\r\n ولكن مع تقدم يوشي في السن بدأت خياراته تنحصر، ولم يعد يستمتع بالحياة كما كان ابوه. أخذت مساحة القطر تزيد لا سيما بعد حرب 1967 ولكن مساحة الحريات أخذت تضيق.يوشي همه ان يستمتع بالحياة، ولا تهمه السياسة ولا الدين ولا الايديولوجيات. جمع بعض المال وأحب فتاة حلوة ذات صوت رقيق وأخذ يبحث عن مسكن يؤسس فيه أسرته. \r\n \r\n وهداه البحث الى قطعة أرض في ناحية قرب القدس عرف انها كانت مملوكة للعرب، ومع انها لم تضم لاسرائيل بعد 1967 الا انه قيل له ان سلطات الاراضي الاسرائيلية اشترتها من أصحابها، وأعطوه منها دونمين بسعر زهيد واعطوه مسكنا مؤقتا فيها اشتراه له بعض يهود الشتات. انتقل يوشي الى هناك وأخذ يبني مسكنا دائما، ولكن انقلبت الأمور بانتخاب رابين رئيسا للوزراء، حيث اعلن سياسة الصلح واعادة الاراضي المنتزعة من العرب، فالغى تصريح الملكية والبناء الذي منح ليوشي. \r\n \r\n اضطر يوشي حيال ذلك الى ان ينزح مع زوجته ليقيم مع والديه لمدة عام، ظل يسأل خلاله عن مصير الارض اياها وتعويضه من غير جدوى، الى أن التقاه بعض اصدقائه من مستوطنة اخرى يمكن أن ينتقل اليها او يزورهم فيها على الاقل، وذهب الى زيارة القوم فوجد مسكنه المؤقت قد تم نقله الى تلك المستوطنة ثم وجد من أهلها ترحيبا، وقالوا انهم لا يفرقون بين المتدينين وغيرهم، ورأى اطفال المستوطنة وديعين يرحبون بالغرباء ويتحدثون اليهم، وهذا ما لا يحدث في الحواضر الكبرى، فأحب ان يعيش ابناؤه هناك. \r\n \r\n وفي 1994 ابتاع يوشي ارضا بالمستوطنة بسعر زهيد واعطي وعرض عليه ان يزاد له في مساحة الارض ان زاد قليلا جدا في السعر، فقبل، واعطوه مسكنا مؤقتا جاهزا يقيم فيه ريثما يكمل بناء بيته الدائم ولم يكن في عجلة من أمره لأنه كان يريد بناء على طراز خاص اراد ان يغطي جدران المنزل بحجارة تجعل البيت يشبه المنطقة من حيث الطبيعة والتاريخ. \r\n \r\n ولما لم يكن هناك من يحسن بناء المساكن على الطراز القديم الا العرب، فقد اضطر الى أن يستخدمهم في ذلك. كان نحت حجر واحد ووضعه في مكانه يستغرق منهم ساعة عمل كاملة، ولكنه كان سعيدا بذلك، وكان سعيدا بصحبة العرب والحديث اليهم، وهم يعملون طوال اليوم، وامتزج بهم فكريا حتى انه اصبح يطلق معهم النكات على اليهود وكيف ان بيوتهم يشبه بعضها بعضا، وكأنها خرجت من مصنع واحد، بل ان اليهود نفسهم اصبحوا يشبه بعضهم بعضا، وكأنهم خرجوا من مصنع واحد، وهكذا اخذ يتقارب من العرب ويتباعد من بني جنسه وملته من يهود. \r\n \r\n اصبح يهود المستوطنة بدورهم يتباعدون عنه، يتباعد عنه المتدينون اولا ثم العلمانيون ومنهم من أتوا لتوهم من روسيا ولا يتكلمون سوى كلمة او كلمتين بالعبرية. ولم يرد يوشي أن يفرط في علاقته بالمستوطنين، وحاول جهده، من دون جدوى، أن يتقرب اليهم بالحديث الودي معهم أينما صادفهم في الاسواق أو الشوارع، وببذل وقته للمساعدة في المدرسة ومساعدة من قد يحتاج الى عون. \r\n \r\n وساءت الأمور أكثر عندما تلقى