\r\n تسربت على مهل خلال الشهر الماضي تفاصيل واحدة من اكثر الاحداث غموضا في تاريخ النزاع العربي - الاسرائيلي. وعلى الرغم من ان الحقائق المتعلقة بذلك الحدث لم تؤكد بعد, فان ما حدث يحمل مضامين مهمة ليس بالنسبة للمنطقة وحدها انما بالنسبة لقوانين الحرب والضربات الاستباقية التي يحاول الرئيس جورج بوش اعادة تعريفها منذ اعلانه استراتيجية الامن القومي عام 2002 . \r\n \r\n ابتداء, تذمر متحدثون رسميون سوريون من قيام طائرات اسرائيلية باختراق المجال الجوي السوري يوم السادس من ايلول, وتبعا لما قاله اولئك المتحدثون فان الطائرات قد ارغمت على الفرار. بعد ايام قليلة توالت اخبار متفرقة اغلبها جاء من مصادر مجهولة تفيد بان الطائرات قامت باطلاق نيرانها داخل الاراضي السورية. تبعت ذلك روايات اخرى عن اصابة هدف محدد. فما هو ذلك الهدف؟ \r\n \r\n بعد المزيد من المتابعات الصحافية, ظهر ان اقرب الروايات الى المعقول هي تلك التي تقول ان الاهداف السورية المقصودة تتعلق بنشاطات انتاج السلاح النووي وان العاملين فيها يمكن ان يكونوا من مواطني كوريا الشمالية. اشارت تقارير لاحقة الى وجود جدل داخل الحكومة الامريكية عن مدى التقدم الذي بلغته سورية في مجال تحقيق طموحاتها النووية. لكن التقارير اشارت, رغم الجدل, الى ان هذا النشاط هو الذي استهدفته اسرائيل. \r\n \r\n يعود الغموض المحيط بهذا الحادث الى الصمت غير المألوف الذي التزمته اسرائيل وسورية. لكن هذا الصمت ليس السبب الوحيد, اذ صاحبه صمت مطبق آخر من جانب الاسرة الدولية وخصوصا دول المنطقة. هذا النوع من ردة الفعل غير المألوفة هو الجانب الاكثر غرابة في الحكاية كلها ولعله, ايضا, الجانب الافصح قولا. \r\n \r\n عادة, تسارع الدول العربية في المنطقة الى ادانة اي عمل ذي طابع حربي تقوم به اسرائيل حتى لو كان عملا دفاعيا مثل بناء جدار عازل يحميها من المقاومين الفلسطينيين. وعلى الرغم من عدم ارتياح الكثير من الدول العربية من التحالف الناشىء بين سورية وايران, فان اسرائيل تظل العدو, بهذه الدرجة او تلك, في حين تكون سورية, حتى في اسوأ الحالات, شقيقة ضالة. فلماذا اذا هذا الخرس المفاجىء الذي اصاب الدول العربية ازاء هذا الانتهاك للسيادة السورية؟ \r\n \r\n حسب اعتقادي, يشير هذا التحفظ من قبل الدول العربية ومن بقية الاسرة الدولية بما فيها الولاياتالمتحدة واوروبا الغربية الى ان ايا من تلك الدول لم تشعر بعدم الارتياح ازاء ما جرى حتى وان كانت معظم الحكومات تعتقد ان العملية كانت صفعة لطموحات سورية النووية. والواقع ان اية حكومة في العالم تقريبا, وبغض النظر عما تشعر به ازاء اسرائيل, تدرك ان برنامجا سورياً لانتاج السلاح النووي سيجعل الشرق الاوسط والعالم كله مكانا اكثر خطورة. صحيح ان اسرائيل تمتلك بالفعل مثل ذلك السلاح وان هذه الحقيقة تزعج الكثيرين بمن فيهم جيرانها, الا ان قليلين فقط يعتقدون بان العلاج المضاد يكمن في اقامة ترسانة نووية سورية. \r\n \r\n ولا ينفع التفسير المتعاطف مع السجل السوري في التخفيف من الاحتمالات المرعبة التي يمكن ان تجر اليها المنافسة النووية في المنطقة. وقد جلبت توقعات نشوب حرب بين سورية واسرائيل هذا الصيف الكثير من القلق على جانبي الحدود. ويكفي تصور تكرار هذا السيناريو مع حيازة الجانبين للسلاح النووي كي تتضاعف الاخطار المحدقة وتتصاعد درجة القلق. \r\n \r\n لا يوجد بين هاتين الدولتين الصغيرتين المتجاورتين مجال لتطبيق مذهب \"الضربة الثانية\" الذي شكل على مدى عقود الرادع الكافي لمنع اندلاع الحرب بين القوى العظمى. ففي وقت الازمات, يتحتم على الاستراتيجيين في كل طرف ان يحسبوا بعناية فوائد تسديد الضربة الاولى وان يتوقعوا ان يقوم الطرف الاخر بالشيء نفسه. \r\n \r\n يضاف الى ذلك, ان برنامجا نوويا سوريا سوف يدفع باتجاه توسيع رقعة الانتشار النووي. فاحتمالات حصول ايران على قنبلة نووية قد اثارت اهتماما بالبرامج النووية داخل مصر والسعودية وتركيا وغيرها من الدول المجاورة. ولو ان سورية سارت في الاتجاه نفسه, فان الدافع الى تفادي التخلف عن الركب سيزداد قوة لدى الاخرين. \r\n \r\n السؤال الان هو: ما علاقة كل هذا بمذهب بوش الاستباقي؟ على الرغم من ان موقف الرئيس بوش قد استجلب من الانتقادات اكثر مما لاقى من تأييد, فان ثمة جوانب فيه يصعب انكار اهميتها لقد اقترن حق الدفاع عن النفس على الدوام بفهم ضمني لامكانية انطوائه على امكانية الدفاع الاستباقي.. في القرن السابع عشر, كتب الفيلسوف الهولندي هيغو غروتيوس, واضع اساس القانون الدولي, يقول \"من المشروع قتل الشخص الذي يستعد للقتل\" لكن غروتيوس اقر, في الوقت نفسه, بان هذا المبدأ قد يكون خطرا. \r\n \r\n يرى بوش ان \"الاستعداد للقتل\" كان في يوم ما يشمل تحشيد الجيوش التي تستطيع الضحية المقصودة رؤيتها, في حين ان تكنولوجيا اليوم تجعل من الممكن تسديد ضربة مدمرة من دون اية مقومات مرئية. ويجادل بوش بأن الحرب الاستباقية ينبغي, لهذا السبب, ان تفهم وفق منظور اوسع. وهكذا فان بوش قد اعلن اننا لن نسمح لاكثر الانظمة خطورة في العالم ان تهددنا باكثر الاسلحة خطورة في العالم\". \r\n \r\n جادل منتقدو بوش بان ما كان يدعو اليه هو \"الحرب الوقائية\" وليس \"الحرب الاستباقية\" ورأوا بان استخدام القوة لمنع دولة اخرى من حيازة القدرة اللازمة لمهاجمتك يختلف كثيرا عن استخدام القوة لاجهاض هجوم ماثل. وتساءلوا, في حينه, عن الحدود التي يمكن ان تحد استخدام مثل هذا الحق وهو السؤال الذي لم يقدم بوش عليه جوابا لحد الان. \r\n \r\n على الجانب الاخر, لا يتوفر لدى النقاد اي رد على حجة بوش في ان التكنولوجيا الحديثة قد جاءت بخطر جديد يتمثل في توجيه هجمات مباغتة مدمرة لا بد للدول من ان تبحث عن طريقة لحماية نفسها منها. وقد اقرت ندوة الاممالمتحدة الرفيعة حول التهديدات والتحديات والتغيير بسلامة الحجة القائلة بان \"الضرر المتوقع من بعض التهديدات, مثل الارهابيين المسلحين بسلاح نووي, عظيم الى الحد الذي لا يمكن معه المجازفة بالانتظار لحين ظهور تلك التهديدات\". \r\n \r\n لكن الندوة اقرت ايضا بان على الطرف الذي يشعر بكونه مهددا ان يعرض مخاوفه على مجلس الامن. ومع انحياز الاممالمتحدة ضد اسرائيل يصعب على المرء ان ينصح المسؤولين الاسرائيليين بوضع ثقتهم بمجلس الامن. وعلى ضوء العجز التاريخي الذي يعاني منه مجلس الامن, فان دولا قليلة يمكن ان تعتمد عليه اذا ما شعرت بان سلامتها باتت في خطر. \r\n \r\n ان التناقض الذي ارق غروتيوس بشأن الحرب الاستباقية يزداد حدة بمرور الزمن. فقد ادان مجلس الامن الدولي عام 1981 اسرائيل لقيامها بقصف مفاعل اوزيراك لاجهاض البرنامج النووي العراقي الا ان كثيرا من الحكومات شعرت لاحقا بالرضا عن تلك الخطوة التي جردت صدام حسين من بعض مخالبه عندما شن صدام حروبه على ايران والكويت. \r\n \r\n ان الحادث الاخير الذي وقع في سورية يشير الى ان عملية اعادة تفكير تجري بشكل مكثف في الكثير من العواصم. فلو استبعدنا القضية النووية من المشهد وتصورنا ما يمكن ان تكون عليه الحال ازاء تقرير يفيد بان الطائرات الاسرائيلية حلقت فوق سورية وانها قامت, من دون استفزاز من الجانب السوري, بقصف اهداف عسكرية عادية. عندها كان يمكن ان تلوح الدول العربية باسلحتها تساندها في ذلك الدول الاسلامية والدول \"غير المنحازة\" وحتى اوروبا ولكانت الولاياتالمتحدة قد وبخت اسرائيل بلطف وامتنعت عن التصويت على قرار يدين اسرائيل في مجلس الامن. \r\n \r\n لكن ما حصلت عليه اسرائيل بدلا من ذلك هو مجرد لوم شكلي والسبب هو انها قامت بتعطيل سلاح لا يرغب احد في حصول دمشق عليه. \r\n \r\n القانون, الى حد كبير, مسألة ممارسة وعادة وها هو يتغير تدريجيا ليتضمن ميادين جديدة في الدفاع عن النفس. فلو ان القوات الامريكية عثرت على اسلحة نووية او برنامج نووي يقترب من انتاج السلاح النووي في العراق, لكان التقييم الدولي لقرارنا بغزو تلك البلاد مختلفا تماما عما هو عليه اليوم. وقد اظهرت الغلطة الشنيعة التي ارتكبناها بشأن اسلحة الدمار الشامل العراقية المجازفات التي ينطوي عليها المذهب الجديد الذي يقترحه بوش. لكن ذلك لا يقلل من شأن القضية التي كانت وراء صياغة ذلك المذهب. \r\n \r\n ان تطور طريقة تفكيرنا حول مثل هذه القضايا سوف يتصدر الجدل الذي سوف يحتدم عندما تقترب واشنطن من تسديد ضربتها الاستباقية \"او الوقائية\" الى برنامج ايران النووي. \r\n