\r\n من غوربا تشيف الى يلتسين الى بوتين, قام كل رئيس جديد في روسيا بتغيير علاقة بلاده بالعالم, فعلى اي وجه سيغير الرئيس دميتري ميفيديف تلك العلاقة? اليك المفاتيح التي تكشف الطريقة التي يفكر بها الكرملين والرغبات التي يسعى لتحقيقها. \r\n \r\n في العقدين الاخيرين اللذين اعقبا انهيار الاتحاد السوفيتي, تحولت روسيا من دولة الحزب الواحد الى دولة انبوب النفط الواحد وساد فيها نظام شبه سلطوي بثوب ديمقراطي. وفي الوقت نفسه, ازدادت مواقف روسيا الدولية استقلالية ولم يعد بالامكان التنبو بها مقدما. \r\n \r\n ولا يبدو ان فلاديمير بوتين ينوي, بعد تنصيبه خليفته الذي اختاره بنفسه, ان يخفف من قبضته على السلطة. فسياسة بوتين الخارجية جاءت لتبقى. \r\n \r\n الا ان هناك الكثير مما لا يزال غير واضح بشأن الاتجاه الذي تتخذه روسيا. فهي, في الوقت نفسه, نظام يقدم لمواطنيه البضائع الاستهلاكية وليس الحريات السياسية, وسيادة الدولة وليس استقلالية الفرد, واقتصاد السوق وليس الديمقراطية الحقة. انها, في آن واحد معا, قوة عالمية صاعدة ودولة ضعيفة ذات مؤسسات فاسدة وغير كفؤة. ونظام الكرملين صلب كالصخر وهش للغاية وهو سلطوي ومحبوب جماهيريا قد تكون روسيا اليوم اكثر ديمقراطية, لكن امكانية الاعتماد عليها كلاعب عالمي اقل مما كانت عليه. فكلما ازدادت رأسمالية واقتداء بالغرب كلما اوغلت سياساتها في معاداة الغرب. وكلما ازدادت سياستها الخارجية نجاحا كلما ازدادت اهدافها غموضا. \r\n \r\n في السنوات الاخيرة, نظمت موسكو عودة صاخبة وصدامية الى المسرح الدولي. فقد قررت ان لا تتعاون مع الغرب في ترويض طموحات ايران النووية او تسوية الوضع النهائي في كوسوفو. وفي العام الماضي علق الكرْملين من طرف واحد معاهدة القوات المسلحة التقليدية في اوروبا. كما عطل عمل منظمة الامن والتعاون الاوروبية. وتعمل »غاز بروم« وهي الاحتكار الغازي الروسي, بنشاط للسيطرة على امدادات الطاقة في المنطقة. \r\n \r\n وتضاعفت ميزانية البلاد العسكرية ستة اضعاف منذ عام 2000 والطائرات الروسية تقوم بدوريات فوق الاطلسي, والاستخبارات الروسية تتسلل الى كل زوايا اوروبا. ولم يحدث منذ ايام الحرب الباردة ان اثيرت كل التساؤلات الحالية عما يجري حقا وراء ابواب الكرملين المغلقة. \r\n \r\n البعض ينظر الى روسيا فلا يرى الا عدوا جريحا يتأهب لجولة قادمة ويفسر هؤلاء رغبة موسكو الجديدة في تأكيد وجودها على انها مجرد ردة فعل مفرطة للاذلال الذي عاشته في سنوات التسعينيات. ويسارع هذا البعض الى القاء اللوم عن توجهات السياسة الخارجية الروسية الحالية على توسيع حلف الناتو وروح الانتصار التي سادت الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ان ما تعلمته موسكو خلال »عقد الاذلال« في التسعينيات هو ان الغرب يحترم القوة لا القيم المشتركة. \r\n \r\n على الجانب الاخر, لا يشعر الليبراليون الذين صاغوا سياسة الغرب تجاه روسيا في التسعينيات بأي دافع لانتقاد انفسهم. فهم يميلون الى الاعتقاد بان سياسة بوتين