إنها حجرة مليئة بكل معنى الكلمة بمواد ومعدات مصنعة في أرض مفقودة تدعى فلسطين. ومحمود دكوار يحدد معالم كل صورة من صور القدس القديمة وكل قلادة زرقاء وكل خرزة عقد وكل خريطة بقلق حريص. هذا هو دين فلسطين الضائع وآخر بقايا مجتمع متلاشٍ.يمد الرجل يده إلى مكان ما ويخرج قطعتين متلألئتين ومصقولتين ويذهب بهما إلى الخارج لرؤيتهما تحت ضوء الشمس. \r\n \r\n \r\n يرفعهما إلى أعلى ويقول انهما مفتاحا فلسطين، واحد بلون ذهبي والآخر أسود حزين. شخص ما استخدم المفتاح الذهبي ليغلق بوابته الرئيسية في صفد عام 1948 وشخص آخر استخدم المفتاح الأسود لإغلاق مسكنه في الناصرة في العام ذاته وتحوّلا بالطبع إلى لاجئين يحملان هذين المفتاحين والأمل يحدوهما للعودة إلى البيت. \r\n \r\n \r\n لكن الأقفال تبدّلت، والمساكن قد تكون مدمرة والنكبة دفعت 750 ألف شخص إلى الهرب من أراضيهم والبعض منهم يعيش في مساكن حقيرة وأكواخ على امتداد الطريق المؤدي إلى مخيم البص في صور. وعلى بضعة كيلومترات من المتحف يمكن رؤية حدود ما كانت فلسطين وأصبحت الآن إسرائيل. \r\n \r\n \r\n هذا هو متحف فلسطين الأول والوحيد في الوقت الحاضر ومؤسسه والقيّم عليه وحارسه الغيور هو دكوار ذو ال 68 عاماً، أستاذ مدرسة منذ أكثر من عشر سنوات، تحقق بنفسه من أن لا أحد، لا منظمة التحرير الفلسطينية ولا أي من سكان مخيمات اللاجئين المخنوقة ولا حتى أحد المكاتب التي تؤكد تمثيلها للثقافة الفلسطينية، كان قد فتح متحفاً يظهر للفلسطينيين وأبنائهم وأحفادهم ما خسروه عام 1948 وإلام يمكن أن يتوقوا إذا ما عادوا يوماً ما. \r\n \r\n \r\n ثمة ثمانية آلاف مجلد في مكتبة المتحف، الكثير منها وارد من مجموعة دكوار نفسه وهذه تحتوي على ألف و500 كتاب حول فلسطين وألف حول لبنان وثمة عدد أكثر بكثير حول الإسلام واليهودية والمسيحية.نسمة هواء عليل تهبّ في تلك الصالة المدارة من قبل اللجنة الفلسطينية للثقافة والتراث، حيث أنفق دكوار من جيبه الخاص 140 ألف دولار لبناء متحفه كتقدمة نابعة من كرم إنسان يؤمن بأن للتاريخ قيمة أكبر من المال. \r\n \r\n \r\n الصياغة تتبدى بأحلى حللها والقلادات تمثل تاريخ مجتمع زراعي، وكم هو مؤثر أن يُدرك المرء مدى الطابع الريفي الذي كانت عليه فلسطين والصورة التي كانت تحتل فيها الحيوانات والذرة والبلح والزيتون موقع القلب في صناعتها، عندما دخل البريطانيون إلى القدس «وحرروا» المدينة من الإمبراطورية العثمانية. دكوار رسم خارطة لبلدته الواقعة في ضواحي صفد. ينظر الرجل إليها ويقول: «هذه الكتلة التي تحمل الرقم (2) هي بيتي وهنا أصبعه يتحرك بعناية للإشارة إلى محيط المكان كانت حقولنا وبساتيننا». \r\n \r\n \r\n ثمة أكوام من شهادات الميلاد وأذونات مرور لقوة الشرطة الفلسطينية وسندات أراض، كلها أصلية وكلها بدون قيمة تماماً مثلما هو حال الشهادات التعليمية. وهناك أيضاً رخصة لزراعة التبغ في فدان من الأرض وإيصالات إستلام بقيمة 10% مفصولة ومخصصة لدفع الضرائب وشيك صادر عن البنك الزراعي العثماني ورخصة بناء كانت تعود لعم متوف لدكوار. \r\n \r\n \r\n وبالطبع هناك قصص أيضاً، فلقد كان عمر دكوار 11 عاماً عندما استبعدته النكبة وقصة الرعب والهرب والخسارة التي عاشها لابد لها أن تروى بكلماته الخاصة. يقول دكوار أتذكر لحظات حياتي في ذلك الوقت. أتفهمني؟ أتذكر اللحظات، وكل دقيقة وكل ثانية ومن واجبنا تذكرها دائماً. فهذا هو تاريخنا. \r\n \r\n \r\n وتبدأ روايته، على غرار روايات كثيرة أخرى، في خريف 1948 وتحديداً في 29 اكتوبر عندما غادر المدرسة للمرة الأخيرة واستعد لترك فلسطين وهو يقول مسترجعاً تلك اللحظات: «أخذت درسين في مدرستي في بلدة حديثة وحينها كانت قرية عين الزيتون المجاورة قد سقطت بأيدي الاسرائيليين وكان في بلدتنا بعض المقاتلين السوريين المتطوعين وكنا قريبين جداً من مستعمرة يهودية، وعندما حل المساء ذهبت مع والدي إلى جزء من أرضنا، كان بعيداً عن أنظار الناس في تلك المستعمرة، \r\n \r\n \r\n وكان بعض بيوت بلدتنا قد دمر وكنت خائفاً كثيراً حين ذهب والدي إلى البستان لقطف ثمار الزيتون، فلقد كان موسم الحصاد. وقبل مغيب الشمس، رافقت جدي إلى حقولنا، التي كانت واسعة ومن ثم خرجنا باتجاه بلدة جاقولا. يتوقف دكوار عن الكلام ويرفع يده اليمنى فوق رأسه ويقول: «كان هناك طائرات ترمي قنابل على ثلاث قطع أرض لجيراننا وأنا لم أتمكن من رؤية المكان الذي كان فيه والدي وبكيت وكان هناك سيدة مسيحية تدعو الله أن ينقذنا واختبأنا خلف سور \r\n \r\n \r\n وأنا كنت أسأل بشكل متكرر أين والدي وسمعت أن بعض رفاقي في المدرسة كانوا قد ماتوا بسبب القنابل. وبعد مرور وقت قصير وصل والدي يوسف وقال لنا إن قنبلة سقطت بالقرب منه. كان لوالدي بغلاً لحمل الزيتون وسألته إذا ما كانت والدتي قد ماتت أم لا وأجابني بأنها كانت مع نساء أخريات في أحد الوديان خلف البلدة. \r\n \r\n \r\n وسمعنا بكاءً قادماً من البساتين الكبيرة بالقرب من الكنيسة. فلقد مات الكثير من الناس وقطعت رؤوس بعضهم بسبب شظايا القذائف. وسمعنا صوت نيران المدفعية وخرجنا من البلدة باتجاه الوادي مشياً على الأقدام بالطبع، ومن ثم بدأت تسقط قنابل على الوادي وبدلنا الاتجاه لنسير نحو الشمال باتجاه الحدود اللبنانية، حيث وصلنا فجر الثلاثين من أكتوبر». \r\n \r\n \r\n وصلنا إلى قرية يارون، ومن ثم ذهبنا إلى بنت جبيل، حيث التقينا بالكثير من الفلسطينيين الجالسين تحت الأشجار، كما التقيت برفيق من المدرسة مغطى بالدم وسألته: «ما الذي جرى لك؟» قال لي إن قنبلة أسقطتها إحدى الطائرات قتلت والدته، كما مات شقيقه الأصغر الذي كان في تلك اللحظة بين ذراعي أمه، فضلاً عن أن شقيقته قد أصيبت بجراح». \r\n \r\n \r\n بعد ليلتين من السير تحت أشجار بنت جبيل، أخذ يوسف ولطيفة دكوار محمود وشقيقه الأكبر وشقيقته الكبرى إلى بلدة جويا اللبنانية، ويقول: «سافرنا بالشاحنات مع ألف عائلة تلك الليلة ومن ثم نمنا تحت أشجار التين في جويا، حيث لم نكن نعرف جيداً وبقينا يوماً كاملاً تحت تلك الأشجار.