\r\n ولكن ما زالت الانتقادات الموجهة إلي مثل هذه المحاكم تقوم علي حجة قوية مفادها أن الجهود التي تُبذل من خلال هذه المحاكم تؤدي إلي إعاقة تحقيق هدف أعظم أهمية، ألا وهو السلام. وعادة يأتي التعبير عن هذه الانتقادات في أقوي صوره حين يُتهَم رؤساء الدول الذين ما زالوا علي رأس السلطة بارتكاب جرائم. ومن بين أحدث الأمثلة علي ذلك الاتهامات التي وجهها مدعي المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس السوداني عمر حسن البشير بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة العرقية في دارفور. والحقيقة أن تصريحات الإدانة والشجب التي أطلقت ضد عملية العدالة هذه المرة كانت أكثر قوة وأشدعنفاً وحماساً من أي وقت مضي. \r\n \r\n كانت الانتقادات صاخبة أيضاً في العام 1995 حين وجه مدعي المحكمة الجنائية الدولية المختصة بيوغوسلافيا السابقة الاتهام إلي كارادزيتش ورئيس هيئة أركانه العسكرية الجنرال راتكو ملاديك، بل وكانت أعلي صخباً حين اتُهِما مرة أخري في وقت لاحق من نفس العام بارتكاب مذبحة سربرينتشا. وكان توقيت الاتهام الثاني بصورة خاصة سبباً في إثارة الانتقادات، وذلك لأنه جاء قبل موعد انعقاد مؤتمر دايتون للسلام مباشرة. وبسبب تعرضهما للاعتقال في حال مغادرتهما للبلاد، فلم يذهبا إلي دايتون. \r\n \r\n ولكن كما تبين بعد ذلك فإن غيابهما لم يتسبب في منع الأطراف من التوصل إلي اتفاق. بل وربما كان غيابهما في الواقع بمثابة عامل مساعد، حيث نجح زعماء البوسنة وكرواتيا ويوغوسلافيا في التوصل عن طريق المفاوضات إلي إنهاء الحرب في البوسنة. \r\n \r\n في العام 1999 اتهمت المحكمة الجنائية الدولية المختصة بيوغوسلافيا السابقة سلوبودان ميلوسيفيتش رئيس يوغوسلافيا بجرائم ارتكبها في كوسوفو. ومرة أخري ركزت الانتقادات وتصريحات الشجب علي التوقيت. ففي ذلك الوقت كان تدخل حلف شمال الأطلنطي في كوسوفو جارياً، وزعم المنتقدون أن محاكمة ميلوسيفيتش جعلت من المحكمة أداة في يد حلف شمال الأطلنطي، وأن ذلك من شأنه أن يمنع التسوية. إلا أن تلك التكهنات لم تصدق، فقد استسلم ميلوسيفيتش بعد أسبوعين من توجيه الاتهام إليه، وانتهت الحرب. \r\n \r\n كان الرئيس الليبيري تشارلز تايلور هو الرئيس التالي الذي يوجَه إليه الاتهام أثناء توليه لزمام السلطة. ورغم أن مدعي المحكمة المختصة بسيراليون وجه الاتهام إلي تايلور في مارس 2003 بارتكاب جرائم أثناء الحرب التي خربت البلاد، إلا أن الاتهام لم يُكشَف عنه علناً إلا بعد ثلاثة أشهر. ومرة أخري كان التوقيت عاملاً أساسياً في استثارة الغضب. فقد أذيع الاتهام في يونيو 2003، أثناء حضور تايلور لمؤتمر سلام في غانا، وهو المؤتمر الذي كان المقصود منه تسوية النزاع وإنهاء الحرب الأهلية في بلاده. \r\n \r\n وكان المسؤولون الغانيون الذين استضافوا المؤتمر هم الأكثر غضباً حين طُلِب منهم اعتقال تايلور في ظل تلك الظروف، فرفضوا اعتقاله. ورغم أن التعاطف مع الغانيين الذين وُضِعوا في موقف حَرِج للغاية كان بالأمر الوارد، إلا أن الاتهام كان سبباً في تكثيف المطالبات بعزل تايلور، فهرب إلي المنفي، الأمر الذي أدي فعلياً إلي إنهاء الحرب. والآن يُحاكَم تايلور في لاهاي، وبعد عقدين من الصراع الرهيب تعيش ليبريا الآن في سلام وتعيد بناء البلاد في ظل حكومة ديمقراطية. \r\n \r\n لا نستطيع أن نستبعد احتمال تفاقم صعوبة المحاولات الرامية إلي إحلال السلام في دارفور نتيجة لتنفيذ العدالة هناك. فالعدالة والسلام قيمتان مستقلتان. وكل من هاتين القيمتين تشكل أهمية كبري في سياقها. ولكن يبدو أن تنفيذ العدالة يشكل علي الأمد البعيد وسيلة للإسهام في إحلال السلام، ولكن ليس لأحد أن يجزم بأن الأمور قد تجري علي نفس المنوال في كل الأحوال. \r\n \r\n ولكن طبقاً للسجل حتي الآن فقد يبدو بعض التشكك في محله بشأن الزعم بأن العدالة سوف تعوق السلام. إذ أن الصراع في دارفور ظل دائراً منذ خمسة أعوام ونصف العام. وطبقاً للتقديرات فقد أسفر هذا الصراع حتي الآن عن مقتل ثلاثمائة ألف إنسان علي أيدي قوات خاضعة تمام الخضوع لسيطرة البشير، كما اضطر 2.7 مليون إنسان للنزوح. وقبل أسبوع واحد من الاتهام، قُتِل سبعة من أفراد قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، وأصيب 22 بجراح في كمين نصبه أفراد ميليشيا جيدة التسليح. وفي الوقت الحالي لا تجري عملية تسوية سلمية جادة. إذاً، ما هو الأساس الذي استند إليه الزعم بأن اتهام البشير يشكل إعاقة للتسوية؟ وأي تسوية تلك التي سيعوقها الاتهام؟ \r\n \r\n من الجدير بالملاحظة والذِكر أن قضية دارفور أحيلت إلي المحكمة الجنائية الدولية بواسطة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. والمعاهدة التي أسست المحكمة الجنائية الدولية تمنح مجلس الأمن صلاحية تأجيل المحاكمات إذا كان ذلك مطلوباً لتيسير إتمام عملية تسوية سلمية قائمة. لذا، يتعين علي منتقدي الاتهام إذا أرادوا أن يتحرك مجلس الأمن لتأجيل المحاكمة أن يتحملوا علي الأقل عبء إثبات احتمال وجود عملية تسوية سلمية مرجحة. \r\n \r\n لقد شرع العالم في تأسيس المحاكم الجنائية الدولية منذ عقد ونصف العقد من الزمان من أجل إنهاء الحصانة التي يستطيع بها رؤساء الدول وزعماء الجماعات العصابية أن يرتكبوا جرائمهم الشنيعة. وكما يوضح اعتقال كارادزيتش فقد بدأت هذه الجهود في إحراز النجاح تدريجياً. إن الاتهام الموجه إلي البشير، الذي يتمتع بحق افتراض البراءة مثله كمثل أي متهم آخر، يشكل معلَماً آخر علي قدر عظيم من الأهمية علي الطريق الطويل الذي يتعين علينا أن نكمله حتي النهاية إذا ما أردنا الوصول إلي الغاية التي حددها العالم لنفسه. \r\n \r\n أحد مؤسسي هيومن رايتس ووتش \r\n