بالنسبة للكثيرين فإن هذه لا يمكن إلا ان تكون أخباراً جيدة، لكني أخشى ان يكون اقحام الغليان السياسي في هذه الدولة الفقيرة في وسط آسيا ضمن هذا التوجه الراهن هو أشبه بحشر فيل في جلد غوريلا. \r\n \r\n \r\n دعنا نفكر في الحقائق التالية. الرئيس الجورجي ادوارد شيفرنادزة أطيح به من السلطة، حين اقتحم الألوف من المتظاهرين المنظمين البرلمان، وطالبوا بوضع نهاية للفساد. أما في قيرغيزستان، فقد انتهى حكم أكاييف الذي دام 15 عاماً، حينما تجمع حشد غير متجانس من 20 ألف شخص، وبدأوا يصرخون ذلك اليوم في ساحة ألاتو في بيشكيك «أكاييف قذر!» ثم انطلقوا ينهبون لا المبنى الحكومي الرئيسي فحسب بل الأسواق والمقاهي والمطاعم والصالونات وأجهزة الصراف الآلي. \r\n \r\n \r\n وعلى النحو نفسه تمرد الأوكرانيون على انتخابات مزورة، الهدف منها تنصيب المرشح المفضل لموسكو في سدة الرئاسة، أما الحشود في قيرغيزستان فلم يكونوا يتظاهرون ضد انتخابات برلمانية غير سليمة في فبراير ومارس، وإنما كانوا يترجمون إحباطهم من الحالة الاقتصادية المتردية لدولة معتمدة على العملات الأجنبية المتحصلة إلى حد كبير من منجم ذهب وصيد وقاعدتين عسكريتين أجنبيتين، إحداهما روسية والأخرى أميركية. \r\n \r\n \r\n وفيما كان قادة المعارضة في جورجيا وأوكرانيا يمثلون الطموحات بتحقيق استقلال حقيقي، وقدموا برامج منسجمة، فإن قادة المعارضة القرغيزستانية كلهم كانوا رفاقاً سابقين لأكاييف وانفضوا عنه بسبب رغبتهم في المزيد من السلطة. \r\n \r\n \r\n إذن فما يحدث في قيرغيزيا ليس إعادة تشكيل بقفازات مخملية أو بثورة أخرى من الألوان المنسقة. الصراعات الجوهرية في وسط آسيا هي اقتصادية وإقليمية اكثر منها سياسية، وهذه الصراعات مرشحة اكثر للتأزم من التراجع بفعل القلاقل الراهنة. \r\n \r\n \r\n الجنوب القرغيزستاني وهو مسرح السياسات القبلية التقليدية والذي يتجذر فيه توجه إسلامي شبه علماني وتهيمن عليه أغلبية أوزبكية كبيرة هو مهد ما يدعى بالثورة، وقد شعر على امتداد فترة طويلة بالنقمة على هيمنة الشمال الصناعي ذي الصبغة الروسية الأقوى. الجنوبيون تدفقوا بالمئات على بيشكيك، مطالبين بحصة أكبر في الغنيمة الوطنية الصغيرة. \r\n \r\n \r\n غير أن القيادة الجديدة من غير المتوقع أن تتيح لهم قدراً كبيراً من الرضا، لأن أياً من النخب الإقليمية لم يسبق أبداً ان أظهرت كثيراً من الاهتمام بالشعب، ففيما تشق النخب الشمالية الثرية الطريق إلى المنتجعات التركية وجيوبها مليئة بالأموال التي كسبتها من الهيمنة على الصناعة، تبني النخبة الجنوبية المنغلقة على نفسها القصور بالدولارات التي تكسبها من تهريب المخدرات بين أفغانستان وروسيا، وفي المقابل يقل معدل دخل الفرد عن دولار واحد في اليوم فيما تزيد البطالة في الكثير من أنحاء البلاد على 50 في المئة. \r\n \r\n \r\n القائم بأعمال الرئيس الجديد كرمانبيك باكييف أسند منصب وزارة الخارجية إلى روزا اوتونباييفا التي شغلته مرتين في السباق، وهو أمر لا يجعل المراقبين يشعرون بالتفاؤل، فالمؤهل الرئيسي لأوتونباييفا قبل دخولها سلك الدبلوماسية هو أنها شغلت منصب رئيسة قسم المادية الجدلية في جامعة قيرغيزستان، وهي وظيفة حصلت عليها لتميز رسالة الدكتوراه التي قدمتها بعنوان: «نقد تزييف الجدلية الماركسية اللينينية في مدرسة فرانكفورت». \r\n \r\n \r\n وحتى فيلكس كولوف زعيم المعارضة الذي أطلق سراحه من السجن ليقابل بالترحاب من جانب الغرب ليس لديه الكثير من المؤهلات لتعزيز ادعاءاته الديمقراطية وحين كان نائباً لوزير الداخلية في الأيام الأخيرة من عمر الاتحاد السوفييتي، كان هو الذي قاد القوات التي قتلت عشرات المتظاهرين، وهم يقتحمون مركزاً للشرطة وبعدها أعيد تعيينه مسؤولاً عن قوى الأمن القيرغزستانية. \r\n \r\n \r\n وليس قادة أحزاب المعارضة هم الذين يتناحرون بين بعضهم البعض فقط، بل شهدت الفترة الأخيرة أيضاً اجتماعين لبرلمانيين متنافسين في طابقين من المبنى نفسه وقدما الزعم نفسه بتمثيل كل منهما للشعب وقد حسم هذا الخلاف لمصلحة البرلمان الذي كان مؤيداً لأكاييف وانتخب في الانتخابات العامة الاخيرة التي أثارت النزاع. \r\n \r\n \r\n وفيما يتقافز الأثرياء والطموحون نحو السلطة، يحصن أهالي بيشكيك أنفسهم، ويتهمون من سموا أنفسهم متمردين من الجنوب بتخريب مدينتهم، ويعبرون عن ازدرائهم لمن يرونهم فلاحين أميين، هذا الانقسام طويل الأمد بين شطري البلاد الذي يصلهما طريق واحد غالباً ما يكون من الصعب عبوره فوق الجبال قد تأزم أكثر من السابق. قلة في قيرغزستان تعيش ألق الأمل الذي أنار أوكرانيا في ديسمبر الماضي ومثلما قال لي صديق في بيشكيك في رسالة بعث بها لي: «هذه ليست ديمقراطية، انها مجرد تجمهر». \r\n \r\n \r\n