\r\n أما الخسائر الأخرى، فقد ترتبت على تراجع الإنتاج الإجمالي والدخل العام من الضرائب على القيمة المضافة وانهيار الموسم السياحي ودخل القطاع الخاص منها وتوقف معظم الأعمال. لقد كان من المتوقع أن ينمو الاقتصاد اللبناني بنحو 5 في المائة عام 2006، وذلك مقارنة بمعدل نمو كان يقترب من الصفر عام 2005 بسبب الأزمة السياسية التي نشأت بعد مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. أما تكلفة إعادة الإعمار فستزيد من حجم الدين العام الذي وصل في إبريل (نيسان) الماضي إلى نحو 38 مليارا و600 مليون دولار أو ما يعادل 183 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، والتي تعتبر من أعلى النسب في العالم. أما الحرب، وبغض النظر عن استمرارها لفترة قصيرة أو امتدادها لفترات طويلة، فإنها سترفع من ديون الدولة المزمنة إلى معدلات قياسية جديدة. وحتى في حال توفر الأموال الضرورية لإعادة إعمار لبنان، فإن تكلفة خدمات الديون وضياع الفرصة لاستثمار الأموال المحددة على مشاريع تنموية أخرى سيكونان هائلين. \r\n \r\n أما المشكلة الأكثر صعوبة بالنسبة للاقتصاد اللبناني فتبقى التركيبة السياسية التي تركت تبعات مدمرة على الاقتصاد، ولا سيما أن غياب التوافق السياسي كان السبب وراء فشل الحكومة في إقرار موازنة عامة منذ عام 2004. \r\n \r\n أما الآثار السلبية الأشمل للحرب فستكون على أسعار المواد الاستهلاكية. فالحصار البري والبحري والجوي الذي فرضته إسرائيل على لبنان جعل معظم السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية تختفي خلال الأيام القليلة الأولى للحرب. فندرة السلع المعروضة ستؤدي إلى قفزات هائلة في الأسعار التي كانت أقل من 4 في المائة قبل الحرب مقارنة بنحو 120 في المائة عام 1992. أضف إلى ذلك أن استمرار الأزمة في لبنان سيفرز ضغوطاً على الليرة اللبنانية، والتي يدافع عنها المصرف المركزي بما لديه من رصيد من العملة الصعبة بنحو 13 مليار دولار. وخلال اليوم الأول للحرب، يُعتقد أن المصرف المركزي استخدم نحو 500 مليون دولار لدعم الليرة اللبنانية. كما أن من المحتمل أن يبلغ تراجع الرصيد من العملات الصعبة نحو ملياري دولار. وعلى المديين القصير والمتوسط، فإن نسبة البطالة بين اللبنانيين سترتفع إلى نحو 20 في المائة مقارنة ب10 في المائة قبل اندلاع الحرب. أما الأمر الأكثر مدعاة للقلق فهو هجرة اليد العاملة التي لن تعود إلى لبنان بعد انتهاء الحرب، ولا سيما في وقت تشهد فيه دول مجلس التعاون الخليجي ازدهاراً وتطوراً وتحتاج فيه إلى العمالة الماهرة وغير الماهرة. كما أن نخبة القوى العاملة اللبنانية ستستمر في الهجرة بحثاً عن مصادر للعيش في مختلف دول العالم. \r\n \r\n ويأتي قطاع السياحة على رأس قائمة الضحايا الذين تعرضوا بشكل فوري ومباشر لخسائر فادحة نتيجة للحرب الدائرة على أرض لبنان، علماً أن السياحة تشكل نحو 20 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. وعلى الرغم من أن بيروت لم تستطع أن تقدم نفسها مركزا لحركة الطيران الإقليمية وهو الدور الذي تتطلع تل أبيب للقيام به بعد نجاحات مراكز الطيران الخليجية وقدرتها التنافسية العالية للقيام بهذا الدور. على الرغم من ذلك، فإن من المؤكد أن السياحة هي أحد أهم العوامل الدافعة وراء تطور العديد