كنت أعتقد أنه بعد اشتعال المشاعر الوطنية في العراق، واحتدام الصراع المسلح المدفوع بدوافع دينية، الذي فقدت فيه أميركا السيطرة فعليا على خمس مدن، وأدى إلى استمرار المواجهة (لا حظوا أنني استخدم هنا كلمة مخففة) بينها وبين القوات المناهضة، فإن واشنطن سوف تصبح أكثر حرصا في التعامل مع الوضع الإسرائيلي- الفلسطيني، خصوصا بعد أن كانت قد وعدت في وقت سابق، بتحقيق ما عرف برؤية الدولتين اللتين تعيشان جنبا إلى جنب في سلام وأمان. ولكن، ونظرا للتآكل السريع للتأييد الشعبي للإدارة الأميركية، والذي يرجع جزئيا لتورطها في المستنقع العراقي، فإنه غدا من الصعب على المرء ألا يتفق مع الرأي السائد على نطاق واسع في الولاياتالمتحدة وبريطانيا، ومؤداه أن الاعتبارات السياسية الداخلية في سنة الانتخابات الرئاسية، هي التي قادت على ما يبدو الرئيس بوش لتبني رؤية تتناقض مع السياسات الأميركية الثابتة على مدار العشرين عاما الماضية، فيما يتعلق بوضع الأراضي التي قامت إسرائيل باحتلالها عقب حرب 1967. \r\n \r\n وكون ذلك الموقف قد جاء في أعقاب اغتيال الشيخ أحمد ياسين، مؤسس منظمة حماس، بواسطة صواريخ أطلقتها عليه طائرة أباتشي، أثناء توجهه لأداء صلاة الصبح على مقعده المتحرك، يعتبر في حد ذاته دليلا على سوء التوقيت الذي اختارته الإدارة لإعلان هذا الموقف. ولكن إذا ما أخذنا في اعتبارنا طبيعة التغير الكامل في موقف بوش، وقيامه بمنح تنازلات لشارون بالنيابة عن الشعب الفلسطيني، دون أن يكلف نفسه عناء القيام بالتشاور معهم.. فإننا سنتوصل إلى أن الموقف الأميركي هو الذي أدى- على ما يبدو- إلى تشجيع شارون على إصدار أوامره بقتل عبدالعزيز الرنتيسي خليفة الشيخ أحمد ياسين في قيادة حماس . لا أقصد من ذلك أن أقول إن أساليب حماس واستراتيجيتها في استخدام الإرهاب، يمكن أن تلقى قبولا من جانب أي إنسان متحضر في العالم ولكن ما أقصده هو أن الاحتمال الأكثر ترجيحا هو أن تؤدي السياسات الأميركية – الإسرائيلية إلى إثارة حالة من الغضب الشديد، والرغبة العارمة في الانتقام، وتفاقم الإرهاب بدلا من الحد منه. \r\n \r\n والجوانب المتعلقة بهذه السياسة الأميركية الجديدة بحاجة إلى إعمال النظر من جانبنا. فقيام الرئيس بوش بتأكيد أنه لم يعد بمقدور اللاجئين الفلسطينيين، أن يتوقعوا إمكانية العودة إلى منازلهم داخل إسرائيل، يبدو كما لو كان نوعا من إضفاء الشرعية على مأساة إنسانية مستمرة منذ أمد طويل. لقد استمرت إسرائيل في بناء المستوطنات على الأراضي التي كانت تابعة للعرب من قبل، والتي تم احتلالها بالقوة منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمان، وما يقوله بوش هو أن كل ما فعله هو أنه يقر بالحقائق على الأرض، تلك الحقائق التي أدت المستوطنات الإسرائيلية، وطرد الفلسطينيين من الأماكن التي كانوا يعيشون فيها إلى خلقها. \r\n \r\n من ناحية أخرى، سوف تقوم إسرائيل بالانسحاب من 21 مستوطنة في قطاع غزة، تضم 7500 مستوطن يهودي في موعد غايته نهاية العام القادم. ولكن القطاع الذي يسكنه قرابة 1,3 مليون نسمة، سيظل على رغم ذلك الانسحاب بمثابة سجن كبير، لأن جميع منافذ الدخول البرية والبحرية للقطاع ستكون واقعة تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، الذي سيسيطر على سماوات القطاع أيضا. \r\n \r\n وإذا ما أخذنا الظروف السابقة في الاعتبار، فإننا لن نعجب إذا ما عرفنا أن اقتصاد