الخارجية ما هي الا انبعاث جديد لسياسات موسكو الامبراطورية التقليدية. وبالنسبة لهم, لا تبدو مكاسب موسكو على الساحة الدولية الا ظاهرة عابرة ولا تبدو معجزة بوتين في عيونهم الا سرابا. وباختصار, يمكن القول ان الكل, بمن فيهم الخبراء, ليسوا متفقين على تعريف دوافع التحول الروسي الاخير. \r\n \r\n سيكون من السهل الافتراض بان روسيا تستحوذ على النفوذ لغرض النفوذ فقط, او الاعتقاد بعدم وجود ضباط كي. جي. بي سابقين وبالتالي عدم وجود قوى امبراطورية سابقة. ولكن لفهم السبب الذي يدفع الكرملين الى التصرف على النحو الحالي, لا بد من ان يحيط المرء بالحد الذي تخضع فيه روسيا لدوافع الخوف وعدم اليقين. انا ما تفكر به روسيا يرتبط بما يشعر به الزعماء الروس. وهو يعبر عن التجربة المؤلمة التي رافقت انهيار الاتحاد السوفيتي الى جانب الهشاشة السياسية الحالية للنظام القائم. \r\n \r\n ان السياسة الخارجية الروسية رهينة الاحساس بالهشاشة الذي طبع التجربة الروسية في التسعينيات. وذلك الاحساس يفسر تفضيل موسكو للنظام العالمي الذي سبق الحرب العالمية الثانية والذي كان يقوم على السيادة غير المقلدة وسياسات مناطق النفوذ. كما يفسر مقاومة روسيا الصريحة للهيمنة الامريكية ومعارضتها للنظام الاوروبي ما بعد الحداثي الذي يبشر به الاتحاد الاوروبي. فالاتحاد الاوروبي, بتأكيده على الانفتاح وحقوق الانسان, يهدد احتكار الكرملين للسلطة. وتوقظ سياسة الغرب في تشجيع الديمقراطية كوابيس موسكو المتعلقة بالمواقف الدينية والاثنية وخطر التفكك المناطقي للاتحاد الروسي. وتشعر روسيا بالتهديد من غزو المنظمات غير الحكومية الممولة من قبل الغرب, كما يواجه الكرملين اغراء العودة الى الدولة البوليسية كوسيلة لمنع التدخل الاجنبي في الشؤون الداخلية. \r\n \r\n وترى موسكو في الثورات »الملونة« التي هزت اركان الميدان ما بعد السوفييتي تجسيدا للتهديد الذي يتربص بروسيا وهو التمرد الشعبي الموجه عن بعد. ولذا فان موسكو تسعى الى تحقيق الاستقرار التام. \r\n \r\n تعتمد سياسة بوتين الخارجية, وبالتالي سياسة ميدفيديف, على فرضيتين رئيسيتين وعلى عملية حسابية استراتيجية واحدة فهي تفترض ان الولاياتالمتحدة تواجه انهيارا لا يختلف كثيرا عن انهيار النفوذ السوفييتي. كما تفترض بان الاتحاد الاوروبي, رغم تقييمها له كظاهرة مؤقتة, يشكل تهديدا للنظام الروسي بمجرد وجوده كامبراطورية ما بعد حداثية. والعملية الحسابية الاستراتيجية التي تستخلصها من ذلك هي ان العقد المقبل يوفر نافذة فرصة لروسيا كي تنصب نفسها كقوة عظمى في العالم الجديد المتعدد الاقطاب في نفس الوقت الذي تؤمن فيه شرعية النظام حتى وان تطلب ذلك اتباعها سياسة خارجية اكثر مجابهة وتوكيدا للذات. \r\n \r\n بخلاف الصين التي لا تتفق في ان النظام العالمي صائر الى الانهيار بين عشية وضحاها التي ترى ان المراهنة على انهيار امريكا مقامرة لا تخلو من المجازفة, تبدي روسيا ثقة تامة بانتهاء الهيمنة الامريكية. ويميل الزعماء الروس الى النظر الى ازمة امريكا