\r\n ومنذ مدة ليست بالقصيرة يتعرض الجنود الاميركيون لوابل من الطلقات النارية من فوق اسطح جميع المنازل، ويجري مهاجمتهم في كل قرية يدخلونها، ويتعرضون لقلب المجن على كل المستويات من قبل قادة القبائل الذين لا يستطيع الجيش الاميركي فهم طبيعتهم حتى الان. \r\n \r\n وفيما يتعلق بالعثور على حلفاء داخل العراق وعلى أشخاص ذوي نفوذ على استعداد للوقوف بجانب قوات الاحتلال، فإنه تبين ان تلك الآلاف القليلة من عناصر المعارضة التي قدمت من الخارج والعناصر العربية الاخرى التي أيدت الاميركيين في «حملتهم في العراق» تبين انه لا فائدة منهم، وسرعان ما اكتشف الاميركيون ان مستشاريهم ومرشديهم ومترجميهم العراقيين كانوا كاذبين، او انهم اناس اقتطعوا من جذورهم العراقية منذ فترة طويلة، مما جعل نصائحهم بلا قيمة على الاطلاق. \r\n \r\n وعلى امتداد العراق تقدمت اعداد من الرجال ذوى الملامح الشرقية الى قادة العراق الجدد وعرضوا المساعدة قائلين على سبيل المثال: «انا فلان الفلاني وقد حاربت ضد صدام حسين طوال حياتي يمكنكم تعييني عمدة او حاكما او وزيرا اعطوني مالا واسلحة لقبيلتي وفي المقابل سوف اسرع بتهدئة الاوضاع في المدينة ووضعها تحت سيطرتكم». \r\n \r\n ووقعت اخطاء على سبيل المثال، كانت القوات الاميركية، من اجل ان توفر الحماية اللازمة لمسئول عينه قادتهم من دون اجراء المشاورات اللازمة، تفتح النار على المتظاهرين الذين يعلمون ان من عين قائدا عليهم هو شخص أفاق لا اكثر وكان الامر يستغرق شهورا من الجيش الاميركي والحاكم المدني للعراق بول بريمر قبل ان يصلوا الى الحقيقة، ويتخذوا القرار المناسب الذي كان غالبا يتمثل في وضع ذلك الافاق في السجن. \r\n \r\n وفي مثل تلك الاجواء المتفجرة وجد كينغ نفسه على نحو مفاجيء امام امر بالسيطرة على هذا الوضع الشائك ولقد اسيء تحديد ملامح مهمته الاولى التي تمثلت في ان عليه ان يعثر على وسطاء يمكن الوثوق بهم ليعملوا لصالح السلطات المحتلة وتشكيل «همزة وصل» بين الجيش والقبائل والعشائر العراقية، وهو الامر الذي لم يكن بالعمل اليسير على الاطلاق. وقد اعترف كينغ بالآتى: «بداية» وجدت نفسي امام بحر خضم فنحن لم نكن ندرك اي شيء متعلق بطبيعة العشائر العراقية ووثقنا في جميع الاشخاص المزيفين الذين كانوا بالفعل افاقين. \r\n \r\n ويتذكر كينغ بشكل خاص احد هذه العناصر ويدعى العاصي الابيض والذي كان شخصاً بارزاً بالفعل يتبعه ويؤيده الالوف من الرجال والنساء في القرى التي تقع بين تكريت وكركوك، وبعد ان تلقى اموالا من الاميركيين لحماية انابيب النفط التي تجري عبر الاراضي التابعة له من الهجمات كان يقود بنفسه اعمال تخريب حتى يتمكن من الحصول على مزيد من الدولارات والاسلحة لرجاله، وتم في النهاية الكشف عما يجري. \r\n \r\n وبدأ كينع تحقيقاته، واكتشف ان اعظم الخبراء الجامعيين في اميركا امثال اسحاق ناكاش واميتزيا بارام قد نصحوا بوش قبل بداية الحرب بأنه لا يمكنه اهمال وجود تلك القبائل والعشائر العراقية، فهي