دعوة من بعض المستوطنين ليرافقهم في تصويب بنادقهم الى خزانات الماء الحار في سطوح منازل القرى العربية وخرقها، او العبث في مزارع الفلسطينيين فسادا وذبح دجاجهم، فرفض ذلك باباء، وعند ذلك زادوا نأيا ونفورا عنه. \r\n \r\n وفي 1996 اضطر يوشي وزوجته الى ان يذهبا الى القدس لمعالجة زوجته من بعض مشكلات الحمل وأمر الاطباء ببقائها هناك لبضعة اشهر فلما عادا الى المستوطنة وجدا مسكنهما المؤقت قد ازيح من مكانه الى طرف قصي في المستوطنة لا تصله شبكة المياه ولا الكهرباء ولا الصرف الصحي ولا يمتد اليه الشارع المرصوف. \r\n \r\n ذات وجهين \r\n \r\n ذكرت ادارة المستوطنة ان تلك سياسة عامة جديدة، ولكن ما لم تذكره هو انها لم تطبقها الا مع شخص واحد هو يوشي، ولم تذكر ايضا تلك سياسة عقابية اتخذت ضد يوشي بسبب صداقته مع العرب. هذا العقاب الذي اوقع بيوشي ارتاع له لهنيهة ثم احبه اشد الحب. كيف لا وقد قربه أكثر للعرب وابعده اكثر عن اليهود. ومن حينها اخذ احساسه يتنامى بأنه يفعل فعلا حميدا وان له رسالة خفية لم تتبلور بعد في الوجود. \r\n \r\n لم يساوره الضيق بما يلقى من اليهود. وبحر ماله مد الى مسكنه خطوط الماء والكهرباء والصرف الصحي ومهد الطريق ورصفه بمعونة اصدقائه العرب، ثم زرع بمعونتهم، واتت نساؤهم فعلمن زوجه كيف ترعى الاغنام وتتعهد الدجاج.. الخ، وارتبطت حياته على نحو ما بالعرب وشاركهم الاحتفال بأعيادهم، وشاركوه الاحتفال بأعياده وذاعت شهرته بين العرب في القرى المجاورة، وهكذا كان لا يستطيع ان يقطع الطريق الى القدس، وهو لا يستغرق اكثر من نصف ساعة الا في ساعتين أو ثلاث، لأن اهل القرى من العرب لا يتركونه لحال سبيله من دون ان ينزل عندهم ويقضي بعض الوقت، يشرب القهوة، او يتناول وجبة طعام. \r\n \r\n وفي مدينة تسمى زعترة قابل يوشي عمدتها وصادقه، فاقترح عليه العمدة ان ينشئ فصلا ليعلم اطفال العرب اللغة العبرية حتى يجدوا فرصا للعمل باسرائيل. وفي هذا الوقت تغير الوضع السياسي باسرائيل، وجاء نتانياهو رئيسا للوزراء، وعادت سياسة حظر التجول من جديد ولكن لم تتأثر علاقة يوشي بالعرب بسبب ذلك، بل زاد اصرار يوشي وزوجته على المضي بها خطوة الى الامام بتشييد روضة للاطفال العرب. واليهود على السواء تتطور الى مدرسة كاملة مع الايام. \r\n \r\n وتغيرت اوضاع السياسة من جديد، وجاء ايهود باراك منتخبا وهو يدعو للسلام، فتجرأ يوشي وخاطب ادارة المستوطنة بخطاب السلام داعيا الى تسليم المستوطنة بكاملها الى العرب مهرا للسلام. \r\n \r\n رد الفعل العاصف \r\n \r\n جاء رد الفعل سريعا على تلك الجرأة العجيبة، جاء شخص بالليل وحطم زجاج مسكنه المؤقت ونوافذه، وسرق انابيب الغاز من قرب الدار. وظن يوشي ان ذلك من فعل الاطفال المشاغبين الذين ما فتئوا يسألون ابنه بالمدرسة: هل ابواك عربيان أم يهوديان؟ وماظن انها خطة مبيتة تنفذ فصولها تباعا لتنتهي بطرده نهائيا من المستوطنة. \r\n \r\n وبعد ايام جاء صبية من المدرسة الدينية طافوا حول منزله يحملون كتب الصلوات باليد اليسرى، واخذوا يقتلعون باليمنى احجار المنزل، فصاحت بهم زوجته مغضبة: الا تستحون؟ الا تستحون؟ فاجابوها أن منزلهم بادي القذارة ولابد ان نقتلعه ونريح الناس منه. وصاحت بهم الزوجة كثيرا، ووبختهم بأنهم يخربون بيوت الناس في يوم السبت، فاستحوا قليلا، وانفضوا بعد ان الحقوا بالبيت بعض التخريب. \r\n \r\n وبدأت الحرب الاعلامية على اثر ذلك بنشر ملصقات تتهم أسرة يوشي بسرقة الماء والكهرباء ومساعدة (الارهابيين) يقصدون بذلك الزوار والعمال العرب لديهم». وبعد ايام تسلل مستوطن وقتل البط والاوز في حديقة الدار، ثم حرضوا سلطات الشرطة لتقتل كلب الاسرة بدعوى أنه مصاب بداء السعر. \r\n \r\n وبعد ايام جاء انذار من ادارة المستوطنة يعلم اسرة يوشي بأن عليها ان تغادر المستوطنة لأنها اضحت غير مرغوبة من بقية المستوطنين. وكان يوشي قدوقع عقدا يعطي ادارة المستوطنة حق انهائه معه بعد تجربة لمدة عام، ولكن نسى أن يؤكد ان ذلك العام انتهى، واستمر يعيش لمدة اربعة اعوام ولأنه لم يخطر ادارة المستوطنة بانقضاء العام فقد احتفظت الادارة لنفسها بتجديد ذلك كل عام لمدة اربعة اعوام. ومهما يكن فقد فرح يوشي وزوجه اشد الفرح بذلك الاخطار بالطرد على أمل ان تشتري ادارة المستوطنة داره وتعوضه عما خسره فيها. \r\n \r\n وبعد ايام ظهر احد رجال الشرطة ليلا امام السكن المؤقت ليعلم يوشي بأن النار تستعر في بيته الدائم وتلتهمه، وهب يوشي وذهب الى هناك فرأى الناس متجمهرين حول بيته ولا احد يساعده، ثم جاءت فرقة المطافئ بعد اكثر من نصف ساعة لتكتشف ان موتور السيارة غير قادرة على ضخ الماء لوقف الحريق، فأتت النار على الدار بأسرها. \r\n \r\n ولم يقدم أحد تعزية ولا اسفا ولا مشاطرة في الحزن، وكأنما كانوا فرحين، شامتين بحرق الدار، وذلك باستثناء عرب قلائل جاءوا ومعهم طعام. وجاءت نساؤهم فجلسن مع ربة الدار، التي بقيت وحيدة مع طفليها بينما كان زوجها يصارع ظروفه عسى ان يستجلي الامور، ويقومها، ويسترد تعويضا عن البيت والمتاع. واعتذرت ادارة الامن عن تأخيرها في الحضور لأنها ظنت ان اللهب مجرد انعكاس لاضواء السيارات. وتطوع بعض المستوطنين فشهدوا ضد يوشي بأنه احرق داره عمدا حتى ينال تعويضا جزيلا من شركات التأمين مع انه لم يكن مؤمنا قط على الدار. \r\n \r\n وعاد يوشي الى السكن المؤقت وبقي معتكفا فيه مع زوجته واطفاله، ولم تكلف المدرسة خاطرها بالسؤال عن سبب غياب الطفل الأكبر عن المدرسة اربعة ايام، كما لم يكلف احد في المستوطنة ولا في ادارة الامن خاطره بالسؤال عن الأسرة بكاملها وهي تعيش ظروف الكارثة. \r\n \r\n واخيرا، شهدت شاهدة أميركية هاجرت حديثا، بأنها شاهدت الاعتداء المدبر الذي وقع على كلبه. ثم جاء فريق مجلس المستوطنة ليس المجلس المحلي وانما المجلس العام لمستوطني الضفة الغربية وأبدى أسفه لحريق الدار، وسأل عن كيف يمكن ان يعين الاسرة المنكوبة ابتسمت تامي، زوجة يوشي، وقالت: نريد اعادة منزلنا الينا.. فأجابوا نحن جئنا فقط لتقديم النصح وارشادكم كيف يمكن ان تعالجوا المشكلة. \r\n \r\n وفي يوم تال جاء فريق من قناة التلفزيون الاولى يتحرى الأمر ويصور انقاض الحريق. وظل يوشي يتكلم معهم لعدة ساعات، ولكن حديثه معهم لم يبث ابدا، وجاءت التغطية في صورة خبر مبتسر مع بعض الصور بلا تعليق.