ومن المرجح أن تحدث هذه الاتفاقيات، تحولات دولية في الساحتين الاقتصادية والتجارية، بحلول نهاية العقد الحالي. ففي ذلك الوقت، ستحتل كل من الصين والهند، المركزين الثاني والثالث من حيث الترتيب الاقتصادي لدول قمة ال\"آسيان\"، بينما يتوقع أن تحتل اليابان المركز الرابع. ومما لا شك فيه أن تحولا اقتصادياً بكل هذا الحجم، سيصحبه تحول في النفوذ الدبلوماسي والسياسي، من منطقة المحيط الأطلسي، إلى آسيا، لا سيما إلى النصف الشرقي من القارة الآسيوية. وربما كانت قمة ال\"آسيان\" الأخيرة هذه، هي الأنجح على الإطلاق، في تاريخ هذه القمة، الممتد لأربعة عقود إلى الوراء. ومع تحول دول المنطقة، باتجاه تشكيل مجموعة شرق آسيوية - وهو المفهوم الأكثر قبولا الآن، قياساً إلى طرحه لأول مرة، من قبل الزعيم الماليزي \"مهاتير محمد\" في منتصف عقد التسعينيات، في مسعى منه لتأكيد أن الأزمة الاقتصادية التي عانتها دول ال\"آسيان\" خلال عامي 1996-1997 لن تؤثر سلبا ًعلى مستقبلها- فقد برزت هذه القمة، باعتبارها أداة رافعة أساسية، في عقد اتفاقات تجارة حرة، أكثر رسوخاً بين الدول الآسيوية. وليس ذلك فحسب، بل سيمكن هذا الاتجاه، عدداً من كبريات الدول الآسيوية، من أن يكون لها صوت أعلى من ذي قبل، في ردهات القوة والنفوذ الدوليين. \r\n \r\n ومن أبرز ما أنجزته القمة الأخيرة المنعقدة في \"لاوس\"، الاتفاق بين ال\"آسيان\" والصين، على فتح سوقيهما أمام بعضهما بعضاً، عن طريق إنشاء منطقة تجارة حرة مشتركة، بحلول عام 2010، تهدف إلى خفض التعرفة الجمركية إلى أقل من نسبة 5 في المئة، في غالبية الدول التي تشملها الاتفاقية، على الرغم من الاستبعاد المتوقع لعدد كبير مما يوصف ب\"السلع الحساسة\" من القائمة. لكن ومع تحول المنطقة إلى أكبر منطقة تجارة حرة عالمياً، بكثافة سكانية قوامها مليارا نسمة، وإجمالي ناتج قومي مشترك، تصل قيمته إلى 2.4 تريليون دولار، فإنها لا شك ستدخل في تنافس تجاري مباشر مع اتفاقية أميركا الشمالية للتجارة الحرة \"نافتا\" والاتحاد الأوروبي. ففي عام 1991، بلغت الواردات الصينية في دول ال \"آسيان\" حوالي 6 في المئة، من إجمالي الواردات الصينية. أما بحلول عام 2002، فقد زادت على نسبة 8 في المئة. هذا وتبلغ قيمة التجارة الجارية بين الصين ودول ال\"آسيان\" نحواً من 100 مليار دولار حالياً، مع ملاحظة أنها ارتفعت من قيمة 62 مليار دولار في العام الماضي. وبحلول موعد السريان الكامل للاتفاقية المشتركة بين الصين وال\"آسيان\" في نهاية العقد الجاري، يتوقع لهذه القيمة أن تصل إلى ما يتراوح بين 130-140 مليار دولار. عندها سيكون الجزء الأكبر من التعرفة الجمركية قد أسقط. \r\n \r\n وعلى أية حال، فليس من المستبعد أن تتمكن الاتفاقات المشتركة بين ال\"آسيان\" والولاياتالمتحدة، وال\"آسيان\" والاتحاد الأوروبي، من الوصول إلى مستويات شبيهة بالمذكورة أعلاه، أي أن ترتفع قيمة التجارة الجارية من 120 مليارا و110 مليار دولار على التوالي لكليهما. غير أن هذا يتطلب من كل من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، تنافساً محموماً مع الكتلة التجارية الثالثة، من أجل الحصول على الفوائد والمزايا التجارية، مع العلم بأن من شأن ذلك أن يؤثر على العلاقات السياسية بين هذه الأطراف. في غضون ذلك، فقد شرعت قمة ال\"آسيان\" في إجراء محادثات تجارية مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية والهند، بغية الوصول معها إلى ترتيبات شبيهة، يبدأ تنفيذها بحلول عام 