كقوة عظمى بصفتها تكرارا لازمة النفوذ السوفييتي في سنوات الثمانينيات. وحين تشهد موسكو ورطة الولاياتالمتحدة في العراق فانها تسترجع اخفاقها في افغانستان. وتعتبر الصدامات الامريكية مع الاتحاد الاوروبي دليلا على تفكك الامبراطورية الامريكية غير الرسمية. وفي هذا الاطار, فقد رأى الروس في تشكيك جاك شيراك المعلن بحكمة الزعامة الامريكية في قيادة الحرب على العراق اصداء للتحدي الذي طرحه ليخ فاليسا للاتحاد السوفييتي في غدانسك. وبكلمة اخرى, يمكن القول بان ما يشكل المواقف الروسية هو الافتراض بان الدول العظمى ليست مستقرة الى الحد الذي تبدو عليه وان اوضاعها اكثر هشاشة مما يراه محللو توازن القوى الكلاسيكيون. \r\n \r\n لا شك ان ايا من هذه الاستنتاجات لن يكون مريحا للولايات المتحدة التي تعتبر نفسها القوة العالمية الاعظم في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية. كما انه لن يكون مريحا للاتحاد الاوروبي الذي يرى ان القوة في الوحدة والتلاحم, يأتي انبعاث روسيا في وقت اخذت فيه هيمنة امريكا العالمية بالانحدار ويعاني فيه الاتحاد الاوروبي من ازمة ثقة عميقة في الذات. وتهدد التصحيحية الروسية حاليا جوهر النظام العالمي القائم. وهناك مفارقة كبرى في ان الغرب, وهو يواجه التصحيحية الروسية الجديدة, بات يشعر بالحنين الى الاتحاد السوفييتي السابق واذ يتلاشى الحنين الى الخصم المألوف في صفوف الجمهور الروسي, يتصاعد ذلك الحنين في العواصمالغربية كما يقول دبلوماسي فرنسي كبير فإن »التعامل مع الاتحاد السوفييتي كان اسهل من التعامل مع روسيا اليوم. احيانا كان السوفييت صعبين, لكنك كنت تعلم بانهم يعارضون لغرض احراز هدف ما. اما الان, فان روسيا تسعى منهجيا الى اعاقة الغرب في كل امر, وبلا هدف على ما يبدو«. \r\n \r\n وبكلمة اخرى, فان روسيا ليست مجرد قوة تصحيحية, انما هي شيء آخر اكثر خطورة, انها مفسدة كبرى, وهو وصف يلائم تماما افعال الكرملين الاخيرة. والواقع ان روسيا ليست بعد مفسدة الى الحد الذي تريد ان تبدو عليه. فحيثما يسعى الغرب الى العثور على نزعات عدوانية او امبراطورية, فان روسيا تجد العشاشة وعدم اليقين. \r\n \r\n ولهذا, فان شيطنة روسيا لا تجدي نفعا, والاشفاق عليها غير مجد هو الاخر. \r\n \r\n في خلال عشر سنوات, لن تكون روسيا دولة فاشلة لكنها لن تكون, ايضا, ديمقراطية ناضجة. وستظل السياسة الخارجية الروسية مستقلة هدفها تعزيز مكانة روسيا كقوة عظمى في عالم متعدد الاقطاب. وسوف تكون انتقائية في مجابهاتها. وستكون روسيا مندمجة في العالم اكثر مما كانت عليه في اي يوم من ايام تاريخها, كما انها ستظل مرتابة كما كانت ابدا. ومعضلة روسيا الاستراتيجية تكمن في كيفية البقاء مندمجة في العالم في نفس الوقت الذي تؤمن فيه لنفسها المنعة ضد التأثير السياسي القادم من الخارج. ان روسيا قوة عالمية صاعدة لكنها, ايضا, دولة متدهورة. ذلك هو المفتاح لفهم الطريقة التي يرسم بها الكرملين سياساته الخارجية. فالامر بهذه السهولة, وبهذا التعقيد. \r\n