المقابلة التلفزيونية الوحيدة التي بثت هي تلك التي اجرتها معه قناة الجزيرة، وقد بثتها عدة مرات. وصرح الحاخام فرومان للصحف الاسرائيلية بأن الغوغاء اليساريين من انصار السلام حرقوا الدار قصدا حتى يتهموا بها المستوطنين ويصوروهم في أشنع صورة امام الرأي العام. \r\n \r\n ودعا احد الكيبوتزات اسرة يوشي للاقامة به لمدة شهر ثم قامت وزارة الاسكان بادراج الاسرة في بند الطوارئ، واستأجرت لها شقة بالقدس حيث لبث يوشي يقطع سحابة نهاره في تدبيج الخطابات للجهات الرسمية مطالبا بالتعويض، من دون ان يتلقى ردا بالايجاب، وانتقل بأسرته ليضرب لها خيمة بحديقة الكنيست ليعلي منها صوته بالمطالبات عسى أن تستجاب وأعلى لافتة كبيرة تعلن عن ولائه لاسرائيل تقول: «أنا هنا لأني احبك أيها الوطن». \r\n \r\n وكعادة السياسيين في اسداء الحديث الدبلوماسي اللبق غير المجدي، فانهم قد رحبوا به، وتظاهروا بالعناية بشكواه، ولكنهم من طرف خفي انبوه. فقال له احدهم وهو افيغودار ليبرمان: لو مكثت معنا لما حدث لك هذا كله! وعندما تحدث يوشي الى الزعيم اليميني المتطرف الذي اغتيل بعد ذلك بسبب تطرفه راهافان زئيف طالبا اليه ان يعيش لاجئا اسرائيليا مثله رد عليه «أنا اخوك ولست صديقك. واصدقاؤك العرب هم خير من يقدمون لك العون». \r\n \r\n بلغ السيل الزبى \r\n \r\n وعندما بلغ السيل الزبى، جرب يوشي ان يتصل حتى بحزب «شاس» فأعلن زعماؤه استعدادهم لتولي المسألة وبذل التعويضات في خلال اسبوعين فقط لو تطوع يوشي وأعلن ان اصدقاءه العرب خانوه واحرقوا داره! \r\n \r\n تدهورت صحة يوشي عقب ذلك، وخرج من الخيمة، اضمحل بصره أولا واصيب بالعمى نهائيا في احدى العينين، وازدادت ضربات قلبه بشكل مزعج، واجريت له عملية جراحية بالقلب، اسلمته الي كرسي المقعدين نهائيا، فهو آلان لا يستطيع ان يعمل ولا ان يستمر في المطالبة بالتعويض. وليست تلك نهاية قصته، فقد رفضت الحكومة اعطاء تصريح بالبناء لمقاول عربي تبرع ببناء دار جديدة لأسرة يوشي. \r\n \r\n وأعلنت المحكمة عدم احقية يوشي في أي تعويض. ثم غيرت ادارة المستوطنة روايتها للحدث قائلة أنها لم تطلب منه المغادرة فقد ارسلت المذكرة بالخطأ، وانها ارادت ان تطرده من السكن المؤقت لا الدائم، ثم قدمت شكوى ضده بأنه كان يسرق الماء والكهرباء ويؤوي في داره بالمستوطنة بعض (الارهابيين). \r\n \r\n هذا الجانب الأخير من الشكوى مع أنه ظاهر البطلان الا انه بيت القصيد. فالحديث مع العرب أخذ يعني في ظن المسئولين خيانة لمبدأ الدولة اليهودية الدينية وعداء العرب اصبح أول أركان الايمان على الطريقة اليهودية. \r\n \r\n