2020. وبذلك تكون قد برزت الكتلة التجارية الأكبر على الإطلاق في عالم القرن الحادي والعشرين. \r\n \r\n وقد بدأ التفاعل النشط بين الاقتصادين العملاقين في المنطقة الآسيوية، علماً بأن القاعدة الاجتماعية التي يقفان عليها، تصل إلى 2.2 مليار نسمة! سجل الاقتصادان الصيني والهندي، اللذان كانا بعيداً عن الأضواء ودائرة الاهتمام حتى قبل أربع سنوات خلت، قفزة كبيرة إلى 12 مليار دولار هذا العام، إلى جانب صعود الاستثمارات ذات الاتجاهين، في الكثير من المجالات التجارية. وعلى أية حال، فلا تزال الصناعة الهندية، تفتقر إلى ما يلزم من ثقة في قدرتها التنافسية. وقد تجلى هذا الشعور بوضوح، في التقدم البطيء الذي أحرزته اتفاقية التجارة الحرة بين كل من تايلاند والهند وسنغافورة، فيما عرف ب\"اتفاقية التعاون الاقتصادي الشامل\" التي لم يبدأ سريانها بعد. \r\n \r\n وحتى لا يفوته القطار، فقد ظهر رئيس الوزراء الأسترالي \"جون هوارد\" في قمة ال\"آسيان\" الأخيرة، إلا أنه أشاح بوجهه عن أي شيء آخر، عدا التمتع بالفوائد التجارية التي تتيحها القمة. إلى ذلك مضت جارتها نيوزيلندا، خطوة أبعد نسبياً، وذلك بعدم السماح لعلاقاتها مع الغرب، بالتأثير سلباً على سياساتها الخارجية والتجارية. ومما لا شك فيه أن قضايا السياسة والأمن، أضحت اهتماماً لا مناص منه، بين الهند غرباً، إلى الصين ونيوزيلندا جنوباً. فقد بدأت هذه الدول تضع عينها على الجرائم العابرة للقوميات، منذ عام 1997، مدفوعة في ذلك على نحو رئيسي، بالترويج للمخدرات من \"المثلث الذهبي\" الذي يربط بين مانيامار وتايلاند ولاوس، وما سيخلفه ذلك من تداعيات، إثر انضمام مانيامار لدول ال\"آسيان\". ولدى اكتشاف وجود خلايا نشطة لتنظيم \"القاعدة\" في أوساط مجتمع سنغافورة شديد الخضوع لسلطة القانون والنظام، فيما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وكذلك دخول ماليزيا كطرف في دراما الدور الباكستاني في نشر تكنولوجيا الأسلحة النووية في عدد من الدول. فقد انقشعت من هذه الدول، سحابة الاطمئنان الذاتي، التي كانت تغطي سماءها القومية ذات يوم. ويدخل ضمن ذلك ما تعرضت له إندونيسيا من هجمات \"إرهابية\" ضارية في جزيرة بالي، واضطرار جاكرتا لإعادة النظر في التحديات الأمنية الجديدة، وترتيبات علاقاتها المشتركة مع دول الجوار. أما الفلبين وتايلاند، فقد دب فيهما خراب \"الإرهاب\". وليس غريباً والحال هكذا، أن تتفق كل من تايلاند وماليزيا وإندونيسيا على تعميق وتعزيز علاقات التعاون الأمني فيما بينها، خلال قمة ال\"آسيان\" الأخيرة هذه. \r\n \r\n وبسبب المهددات \"الإرهابية\"، والهواجس المتعلقة بأمن الطاقة، فقد تنامت الحاجة المشتركة لتعزيز علاقات التعاون الإقليمي والدولي، إلى مدى لم يكن ليخطر بالبال مطلقاً، حتى السنوات القليلة الماضية. وليس أدل على ذلك من \"اتفاقية شراكة التعاون\" التاريخية، بين الهند وال\"آسيان\"، الهادفة إلى تعزيز العلاقات التجارية، ومكافحة \"الإرهاب\"، والتعاون في عدد من القضايا التي تغطي مسائل الأمن الغذائي والإنساني، وتعزيز العلاقات الجماعية المتعددة، والعمل على إصلاح المؤسسات الدولية. وبكلمة أخيرة، فإن ما نشهده اليوم هو إعادة توجيه للكثير من مفاهيم الحكمة التقليدية السائدة، باتجاه التصدي للتحديات الأمنية الجديدة، وتعزيز التعاون الدولي المتجاوز للحدود الإقليمية، في مسائل الأمن المشترك، بحيث يصبح التصدي للتحديات الأمنية الراهنة والمستقبلية، واجباً أوسع نطاقاً، وأكثر شمولا. \r\n