من القطاعات مثل العقارات والبناء والخدمات المالية. فقد أعلن وزير السياحة اللبناني جوزيف سركيس منتصف مايو (أيار) الماضي أنه يتوقع أن يرتفع عدد السياح الذين سيزورون لبنان إلى نحو مليون و600 ألف سائح، أي بزيادة 45 في المائة مقارنة بالعام الماضي، وأن تصل عوائد هذا القطاع إلى ملياري دولار. لقد أتى معظم السياح الذين توافدوا على لبنان من منطقة الخليج، والذين فضلوه على الدول الغربية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. علاوة على ذلك، فإن دول الخليج العربية ونتيجة للارتفاع الذي شهدته أسعار النفط قاموا باستثمار مبالغ طائلة في مشاريع العقارات وسندات الاسهم. وتقدر بعض الأوساط أن شركات سعودية وإماراتية استثمرت نحو 11 مليار دولار، بالإضافة إلى استثمارات لأفراد من الدولتين تقدر بنحو 3 مليارات و600 مليون دولار في العقارات خلال السنوات القليلة الماضية. ليس من الواضح ما إذا كانت أسعار العقارات ستشهد تراجعاً في هذه المرحلة، وخصوصاً أن اللبنانيين يميلون إلى تجميد عمليات البيع خلال الأزمات الطويلة كما تشهد على ذلك سنوات الحرب الأهلية التي ألحقت دماراً هائلاً بالبنية التحتية اللبنانية. أما إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب الأهلية فقد جاءت بمبادرة من رئيس الوزراء آنذاك رفيق الحريري. فإطلاق مشروع الحكومة «أفق 2000»، والذي رصد له 20 مليار دولار لإعادة الإعمار جعل بيروت تستعيد تدريجياً لقبها القديم بأنها «باريس الشرق الأوسط». لقد اعتمد الازدهار العمراني الذي شهده لبنان منذ تسعينات القرن الماضي على العمالة السورية الرخيصة. فقبل الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، كان هناك ما يزيد على 300 ألف عامل سوري يعملون في لبنان. ولذلك، فإن استمرار الحرب لفترة طويلة سيحرم سورية من أحد مصادر دخلها المهمة. لا بد من الإشارة إلى أن الحكومة اللبنانية لم تعر اهتماماً كافياً لبناء وحدات سكنية لمحدودي الدخل، ولكنها استثمرت بكثافة في بناء الطرق السريعة ومحطات توليد الكهرباء ومطار جديد وتجديد شبكات الاتصال والمياه والكهرباء. لقد أدت الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة إلى تدمير جميع هذه المرافق بدرجات متفاوتة. فالاعتداءات على المرافئ اللبنانية والحصار البحري حرم الحكومة اللبنانية من أحد أهم مواردها، ولا سيما أن 75 في المائة من الضرائب على القيمة المضافة وعوائد الجمارك تأتي فقط من مرافئ بيروت. كما أن قيمة العوائد من ضريبة القيمة المضافة تشكل نحو 37 في المائة من إجمالي دخل الحكومة من الضرائب. وتجدر الإشارة إلى أن قيمة العائدات من ضريبة القيمة المضافة والجمارك تقترب من ملياري دولار في العام، وأن العائدات من مرفأ بيروت تزيد على 5 ملايين دولار في اليوم. \r\n \r\n يبقى تقدير قيمة الخسائر البشرية العملية الأصعب، وخصوصاً أن الخسائر البشرية لا تتوقف عند مجرد التكلفة. فإذا أخذنا بالاعتبار مجرد التعويضات لما يكسبه الشخص في حياته، فإن الحد الأدنى لهذه الخسائر قد يزيد على ملياري دولار. أما معدلات الدخل فستتراجع أكثر مما كانت عليه قبل الحرب، لأن الدمار الذي لحق بالمنازل والسيارات نتيجة لهذه الحرب لا تغطيه شركات التأمين. إن عدداً قليلاً جداً من اللبنانيين لديه تأمين على