لم يكن لدينا لا أصدقاء ولا أقارب، لكن اللبنانيين كانوا لطفاء وكرماء للغاية معنا، وأعدوا لنا الطعام والخبز. وفي تلك اللحظة أصبحنا لاجئين كان لنا أراض وحقول وبيت في فلسطين، لكن الآن لا نملك سقفاً ولا غذاء ولا شيئاً». \r\n \r\n \r\n يروي دكوار قصة حياته بتسلسل زمني، حيث عمل لصالح وكالة العمل الإنساني التابعة للأمم المتحدة طوال 44 عاماً، منذ كان عمره 16 عاماً إلى أن بلغ الستين كأستاذ ومدير لمدرسة في مخيم اللاجئين «برج الشمالي» في الجنوب اللبناني. ويتابع سرد قصته ويقول: «حاولت إثراء مكتبة المدرسة بمجموعتي الخاصة. \r\n \r\n \r\n فلقد كانت أشتري الكتب دائماً كلما كنت أذهب إلى مصر أو سوريا وضعت مكتبتي تحت تصرف المعلمين والتلاميذ وكل من أبدى اهتماماً بها، من فلسطينيين أو لبنانيين. وفي عام 1989، زرت متحفاً في دمشق ودهشت من أنه لم يكن يحتوي على شيء يمثل فلسطين. \r\n \r\n \r\n وهكذا عندما عدت إلى لبنان، زرت أساتذة آخرين من المدرسة التي كنت أعمل فيها وقلت لهم إني سأفتح معرضاً حول فلسطين ما قبل عام 1948 وكان ذلك في عام 1990». «ملأنا خمسة صفوف دراسية بأغراض من فلسطين وعرضناها على جميع التلاميذ، الذين قلت لهم: «هذه هي فلسطين» وكانوا جميعاً مشدوهين، ويؤسفني القول إننا فقدنا بعض تلك الأغراض. \r\n \r\n \r\n لكني قررت حينها بناء متحف فلسطين خارج فلسطين». وشكل دكوار لجنة مكونة من رجال ليست لهم ارتباطات سياسية (وهي صيغة مؤسسية مرغوبة كثيراً في كل العالم العربي) وهو يقول بصددها: «وضعت كل مكتبتي تحت تصرفها، كي تخدم كمكتبة عامة وذهبت إلى مخيمات أخرى للاجئين وإلى أوروبا والولاياتالمتحدة لشراء أغراض من فلسطين واضطررت في الولاياتالمتحدة لشراء عملات فلسطينية كانت باهظة الثمن. \r\n \r\n \r\n ولقد شيدنا هذه القاعة العام الماضي وهكذا أصبح المتحف موجوداً الآن وكل الناس مرحب بهم فيه». نسيم الهواء المنعش يحرك الأوراق الموجودة فوق الطاولة الكبيرة، إلى جانب الكتب الفلسطينية وخريطة قرية دكوار، المرسومة من الذاكرة في عام 1996، والتي تشير إلى «جسر بير الشيخ» الواقع على نهر قريب من أحد بساتين العائلة ويقول: «يوماً ما سنعود للعيش في بلدتنا. ربما لن أفعل ذلك أنا بالذات، لكن أبنائي سيعودون إليها، سيعودون إلى قوم وإلى موطن للجميع، عرباً ويهوداً معاً، مثلما هي العادة». \r\n \r\n \r\n إنه الحلم العائلي أو الذي أصبح عائلياً، لابل انها الميثولوجيا القسرية، التي صنعها الانتداب البريطاني في فلسطين، التي عاش فيها المسلمون واليهود سعداء معاً، حيث لم يكن هناك ثورة عربية ولا أطماع صهيونية ولا استراتيجية امبريالية ولا اضطرابات ولا أعواد مشانق ولا قتلى ولا قصف جوي. الإسرائيليون فازوا. والعرب الفلسطينيون خسروا واليوم، عندما يصرون على امتلاك سلطة على 22% من فلسطين، يواصلون الخسارة. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n