المناطق المحتلة قد تعرض لحالة من التدهور المستمر، أدت إلى جعل معدل نمو الناتج القومي الإجمالي 15 في المئة بالسالب في عام 2002. وقد ترتب على ذلك أن أصبح 60 في المئة من سكان القطاع تقريبا يعيشون تحت خط الفقر، وإلى جعل 50 في المئة تقريبا منهم يعانون من البطالة. وفي غيبة أي سلام متفق عليه ومقبول من قبل الطرفين، فإن قيام إسرائيل بعملية إعادة انتشار أحادية الجانب لقواتها العسكرية، ومواطنيها من قطاع غزة ،لا يتوقع له أن يؤدي إلى أي تقدم في حركة عملية السلام المتوقفة منذ ثلاث سنوات تقريبا. \r\n \r\n الجانب الثاني الذي يحتاج إلى تفكير هو ذلك المتعلق بالضفة الغربية. فإسرائيل تقترح الانسحاب من أربع مستوطنات يسكنها 500 شخص تقريبا مع بقاء 200 ألف مستوطن استقروا في مستعمرات جرى بناؤها في الضفة عقب حرب 1967 في أماكنهم (بالإضافة إلى 190 ألفا يقيمون في القدسالشرقية). وسوف يقوم الجدار الأمني الذي يجري بناؤه الآن بالالتفاف حول الحدود الجديدة التي سيترتب عليها تقليص مساحة الأراضي الفلسطينية إلى حد كبير. تلك هي الحقيقة التي تغيرت خلال العقود الماضية، والتي سمحت بتقديم إطار جديد للمطالب الإسرائيلية المتعلقة بأراضي الضفة الغربية التي استولت عليها عام 1967، ومصادقة الأممالمتحدة على مثل تلك المطالب. \r\n \r\n إن موقف واشنطن، الذي تعرض إلى انتقاد حتى من جانب بريطانيا، يغير الأسس التي يمكن أن تقوم عليها أية مفاوضات مستقبلية، ناهيك عن أية تسوية مقبولة. ومما زاد الطين بلة أن إسرائيل تطالب بتعويضات مقابل انسحابها المزمع. وعلى رغم أن هناك دلائل تشير إلى أن الولاياتالمتحدة سوف تساعد إسرائيل في الحصول على تلك التعويضات... إلا أنه لا توجد سوى دلائل محدودة تشير إلى أنه سيجري تقديم تعويضات للعرب، على رغم أنه ومنذ أربع سنوات فقط ، قام الرئيس كلينتون بالحديث عن جمع مليارات الدولارات وتخصيصها للاجئين الفلسطينيين. \r\n \r\n علاوة على ما تقدم، نجد أنه ليس من الواضح في هذه المرحلة على الأقل، ما إذا كانت إسرائيل ستقوم بهدم المباني والمرافق التي قامت ببنائها في الأراضي المحتلة قبل انسحابها منها، كما فعلت في مستعمراتها في شبه جزيرة سيناء عام 1982، عندما كان شارون يشغل منصب وزير الدفاع في ذلك الوقت، أم لا . \r\n \r\n أما ما حدث يوم السبت الماضي عندما أقدمت إسرائيل على اغتيال عبدالعزيز الرنتيسي الذي خلف الشيخ أحمد ياسين في قيادة الحركة في قطاع غزة، فإن كون ذلك الاغتيال قد جاء بعد الإعلانات الصادرة عن واشنطن، يعني أنه لن يكون له من نتيجة سوى تشجيع العنف الانتقامي بين الطرفين. وقد أدت تلك العملية بالفعل إلى انطلاق مظاهرات فلسطينية ضخمة ترددت خلالها نداءات الانتقام. وفي الوقت الذي وصفت فيه المملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، تلك العملية بأنها غير شرعية، وغير مبررة، وسوف تؤدي إلى نتائج عكس المقصود منها، فإن كل ما فعلته واشنطن هو أنها طالبت الجانبين بضبط النفس، الأمر الذي أثار انتقادات مؤداها أن سياستها هي التي شجعت شارون على تصعيد استخدامه للعنف من أجل حل مشكلاته. وعلى ما يبدو أن شارون ينسى وهو يقوم بذلك، تلك الدروس التاريخية التي تقول إن الاستخدام المبالغ فيه للقوة غالبا ما يؤدي إلى مفاقمة العداء، وإلى العنف المضاد، الأمر الذي يجعل من تحقيق السلام في الأوضاع المعقدة التي تعيشها المنطقة، أمرا أكثر صعوبة.