تثبت الأزمة السياسية الطاحنة التى شهدتها قرغيزستان- الدولة الواقعة فى آسيا الوسطى- والتى أسفرت عن إطاحة المعارضة بنظام الرئيس القرغيزى كرمان بيك باكييف أن «التاريخ يعيد نفسه»، حيث تجرع باكييف من الكأس نفسها التى سقى منها سلفه عسكر أكاييف- أول رئيس لقرغيزستان بعد الحقبة السوفيتية- قبل 5 سنوات، حينما كان باكييف فى صفوف المعارضة وأطاح بسلفه باحتجاجات مماثلة اتخذت اسم «ثورة السوسن» أيضاً، حيث يتهم خصوم الرئيسين كلا من باكييف وأكاييف بالفساد وتركيز السلطة فى أيدى المقربين منهما. ففى ختام يوم طويل من العنف الدموى، نجحت المعارضة القرغيزية أمس الأول فى الإطاحة بنظام باكييف، والسيطرة على مراكز السلطة، كما أكدت المعارضة أن القوات المسلحة وحرس الحدود تحت سيطرتها أيضا، وذلك بعدما اقتحم أنصارها مقرى الرئاسة والبرلمان فى العاصمة بشكيك ومنشآت رسمية أخرى فى أنحاء البلاد، واشتبكوا مع القوات الحكومية، ما أدى إلى مقتل عشرات (68 بحسب وزارة الصحة، و100 بحسب المعارضة)، بينهم وزير الداخلية مولود موسى كونجانتييف، وجرح نحو 530 آخرين. وفى نهاية اليوم المدوى، قالت المعارضة إن الحكومة قدمت استقالتها بعد مفاوضات مع أحد قادتها، بينما غادر باكييف العاصمة إلى الجنوب على متن طائرة، وشُكلت حكومة جديدة برئاسة وزيرة الخارجية السابقة روزا أوتونباييفا، فيما يسود هدوء نسبى فى الوقت الراهن بقرغيزستان، بينما لاتزال عمليات النهب متواصلة، بعد أن كان مجهولون نهبوا وأحرقوا منزل باكييف فى بشكيك، بحسب وكالة انترفاكس الروسية. من جهتها، وعدت الحكومة الانتقالية التى استولت على السلطة عقب انتفاضة شعبية، بتنظيم انتخابات رئاسية خلال 6 أشهر، كما أعلنت أنها ستحل البرلمان، مؤكدة أن باكييف يسعى لحشد مناصريه فى جنوب البلاد. وقالت أوتونباييفا إنها تتول مهام الرئيس والحكومة وإن «السلطة تحت سيطرة الحكومة الانتقالية. وستعمل هذه الهيئة السياسية لمدة 6 أشهر من أجل إعداد دستور جديد وتنظيم انتخابات رئاسية مطابقة لكل القواعد الديمقراطية»، وتعهدت بأن حكومتها لن تكرر أخطاء باكييف، الذى أوصلته الثورة إلى السلطة عام 2005 قبل أن يتخلى عنه أنصاره بعد وقت قصير، متهمين إياه بالتسلط وتزوير الانتخابات وإسكات وسائل الإعلام المستقلة وتوزيع المناصب والمنافع على أفراد عائلته. وبينما قال مصدر بوزارة الدفاع إن باكييف انتقل إلى مدينة أوش الجنوبية، أعربت أوتونباييفا عن اعتقادها بأن الرئيس فر إلى أوش، ثم انتقل بعد ذلك إلى جلال أباد مسقط رأسه فى الجنوب، وأوضحت زعيمة المعارضة أن باكييف لم يتنح عن منصبه بعد، وأن المعارضة تحاول ملاحقته للتفاوض معه وإقناعه بتقديم استقالته، فيما قال شهود إن 2000 من خصوم باكييف سيطروا أمس على المبنى الحكومى فى أوش واشتبكوا مع أنصار الرئيس. وشهدت هذه الجمهورية السوفيتية السابقة الواقعة فى آسيا الوسطى، والتى تؤوى قاعدة جوية أمريكية أساسية للعمليات العسكرية فى أفغانستان فضلا عن قاعدة عسكرية روسية، تعاقب أزمات سياسية متتالية بسبب الفقر وارتفاع الأسعار وتفشى الفساد، إلا أن الأزمة الراهنة تتخذ بعداً خارجياً أيضاً، حيث يرى بعض المحللين أن روسيا تقف بشكل أو بآخر وراء ازدياد حالة الغليان فى قرغيزستان، رغم أن رئيس الوزراء الروسى فلاديمير بوتين نفى فى وقت سابق أى دور لبلاده فى الاشتباكات بين القوات الحكومية وآلاف المحتجين فى قرغيزستان، لكنه عرض مع ذلك تقديم مساعدة روسية لقرغيزستان خلال مكالمة هاتفية مع أوتونباييفا، بينما أعلن رئيس أركان الجيش الروسى أن بلاده أرسلت نحو 150 مظليا إلى قاعدتها العسكرية فى قرغيزستان لحماية عائلات الجنود الروس هناك. ووسط حالة التململ فى صفوف الشعب القرغيزى من الأوضاع السياسية والاقتصادية فى بلادهم، عمدت روسيا ابتداءً من 1 أبريل إلى إيقاف التجارة التفضيلية مع بشكيك التى تشترى النفط والغاز الروسى بأسعار تشجيعية، ما أدى إلى زيادة أسعار الوقود بنسبة 3% فى ليلة واحدة (ليلة 5 6 أبريل)، وهو ما انعكس على كل الحاجات الأساسيّة فى البلاد، خصوصاً الكهرباء والتدفئة. أما السبب وراء هذا القرار الروسى المفاجئ، فيعزوه البعض إلى غضب فى موسكو من باكييف، الذى وعدها بإغلاق القاعدة العسكرية الأمريكية التى تقع فى مدينة ماناس فى شمال البلاد وتستخدمها القوات الأمريكية منذ 2001 فى حربها ضد أفغانستان. كذلك ترددت فى الشهر الماضى أنباء عن مطالبة بشكيك موسكو ببدل مالى لقاء استخدامها قاعدة «كانط» العسكرية خارج العاصمة. من جهة أخرى، تمس الاضطرابات السياسية فى قرغيزستان مصالح الولاياتالمتحدة التى أعربت عن «قلقها الشديد» من الأوضاع فى هذا البلد، حيث ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، أمس، أن الجيش الأمريكى ينظر بحذر إلى الانتفاضة القرغيزية باعتبار أنها ربما تضر القاعدة العسكرية الأمريكية الموجودة هناك. لكن زعيمة المعارضة سعت لطمأنة واشنطن، مؤكدة أن الإطاحة بباكييف لن تؤثر على عمل قاعدة «ماناس» العسكرية التى يمر عبرها معظم الجنود الأمريكيين المنتشرين فى أفغانستان، وقالت: «لن يتغير شىء».