والمعروف أن التحالف الأوروبي يبذل جهوداً لإقناع إيران بعدم تطوير الأسلحة النووية, وبالمكاسب التي ستعود عليها, جراء تخليها عن هذه الأسلحة. إن صحت هذه الأخبار, فسوف تمثل تطوراً إيجابياً كبيراً في دوائر إدارة أميركية, عرف عنها حتى الآن, ميلها إلى القوة بدلاً من لجوئها إلى الدبلوماسية التي تتهمها بالضعف. فماذا حدث يا ترى؟ أهي زيارة واحدة فحسب, إلى كل من بروكسل ومينز وبراتيسلافا, وقد سحرت مارس \"إله الحرب\", وهوت به صريعاً لغواية وإغراءات فينوس \"ربة الجمال\"؟ \r\n \r\n ألا ما أكثر الشك. وفي المقابل, فأي وسيلة لتأكيد التفوق الأميركي على الأوروبيين وطهران, أكثر من إخطار كل من السادة بلير وشيراك وشرويدر, باستعداد الولاياتالمتحدة لدعم مقترحات الاتحاد الأوروبي الداعية لمكافأة طهران على تخليها عن مطامحها النووية, وسماحها لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة النووية, بمزاولة مهام التحقق من تخلي طهران فعلياً عن تطوير الأسلحة النووية؟ وأي سبيل أفضل للتفوق على غوايات \"فينوس\" وإبراز عضلات القوة التدخلية الحربية, من إعطاء الأوروبيين فرصتهم لتجريب سياساتهم مع إيران، ثم الفشل فيها؟ نقول الفشل لأن المرجح أن يكون خيار الحكومة الإيرانية أياً كانت, هو تفضيل منطق الحد الأدنى من الردع والمواجهة, على منطق التنازل والتساهل وتبادل الثقة, وفقاً للعرض الأوروبي المقدم لطهران. \r\n \r\n ففي الحد الأدنى من الردع, ما يصد المنطق الأميركي والإسرائيلي القائم على القوة والتهديد, على افتراض أن الأسلحة الإيرانية المزعومة –إن كان لها وجود فعلي- فإنها ستكون مخبأة حيث لا يستطيع المهاجمون الوصول إليها وتدميرها. أما المستوى الثاني من الردع, فيتوفر بقدرة إيران على تسبيب الكثير من القلاقل والإزعاج الى الجارة العراق. ومنذ عام 2001, ظل الأوروبيون يبحثون عن جذور تلك الهوية القومية الأميركية, التي تفسر ميل الإدارة الحالية للقوة والأحادية والعنف في تحقيق مصالحها ومآربها الخاصة, وراء قناع ما يبدو على أنه مصلحة أميركية عامة. وقد ازداد شغف الأوروبيين لمعرفة تلك الجذور, سيما بعد فوز بوش بولاية ثانية في انتخابات نوفمبر المنصرم, مما يؤكد تأييداً شعبياً واسعاًُ لسياسات إدارته. \r\n \r\n وهناك تعقيدات كثيرة يمكن أن تقال فيما يتعلق بطبيعة وجذور العنف في التاريخ الأميركي, وفي الشخصية الأميركية أيضاً. لكن وعند النظر إلى ظاهرة العنف هذه من منظور سياسي, فإنها لا تمت بأي صلة لتاريخ العنف الأوروبي. ففي بدايات القرن التاسع عشر, وصولاً إلى بدايات القرن العشرين, كانت الولاياتالمتحدة الأميركية, جزيرة معزولة وغارقة هي نفسها في الانعزالية, مما يفسر نأيها وعزوفها عن كل ما يمت بصلة إلى السياسات والحروب الأوروبية. وكانت تبدو تلك الحروب والسياسات في نظر واشنطن, كما لو كانت تعبيراً عن مطامع الأسر الأوروبية الحاكمة, أو ترجمة لنوازع ثورية, أو اندفاعاً وراء توسعات اقتصادية إمبريالية. وما بين حروب البلقان الطاحنة التي دارت رحاها في بدايات القرن العشرين, وحروب البلقان التي اختتم بها القرن الماضي, كانت أوروبا الغربية هي من أرسى جذور أكثر الحروب عنفاً ووحشية من دون أدنى تبرير, مما شهده تاريخ البشرية المعاصر. \r\n \r\n صحيح أن الولاياتالمتحدة الأميركية خاضت حروبها الأهلية الخاصة خلال القرن التاسع