قد ثارت ضد مستعمريهم البريطانيين في العشرينيات من القرن الماضي ولم يتم اخماد ثورتهم الا بعد اراقة دماء اعداد كبيرة منهم وبعد ذلك جاءت ثورة 1958 لتسلب من زعماء تلك القبائل تلك المساحات من الاراضي التي كانوا يديرونها باسم قبائلهم وعشائرهم. \r\n \r\n وفي بداية الامر بذل البعثيون العلمانيون والتقدميون كل ما في وسعهم من اجل الغاء النظام العشائري الذي كانوا يعتبرونه نظاماً عفا عليه الزمن، ووصل بهم الامر الى حد اعتباره احد الانظمة الاقطاعية، وفي عقدي السبعينيات والثمانينيات ثار البعثيون على تقاليد كانت سائدة منذ قرون بمنعهم الحاق الانتماء القبلي باسم عائلة الشخص في بطاقات الهوية. \r\n \r\n وبدأ صدام حينها بنفسه عندما ألغى لقب «التكريتي» الملحق باسم عائلته. غير انه اعاد الاسم الموحي بالانتماء العشائري قبل غزو الكويت في 1990، وأعاد التأكيد على هذا الانتماء بشكل اكبر عندما قرر نظامه المحاصر بالعقوبات ان يقوم بإحياء التقاليد والسلطات العشائرية لتوفير حماية افضل للحدود العراقية من التسلل من الخارج وتكريس القانون والنظام في المناطق الريفية، وهو الاجراء الذي اعاد رجال القبائل وعاداتهم الى الصورة مرة اخرى بشكل فجائي. \r\n \r\n وعندما فتح الاميركيون السجلات العراقية العام الماضي، اكتشفوا انه في الوقت الذي اسقط النظام العراقي كان صدام يعترف بما لا يقل عن 380,7 شيخ قبيلة. وقبيل الغزو الاميركي شوهدت اعداد كبيرة منهم بشكل متواصل على شاشات التلفزيون وهم يؤدون يمين الولاء لصدام حسين. وكانت هناك شخصيات بارزة في جميع القبائل العراقية، لاسيما قبيلة سمر وهي القبيلة التي ينتمي اليها غازي الياور الرئيس المؤقت للعراق تتعاون مع النظام العراقي وقتها. \r\n \r\n يقول كينغ: «اتذكر انني التقيت في الفترة من اغسطس الى ديسمبر 2003 حوالي 3 آلاف و300 شيخ. وقد ادركت منذ ذلك الحين انه بالكاد هناك ما لا يتعدى 100 شيخ حقيقي للقبائل الرئيسية في العراق. اما الباقون فكانوا اناسا عينوا انفسهم بأنفسهم». \r\n \r\n يقول غازي حسين الشمري احد الخبراء البغداديين والذي تحول لاحقا لأن يكون المستشار الخاص بكينغ: «الامر الذي لم يدركه كينغ هو ان صدام كان يميل بشدة الى الشيوخ حتى انه عين آلافاً منهم على رؤوس القبائل». ويضيف الشمري: «تلك السياسة الخاصة بزيادة عدد الشيوخ قد اضعفت بشكل كبير النظام القبلي». \r\n \r\n اذن ما هي نسبة العراقيين الذين لا يزالون يشعرون حتى الآن بالولاء لجذورهم القبلية من اصل ال 25 مليون نسمة الذين يسكنون العراق حاليا؟ «على الأقل 90%» على حد قول ياور ذلك الشخص المقرب من رئيس قبيلة الشمر التي يبلغ تعداد سكانها 600 ألف نسمة. \r\n \r\n غير ان سعد ناجي جواد استاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، يختلف بشدة مع هذا الرأي. فيقول: «لا يمكنني القبول حتى بنصف هذا الرقم. فالعراقيون يعلمون جيدا ان معظم هؤلاء الاشخاص ايدوا صدام والآن تحفل الاوراق بتعهداتهم لخدمة رئيس الوزراء الجديد إياد علاوي، وفي جنوب البلاد لا توجد شعبية إلا للقادة الدينيين والمراجع الشيعية، وفي المدن الشمالية، باستثناء المناطق الريفية البعيدة وفي المجتمع الكردي، معظم الاشخاص المتعلمين لا يعبأون بهؤلاء الاشخاص، أعتقد ان كل هذا عبارة عن مسرحية هزلية. \r\n \r\n قد يكون الأمر مسرحية هزلية، غير ان الحكومة العراقية الانتقالية، شأن مرشديها من الاميركيين، ترى أنه من المناسب استغلالها، ولقد تم احياء العمل من مكتب الاتصال القبلي الموجود بوزارة الداخلية والذي كان موجوداً إبان حكم صدام. \r\n \r\n وماذا فعل علاوي عندما ذهب في اوائل اغسطس الماضي في أول زيارة له الى مدينة النجف. \r\n \r\n لقد التقى علاوي قادة العشائر المحلية، وطلب مساعدتهم في التعامل مع جيش المهدي، وشكر أربعة منهم على شاشات التلفزيون على ما قدموه من تعاون. ماذا يفعل أي طبيب في بغداد أو محام عندما يخطف ابنه ويطلب منه الخاطفون فدية لاطلاق سراحه؟ إنه يقوم بإبلاغ الشرطة، ولكنه يطلب كذلك مساعدة شيخه الذي، بدوره وبعد تحديد مكان الاختطاف يقوم بالاتصال بنظيره الذي يسيطر على تلك المنطقة التي وقع فيها حادث الخطف ويأخذ في العزف على وتر الروابط القبلية والعلاقات الوطيدة بين العشائر لاطلاق سراح الشخص المعني. \r\n \r\n يقول الشمري: بالنسبة لنا لايزال النظام القبلي نوعاً من الضمان الاجتماعي. فإذا حدثت مشكلة مع السلطات أو مع أحد الجيران أو مع صاحب العمل، فإنك يمكنك اللجوء الى الشيخ لطلب المساعدة، وسوف يساعدك اذا استطاع. \r\n \r\n وفي حي الراشدية، ذلك البستان من النخيل شديد الحرارة والذي يبعد ساعة بالسيارة عن شمال بغداد، اخذ الشيخ ضاري علي الفايد في تسوية خلاف بين اثنين من قادة العشائر في قبيلته. ويبدو ان الامر ليس خطيراً، فهي مجرد مشكلة حول احدى النساء.. وضاري يعد من الشيوخ الكبار وهو القائد الأعلى لقبيلة البوعامر التي يبلغ عدد أبنائها 250 الف نسمة، 25% منهم من الشيعة و25% منهم من السنة، وعندما يتحدث الشيخ ضاري يسكت وينصت الجميع. وعندما يقوم من مقعده واقفاً على رجليه، يتبعه الآخرون. وعلى مائدة الطعام لا يجرؤ أحد ان يضع يده في الطعام قبل ان يعطي هو الاشارة بذلك. \r\n \r\n ضاري الذي يحرص دائماً على ارتداء ملابس نظيفة مهندمة، هو شخص طويل القامة نحيل لكنه قوي البنيان ويبلغ من العمر 74 عاماً ويتمتع بجفون ثقيلة. ويعد ضاري من الشخصيات الرمزية التي تبدو وكأنها تنتمي الى فترات التاريخ المشرق في بلاد الشرق. ولا يدع ضاري مسدسه من طراز بيرتا اينما ذهب، حيث يضعه في حامل جلدي أسود اللون معلق بكتفه اليمنى. \r\n \r\n ولم يحدث ان التقى ضاري كينغ أبداً. يقول ضاري.. لقد أعتاد الضباط الاميركيون القدوم لزيارتي وكنا نستقبلهم بحفاوة. هؤلاء الاجانب ليسوا معتادين على تقاليدنا. ولكنهم خلصونا من صدام. انهم سيرحلون يوماً ما، وحتى يأتي هذا اليوم فهم على الرحب والسعة. ليس هناك شك في ان شيوخ القبائل قد عادوا لممارسة انشطتهم. \r\n \r\n