الحياة يشمل فقرة أو بنداً يغطي خسائر الحروب. ونتيجة لذلك، فإن توزيع الدخل سيتأثر سلباً في دولة شهدت تاريخياً تفاوتاً واضحاً في معدلات الدخل. وتفيد تقارير لجنة الأممالمتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا) بأن 25 في المائة من العائلات اللبنانية تعيش على أقل من 620 دولاراً في الشهر، وأن 5 في المائة من العائلات اللبنانية تعيش في حالة «فقر مدقع»، والتي تعرف عادة بأن دخلها يقل عن 300 دولار في الشهر. وقد أدى الاعتداء الإسرائيلي الأخير على لبنان إلى نزوح مئات الآلاف من المدنيين عن منازلهم، وخصوصاً من المناطق الجنوبية إلى مناطق أكثر أمناً في الشمال. لقد أُجبِر نحو مليون لبناني على ترك منازلهم، الأمر الذي يعني فقدان الشعور بالأمن والسلامة، وما يرافق ذلك من صعوبات في تأمين المسكن والدواء والغذاء وغيرها من متطلبات الحياة. إن بناء قرى سوّيت بالأرض وإعادة الحياة الاقتصادية إلى سابق عهدها سيكونان أحد أهم التحديات التي تواجهها الحكومة اللبنانية. أما الانعكاسات السلبية على عملية تنمية المناطق اللبنانية فستكون هائلة أيضاً، ولا سيما أن المناطق التي تعرضت للقصف ستعاني من نقص في الخدمات والبنى التحتية والمدارس والأبنية. فإذا استغرقت عملية إعادة البناء للمناطق المنكوبة فترات طويلة من الزمن، فإن من شأن ذلك أن يفاقم التفاوت القائم في التنمية الاقتصادية بين المناطق اللبنانية. \r\n \r\n ففي كل مرحلة من مراحل عملية إعادة الإعمار، فإن حزب الله، بالإضافة إلى وجوده في بيروت سيكون حاضراً، الأمر الذي يشكل بالنسبة له معركة جديدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن لبنان بدأ بالتفكك إلى أجزاء صغيرة، كما حصل في فلسطين، نتيجة لتدمير الطرق السريعة الرئيسية والطرق التي تربط مناطق لبنان بعضها ببعض، ولا سيما أن 65 جسراً دمرت جزئياً أو بشكل كامل. ومع تأخر عملية إعادة إعمار شبكة المواصلات، سيتأخر أيضاً تدفق السلع والانتقال السريع للأشخاص، الأمر الذي ستترتب عليه خسائر مادية خلال هذه الفترة. \r\n \r\n أما الخسائر البيئية فلا تقل عن الخسائر المادية الأخرى نتيجة تسرب أكبر كمية من النفط في تاريخ لبنان، فالغارات الجوية التي استهدفت محطات توليد الطاقة في الجية في الثالث عشر والخامس عشر من يوليو (تموز) الماضي أدت إلى تسرب ما يزيد على 10 آلاف طن من وقود النفط الثقيل وأدت إلى تلويث ما يقرب من ثلث الساحل اللبناني. \r\n \r\n وعلى الرغم من مبادرة كل من المملكة العربية السعودية ودولة الكويت بمد يد العون وهو ما يرحب به لبنان قدمت السعودية 500 مليون دولار وقدمت الكويت 300 مليون دولار لدعم جهود إعادة الإعمار، والْتزمت السعودية كذلك في السياق نفسه بوضع وديعة بمليار دولار في المصرف المركزي لدعم الاقتصاد اللبناني فإن المعضلة الأكبر التي تواجه لبنان في هذه الظروف هي الفراغ القائم في قمة الهرم القيادي، والذي أصبح يميز المشهد السياسي اللبناني من ناحية وعودة الجماعات الموالية لسورية من ناحية أخرى. فالاعتداء الإسرائيلي على لبنان سيفاقم من مشهد اليأس السياسي الذي سيؤدي بدوره إلى شلل الاقتصاد اللبناني أو وصوله إلى طريق مسدود. \r\n \r\n *المستشار المالي الأول \r\n \r\n في مركز الخليج للأبحاث \r\n \r\n \r\n [email protected] \r\n