ومن المفيد أن نشير إلى أن البنك الدولي قد تم تأسيسه بعد الحرب العالمية الثانية من أجل تعزيز مفاهيم \"الصفقة الجديدة\" التي ابتدعها الرئيس \"فرانكلين روزفلت\" في الثلاثينيات من القرن الماضي عبر تبني فكرة الاقتصاد المختلط في شكل مؤسسة عامة لإدارة الاقتصاد العالمي تهدف إلى جلب الاستثمارات إلى الدول التي تواجه المخاطر جنوب خط الاستواء. وبمرور السنوات انتهى البنك الدولي إلى صورة بينة الاختلاف، ففي أواخر حقبة الخمسينيات اقتنع خبراء التنمية بفكرة أن الدول الاشتراكية هي المكان الأنسب لاحتضان ورعاية التنمية حيث قال \"جونار مايروال\" الاقتصادي السويدي المعروف في عام 1956 الذي فاز بجائزة \"نوبل\" في وقت لاحق: \"إن جميع مستشاري الدول النامية الذين عكفوا على دراسة المشكلة أوصوا بأن التخطيط المركزي يجب أن يتوفر كشرط أول لتحقيق التقدم في هذا المجال\". ولكن هذه الفكرة الحمقاء لم تؤد فقط إلى إلحاق أضرار جسيمة بالدول التي تحتاج إلى المساعدات بل أفضت أيضاً إلى إثراء النخب المستفيدة من هذه القروض في دول العالم الثالث. وخلال السنوات الأولى لنشأته كان البنك الدولي أكثر حذراً في إقراض الدول الفقيرة بأموال كبيرة الحجم. ولكن في خلال فترة \"ماكنمارا\" التي امتدت من عام 1968 إلى 1981 بدا من الواضح أن البنك الدولي قد تخلى نهائياً عن هذا الحذر، إذ سرعان ما شرع \"ماكنمارا\" في تبني منهج المحاسبة والعقاب في البنك الدولي، حيث اعتقد أن تقديم المزيد من الأموال كقروض من شأنه أن يعزز فعالية البنك الدولي. لذا فقد شهدت فترته إسرافاً هائلاً في عملية الإقراض أغرقت العديد من الدول النامية في ديون بمليارات الدولارات، ولكنها ساعدت أيضاً في تعزيز الأنظمة الديكتاتورية في أثيوبيا وموازمبيق، وأهدرت كميات كبيرة من الأموال في بناء الطرق والمصانع سيئة السمعة. بل إن \"ماكنمارا\" لم يكن يفرق بين الأنظمة الديمقراطية وتلك الشمولية المستبدة. حيث كان \"جوليوس نايريري\" في تنزانيا من أكثر الذين تقدم إليهم المساعدات. \r\n \r\n وعلى الرغم من أن قوى اليسار قد لجأت مؤخراً إلى استئناف هجومها على البنك الدولي كمؤسسة درجت على استغلال دول العالم الثالث، إلا أن المحافظين الجدد من جانبهم قد بدأوا في شن انتقادات هي الأشرس من نوعها منذ عقود طويلة على البنك الدولي. وبينما اعتبر اليساريون أن البنك يعمل كأداة للرأسمالية، ظل المحافظون الجدد يدعون أن البنك قد فشل حتى في الاضطلاع بهذا الدور. وكان الأستاذ \"بي. تي باور\" الأستاذ في جامعة لندن للاقتصاد (الذي تأثر به دانييل باتريك موينيهان والعديد من المحافظين الجدد في أميركا والليبراليون في معهد كاتو وأماكن أخرى) أول من حذر من الأفكار التي روج لها خبراء التنمية. وحتى قبل وقت طويل من القبول بهذه الفكرة أعلن \"باور\" عن أن السوق الحرة والملكية الخاصة وحكم القانون هي مفاتيح التنمية. وكشفت دراساته الخاصة بالتجارة في غرب أفريقيا عن أن استلام القروض والمساعدات أمر يلحق أضراراً جسيمة بهذه الدول لا تقل عن الأضرار التي تتسبب فيها برامج الإعانات الدولية. وخلص إلى أن الدول أحوج ما تكون إلى الأسواق الخارجية وليس إلى المنح والصدقات. وأخيراً شهدنا كيف أن \"نيكولاس ايبرستات\" الأستاذ في \"أميركان انتربرايز انستيتيوت\" قد مضى إلى خطوة أبعد من ذلك وهو يطالب بضرورة خصخصة البنك الدولي نفسه. \r\n \r\n وتحت قيادة الرئيس الحالي \"جيمس وولفينسون\" الذي تقلد منصبه في عام 1995 بدا البنك الدولي في التحول من سياسة منح القروض الكبيرة الحجم إلى تبني سياسة بناء السدود والخزانات والطرق العلوية. ولكن \"وولفينسون\" وقع في خطأ معارضته الشديدة للمقترحات الخاصة بمنح الدول الفقيرة التي في أمس الحاجة للمساعدات دفعات مالية فورية. وهنا فإن \"وولفوفيتز\" بوصفه ليس أحد خبراء التنمية المحترفين سيصبح بإمكانه تقويم هذه الأخطاء وإحداث التغيير المأمول في هذه المؤسسة التي عانت كثيراً من الفوضى وهو الأمر الذي يرغب فيه الرئيس بوش. والآن وقد جاء هذا التعيين في أعقاب تسمية \"جون بولتون\" كسفير للولايات المتحدة لدى الأممالمتحدة فمن الواضح أن الرئيس بوش بات يأمل في تحدي المؤسسات الدولية العملاقة التي ظلت لعقود طويلة تدعم الأنظمة الديكتاتورية في العالم الثالث. وعبر ما يتسلح به \"وولفوفيتز\" من أيديولوجية وأفكار أصبح بإمكانه إجبار البنك الدولي على السير في تعزيز الديمقراطية. ومن السذاجة بمكان الادعاء بأن \"وولفوفيتز\" يفتقد إلى الديبلوماسية في الشؤون الدولية فقد عمل ليس فقط في وزارة الخارجية إبان إدارة الرئيس \"ريجان\" بل تقلد أيضاً منصب سفير الولاياتالمتحدة لدى أندونيسيا حيث اكتسب خبرة قيمة في المفاوضات الخاصة بمنح المساعدات. وأصبح يتعين على \"وولفوفيتز\" أن يبدأ خطواته الأولى باستبدال القروض بالمنح وتشجيع الدول الغربية على إعفاء ديونها الحالية. ولكن أكبر اختبار سيواجهه \"وولفوفيتز\" هو كيفية اكتساب القبول به في هذا المنصب ليس من قبل دول العالم الثالث فقط وإنما من دول العالم القديم أيضاً. فالأوروبيون ما زالوا منزعجين من فكرة تعيين \"بولتون\" أحد غلاة المحافظين الجدد في الأممالمتحدة وربما يرغبون في إفشال تعيين \"وولفوفيتز\" كرئيس للبنك الدولي. ولكن من الخطأ الحكم على \"وولفوفيتز\" بسبب ما حدث في العراق نظراً لأن هذا الرجل الذي ظل على الدوام يهاجم وينتقد أسلوب \"ماكنمارا\" التكنوقراطي ربما يصبح المرشح الأكثر مقدرة على معالجة هذه المؤسسة المتهالكة التي بدت وكأنها قد استنفدت الأهداف المرجوة منها. \r\n \r\n جاكوب هيل بران \r\n \r\n كاتب ومحلل سياسي أميركي \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\" \r\n