ولم أكن أتخيل أنني سأقضي الشهور الأولى في منصبي، في مساومات مع زملائي من وزراء خارجية الدول حول مبلغ يعتبر تافها نسبيا. بيد أن ذلك بالضبط هو ما كنت أقوم به ولا أزال. وفي الحقيقة أن \"منظمة الأمن والتعاون في أوروبا\" سوف تواجه حالة من الشلل في بحر الشهور القليلة القادمة، لأننا فشلنا حتى الآن في الاتفاق على ميزانية 2005 الخاصة بالمنظمة، كما فشلنا في تحديد الأنصبة التي ستساهم بها الدول الأعضاء في تلك الميزانية مستقبلا. والمبالغ التي يتم الاختلاف بشأنها هي مبالغ صغيرة حيث لا تتجاوز ميزانية المنظمة 180 مليون يورو سنويا (228 مليون دولار)، وهو مبلغ لا يزيد على 4 في المئة من ميزانية ولاية كولومبيا. والمنظمة التي تعمل بموجب ترتيبات مؤقتة للميزانية، غير قادرة على تدشين أية أنشطة جديدة، أو إنجاز المبادرات المهمة... وهو شيء محرج وغير معقول في آن واحد. \r\n \r\n والخلافات حول الميزانية، تخفي وراءها بالطبع خلافات سياسية جوهرية تتجاوز بكثير إطار المنظمة. فالاتحاد الروسي وبعض أعضاء \"كومنولث الدول المستقلة\"، يذهبون إلى أن المنظمة تستخدم معايير مزدوجة، وأن الطريقة التي تقوم بها بمراقبة الانتخابات معيبة، وأن الجزء الأكبر من اهتمامها ينصرف إلى موضوع حقوق الإنسان، أما موضوع الأمن فلا يحظى بالاهتمام الكافي. \r\n \r\n بيد أن الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، من جهة أخرى، يبدوان مقتنعين بشكل عام بالاكتفاء بالتركيز على \"البعد الأمني\" أي تأييد حقوق الإنسان ومراقبة الانتخابات، وهما نادرا ما يحضران معهما أية موضوعات سياسية أو عسكرية لطاولة المفاوضات. \r\n \r\n إنني أشعر بأن هناك تصلبا في الرأي لدى كافة الأطراف، كما أنني أسمع أسلوبا خطابيا، يذكر بذلك الذي كان سائدا إبان الحرب الباردة. وإذا ما استمر الوضع المتأزم الحالي، فإن مصداقية المنظمة وبقاءها ذاته سيتعرضان للخطر. هل هذا يهم؟ إنني أعتقد جازما أنه يهم. \r\n \r\n بدأت منظمة\" الأمن والتعاون في أوروبا\" في سبعينيات القرن الماضي في صورة سلسلة من الاجتماعات بين كتلتين متعارضتين، كانت لدى كل منهما القوة لمحو الأخرى من الوجود، ووفرت المنظمة في ذلك الوقت منبرا تم من خلاله بناء الثقة ببطء وعناء. \r\n \r\n وكانت محصلة ذلك، التوصل إلى سلسلة من الاتفاقيات البارزة التي كانت الأولى منها في هلسنكي، وهي تلك التي اختصت بإجراءات بناء الثقة الرامية إلى تقليص خطر الحرب، والتوصل إلى معايير جديدة مشتركة لحقوق الإنسان والانتخابات الديمقراطية. ومما لاشك فيه أن عملية هلسنكي قد لعبت دورا مهما في المساعدة على وضع نهاية سلمية للحرب الباردة. \r\n \r\n وبعد سقوط الشيوعية، قام قادتنا بإعادة اختراع المنظمة، كمنظمة عملياتية تمتلك شبكة من المكاتب الميدانية. وطيلة عقد التسعينيات من القرن الماضي لعبت المنظمة دورا مهما في منع الصراعات من القرم وحتى جنوب البلقان، كما قدمت يد العون في جهود إعادة التأهيل في أعقاب الصراعات، في أماكن عديدة مثل كوسوفو، وطاجيكستان، وجورجيا. \r\n \r\n لقد حققت المنظمة الكثير من خلال ميزانية محدودة، ولكن كونها منظمة تضم الولاياتالمتحدة الأميركية، وكندا، وروسيا، وكل أوروبا، والاتحاد السوفيتي السابق كأعضاء متساوين، يعني أنه كان بمقدورها تحقيق الكثير، خصوصا لو تمكنت الدول المشاركة فيها من تجميع الإرادة السياسية، التي تمكنها من أداء وظيفتها على النحو الصحيح. \r\n \r\n والدول التي تمر بمرحلة انتقالية الآن تلح في المطالبة بالاستفادة من الخبرات التي يمكن أن تقدمها المنظمة في تدريب قوات الشرطة. فكل الدول ترغب في تعزيز قدراتها في مجال مقاومة الإرهاب، وهو ما تستطيع المنظمة توفيره من خلال تجميع الخبراء المتخصصين في حماية المطارات من الصواريخ التي تطلق من فوق الكتف، وجعل مسألة تزوير جوازات السفر أكثر صعوبة. هذه بعض من الخدمات، التي تستطيع المنظمة أن تقدمها لدول العالم التي تعاني جميعها من ويلات تهريب البشر، والجريمة المنظمة، وعدم التسامح الديني والعرقي. \r\n \r\n ومع ذلك فإن الكثير من دول المنظمة تبدو وكأنها تنظر إلى مسألة فقدان النفوذ من قبل المنظمة بلامبالاة، بدليل أن قادة دولنا لم يقوموا بعقد قمة منذ 1999. إذن ما الذي يتعين عمله في هذا الشأن؟ \r\n \r\n أولا أن تقوم روسيا بالتوقف عن إعاقة الميزانية، وأن تنخرط بشكل إيجابي في محاولات تحريك المنظمة في الاتجاه الصحيح من خلال المفاوضات. ويجب عليها كذلك أن تلعب دورا نشطا في أعمال المنظمة، من خلال إرسال المزيد من الجنود الروس إلى مهام ميدانية، وتقديم المزيد من مراقبي الانتخابات، وتوفير المزيد من المرشحين من ذوي الحيثية للمناصب العليا. \r\n \r\n ثانيا، يجب على كل من الولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي أخذ الهموم الأوروبية بجدية.. كما يجب عليهما التوقف عن التصرف بفوقية مع شركائهما، مع الاعتراف بأنه ليست كل الدول الغربية ديمقراطيات كاملة، تخلو من سجل انتهاكات حقوق الإنسان. ويجب عليهما بذل المزيد من الاهتمام للبعد السياسي- العسكري من الأمن، دون إضعاف دور المنظمة في مجال حقوق الإنسان، والتوقف عن معاملة المنظمة كما لو أنها لا تزيد على كونها منظمة غير حكومية. \r\n \r\n ثالثا، يجب على جميع الدول الأعضاء في المنظمة تخصيص اهتمام سياسي على مستوى عال للمنظمة، مع العمل على استخدامها كأداة أمنية فعالة، وهو الغرض الذي تم إنشاؤها من أجله. فالاكتفاء بالكلام دون الفعل في هذا الشأن لم يعد كافياً. \r\n \r\n \r\n ديميتري روبيل \r\n \r\n وزير خارجية \"سلوفينيا\" ورئيس مجلس إدارة مكتب \r\n \"منظمة الأمن والتعاون في أوروبا\" \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\"