عشر. وصحيح أيضاً أنها أدخلت الوسائل وتكنولوجيا الحرب الصناعية إلى ساحات الحروب, مقدمة بذلك أولى نماذج تحقيق النصر والتفوق على العدو, عبر الهجوم الساحق الذي لا يرحم, على مكامن ومواقع قوته الاقتصادية والاجتماعية. بخلاف ذلك, فالحروب والتدخلات الأميركية في كل من المكسيك وأميركا الوسطى والهند, ستكون أحداثاً ثانوية لا تذكرها حتى كتب التاريخ. أما الحرب الإسبانية التي وقعت في العام 1998, فقد كانت مغامرة رومانسية كبيرة بالنسبة للأميركيين –على رغم وقعها الفاجع على الإسبان- لكونها المغامرة الأولى التي تخفق لها قلوب الأميركيين, وتتجه إليها أنظارهم وآمالهم جميعاً, في اشتباك هو الأول من نوعه بذاك الحجم مع دولة أجنبية. ولم يكن ذلك الشعور ليصدق حتى على الحرب العالمية الأولى, التي كان فيها اشتباك الولاياتالمتحدة مع القوى الأجنبية, قصيراً وأكثر قرباً من سحابة صيف عابرة. فلم تزد مدة ذلك الاشتباك على الستة أشهر, بينما لم يتجاوز عدد القتلى الأميركيين فيها 54 ألفاً , مقارنة ببريطانيا التي صرع من جنودها ومواطنيها ما يتجاوز المليون قتيل, وفرنسا التي مات فيها ما يزيد على 1.7 مليون. \r\n \r\n لكن وعلى رغم قصره, فقد كان لذلك الاشتباك الأميركي في الحرب العالمية الأولى, معناه ودلالته الخاصة في التاريخ السياسي والعسكري الأميركي, بسبب المغزى الخاص الذي أضفاه عليه الرئيس الأسبق وودرو ويلسون, الذي كان وزيراً حربياً, ينتمي عقيدياً إلى الكنيسة المشيخية. وخلال سنوات شهرته وتألقه كرئيس جامعي في بادئ الأمر, ثم حلوله في الترتيب الثامن والعشرين من قائمة الرؤساء الأميركيين, كان وودرو ويلسون, قد بات أكثر قناعة بأن شعب بلاده –بل هو شخصياً كذلك- إنما يحملان مسؤولية مباشرة, أمام واجب إلهي, يتمثل في إصلاح الحضارة الإنسانية, عن طريق إلغاء الحروب, ونشر أفضل ما في مبادئ وقيم الديمقراطية الأميركية, في شتى بقاع العالم وأنحائه. وما أسهل التعرف على هذه المهمة اليوم, فيما نرى من سياسات إدارة الرئيس بوش. فما أشد الحمية الأخلاقية, وما أقوى الانجذاب السياسي لمفهوم الحرب التي تنهي كل الحروب, والعنف المفضي إلى الحرية. وسوف تظل جذوة هذا الحماس السياسي والحمية الأخلاقية متقدة, طالما واصل فتيل الحرب تأججه واشتعاله. \r\n \r\n ولكن مشكلة المشاكل, أن هذا الاتجاه يبدو سرمدياً, لا آخر له. ومن زاوية المنطق, فإنها ليست بأقل من حرب شاملة, لا قرار لها ولا هدف. ومن هنا, فإن مواصلتها ستنتهي حتماً, لاحقاً أم آجلاً, إلى الغرق في لجة الوهم والإحباط. ولكن ما الذي يحدث إن لم تتواصل؟ في هذه الحالة, فإن تداعياتها وتكلفتها ستكونان واضحتين للعيان, بينما يخبو بريقها السياسي رويداً رويداً في الساحة السياسية الداخلية. يذكر أن الحلفاء كانوا قد فازوا بالحرب العالمية الأولى في عام 1918, وعظموا من شأن الإنجازات التي تحققت بتحريرأوروبا الوسطى كلها تقريباً, من قبضة الحكم النمساوي المجري, أو العثماني. وشملت الإنجازات أيضاً, تحول ألمانيا باتجاه الديمقراطية. \r\n \r\n وما هي إلا خمسة عشر عاماً أخرى, وقد اندلعت نار حرب ضارية أخرى, في المناطق ذاتها, التي زعم وودرو ويلسون, تحريرها وتحويلها إلى ديمقراطيات. واليوم فقد حان الوقت الذي تعين فيه على معجبي وودرو ويلسون في واشنطن, قراءة نهاية قصته, وبداية القصة الويلسونية الجديدة. \r\n \r\n