ! (هذه بعض محددات أراها ضرورية لفهم المشهد الثوري ومن ثم تفسيره) وظني أنه إذا كانت ثمة مؤامرة حقيقية فهي مؤامرة من الأنظمة الإٍستبدادية الفاسدة القمعية التسلطية لإسكات الحراك الشعبي الثوري العفوي وإبتزازه بالعمالة للخارج لثنيه عن المطالبة بتغيير الأنظمة !! [1] http://aoc.fm/site/ [2] http://www.aeinstein.org/organizations38fa.html