وعلى الأقل، ومنذ وود راو ويلسن، فالولاياتالمتحدة ظلت تعرّف النظام الدولي وفق الفكرة التي ترى أن الحروب ناجمة بشكل أقل عن تصادم المصالح مما هي بسبب المؤسسات المحلية غير المنتخَبة. فمن وجهة النظر «الويلسنية» فإن السياسة الخارجية التي تستند للمصلحة القومية ولقوة الدولة تسود حينما تكون المؤسسات الديمقراطية قد فشلت. ولأن الأنظمة الديمقراطية تحل خلافاتها من خلال المنطق لا من خلال الحرب، فإن انتشار الأنظمة الديمقراطية بالنسبة لهذه المدرسة من التفكير هي مهمة أميركا الأساسية وتغيير النظام هو قانونها الأساسي. يمكن القول إن الإيمان، الذي يرى البنى المحلية المتنافسة مع بعضها البعض، كقاعدة جوهرية للسلام العالمي، ليس أمرا جديدا. إنه الأساس الذي قام عليه «التحالف المقدس» بعد الحروب النابليونية. فهذا التحالف كان معارضا للديمقراطية، وأكد أن الأنظمة الملكية هي أفضل ضامن للاستقرار العالمي لأنها محصنة من تقلبات الرأي العام. وقيل إن زعماء الأنظمة الملكية هم أكثر نزوعا للسلم لأنهم لا يحتاجون إلى الاستيلاء على أراضي الغير كي يبقوا في السلطة. وعلى الرغم من أن هذه الفرضيات لم يتم دعمها من خلال تحليل موضوعي لتاريخ الدبلوماسية في القرن الثامن عشر، فإن تلك الأنظمة الملكية قد دفعت باتجاه التدخل لتحقيق تغيير النظام في نابولي عام 1821 وفي إسبانيا عام 1823. وفي النهاية فقد فشلت الجهود الهادفة لفرض حكم مطلق على المستوى العالمي لأن المصالح القومية لعضوين في «الحلف المقدس» النمسا وروسيا قد تصادمتا بسبب منطقة البلقان، ولأن بريطانيا العظمى رفضت الحق المزعوم بالقيام بالتدخل العسكري على المستوى العالمي ككل. وكذلك هو الحال مع النظرية الحالية، المتعلقة بمنهج التدخل الديمقراطي المحلي على صعيد العالم ككل فهي تواجه عقبات مماثلة، إذ ليس هناك قدر كاف من الأنظمة الديمقراطية المستعدة لاختبار صحة هذه النظرية عن طريق مشاركتها في التدخل نتيجة لوجود انسجام جوهري بين الأنظمة الديمقراطية. (حالة السلم السائدة في أوروبا حاليا هي، وبشكل جزئي، ناجمة عن الإرهاق الذي أصابها نتيجة لحروب القرن العشرين). وهذه النظرية تتعامل مع كيفية تحقيق النظام بين الدول، لكن ليس من منع التحديات التي تولدها الفوضى. ومع ذلك فإن المغزى الأخلاقي للديمقراطية بالنسبة للولايات المتحدة ظل فكرة أساسية لمجتمع تشكل من خلال المغتربين. لذلك فإن على الولاياتالمتحدة أن تقف إلى جانب القيم الديمقراطية إذا أرادت أن تكسب سياستها الخارجية دعما داخليا واسعا على الأمد الطويل. والقضية هي كيف يجب تطبيقها. كذلك لن يكون ممكنا إثبات أن أي سياسة مستندة إلى المصلحة القومية ومعرّفة بالدرجة الأولى وفق شروط الأمن هي سياسة عملية. فالقوة هي مزيج من القدرة والإرادة، وهذا ما قد يجعلها أكثر العناصر العسيرة على التعريف الدقيق في العلاقات الدولية. وأي سياسة تستند إلى المصلحة القومية فقط تتطلب مرونة عالية واستعدادا فوريا للتكيف مع الظروف المتغيرة. وكان هذا أمرا عسيرا في كل العصور، وأصبح بشكل متزايد أكثر صعوبة أمام المزيج المتكون من التعقيدات البيروقراطية والضغوط الشعبية المتناقضة، إضافة إلى النمو المتزايد للممثلين غير المنتمين لأي دولة سواء كانوا خيّرين أو عدوانيين. وهذا هو السبب الذي جعل نموذج القرن التاسع عشر والمتمثل بأسلوب «السياسة الواقعية» لأوتو فون بيسمارك قابلة للتنفيذ لأنها كانت تسمح له بالقيام برد فعل ما في وقت كانت الحكومة أقل تعقيدا مما هي عليه الآن. ووفق هذا الأسلوب يكون على السياسي أن يتبع خطى الرب والسير معه بضع خطوات على الطريق. لكن من حيث التطبيق أثبتت «السياسة الواقعية» لبسمارك أنها معقدة جدا، وتتطلب عبقريا في كل جيل لتنفيذها، ولذلك لم يتمكن خلفاؤه من تحقيق السلام الدائم بل حققوا تحالفات صارمة وساهموا في وقوع حروب عالمية. لكن بعد القول بكل ذلك، ماذا يعني الدعم للديمقراطية من الناحية العملية في مجال السياسة الخارجية؟ وكيف تستطيع الولاياتالمتحدة أن تعزز دبلوماسية كهذه أمام الانتقاد الدولي الذي يتهمنا بأننا قوة تحب الهيمنة وفي الوقت نفسه يطالبنا دائما في التدخل بقوة لحل المشاكل العالمية؟ تخوض أميركا حاليا عددا كبيرا من الفعاليات باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهي تنشر تقارير سنوية عن سجل حقوق الإنسان لكل بلد في العالم; وهي تعبر علنا عن النواقص في مجالي حقوق الإنسان والحقوق الديمقراطية لكل عضو في الأممالمتحدة، بل حتى أعضاء مجلس الأمن الدولي الدائمين; وتنفذ عقوبات شرعها الكونغرس; وهي قد خاضت حروبا في البوسنة وكوسوفو بسبب قضايا تتعلق بحقوق الإنسان; وهي غزت العراق جزئيا لتحقيق تغيير في نظامه. لم يتعامل بلد آخر مثل الولاياتالمتحدة مع موضوع حقوق الإنسان ودعم الديمقراطية بشكل جد مركزي، أو سمح بهذا الحجم من القناعات التي يحملها الرأي العام كي يتم تبنيها ضمن السياسة الخارجية. كل هذه المبادرات تعزز أنظمة التحقيق والمحاسبة في التجربة الدستورية الأميركية بدون تحوير لأسس التاريخ أو الظروف. فهل للولايات المتحدة القدرة على تنفيذ أهدافها النبيلة؟ وإذا كان ذلك ممكنا بكم من الوقت؟ فالمعلوم أن تطور الديمقراطية في العالم الغربي تم عبر قرون. فالكنيسة الكاثوليكية، التي هي ليست ديمقراطية من حيث ممارساتها الداخلية، لعبت دورا مهما في بروز الديمقراطية عن طريق تأكيدها على الفصل بين الدين والدولة. وشكّل هذا الموقف أول خطوة حذرة، لكنها أساسية، صوب مبدأ التعددية في الحكم. وبعد قرون عديدة لاحقة قامت حركة الإصلاح البروتستانتية بتحويل ما هو ديني إلى مؤسسة تعددية وهذا آل في الأخير إلى تحول الفعالية السياسية إلى مؤسسة تعددية أيضا، وجاء ذلك عن طريق تأكيدها على الوعي الفردي. ثم جاءت حركة التنوير لتمضي خطوة أخرى في تأكيدها على التحليل المستند إلى المنطق. ثم جاء عصر الاكتشافات ليمدد أفق الديمقراطية. إذ جعلت الرأسمالية من المبادرة الفردية المحرك لتحقيق اقتصاد ناجح. فمبدأ المؤسسات التمثيلية، والفصل بين السلطات والمراجعات والمقارنات نمت عبر عدة قرون انطلاقا من تقليد غني. لم تنتج حضارة أخرى تطورا مماثلا لما جرى في الغرب. فالمجتمعات الإسلامية لم تتمكن يوما من فصل الدين عن الدولة ولم تعترف يوما بتعددية التأويل للعدالة. كذلك كان الحال في معظم المجتمعات الكونفوشيوسية حيث لم يكن هناك أي استقلالية للمنظمات الدينية أو غير الحكومية، أو أي شرعية تسمح لها بتحدي السلطة الحكومية عدا عن طريق التمرد المسلح. والقول بأن تحقق الديمقراطية يتطلب وجود شروط ثقافية معينة لا يعني أن تطبيقها غير ممكن في مجتمعات أخرى، لكن تكثيف تطورها الذي استغرق قرونا في الغرب إلى فترة مضغوطة قصيرة يهدد بنتائج غير متوقعة. فالمجتمعات المنقسمة على نفسها بسبب تعدد الأديان والمذاهب أو بسبب تعدد اثنياتها، يجعل من إجراءاتنا مهددة بأن تكون نوعا من المصادقة على التوزيع الدائم للسلطة على أساس هذا الانقسام الاثني أو الديني أو الطائفي، حيث لا يكون للأقلية أي أفق في أن تصبح أغلبية على مستوى تسلم الحكم، والانتخابات في مجتمعات كهذه تؤول إلى الحرب الأهلية أو الفوضى وهذا هو المناخ المثالي الذي تنمو فيه المنظمات الإرهابية الناشطة. لا يمكن اعتبار النقاش بين من يقفون إلى جانب المصلحة الذاتية وبين أولئك المناصرين للقيم مجرد مسألة نظرية، لأن له علاقة بالتطبيق العملي. وظهور مزيج يجمع طرفي المعادلة سيكون موضوعا للاختبار عبر حالات عملية وهذا يعني وجود مبدأ يجمع بين إمكانية التحقق الديمقراطي مع تحقق المصالح القومية. ولأن الديمقراطية يجب أن تتجذر وفق عوامل محلية فإنها ستزدهر فقط في حالة عكسها لخلفية المجتمعات الثقافية والتاريخية والمؤسساتية. لهذا السبب لم تكن محاولة فرض المؤسسات الغربية ناجحة في أغلب الحالات في المناطق الأخرى من العالم بدون وجود وصاية غربية طويلة الأمد. فعلى سبيل المثال تم تشكيل ثلاث محميات في منطقة البلقان البوسنة وكوسوفو ومقدونيا تعتمد كليا على القوات الأجنبية، ولم يتم لحد الآن ظهور أي تيار داخلها يجعلها قادرة على تحقيق تطور سياسي ذاتي لأنظمتها; في كوسوفو سيكون التطور الداخلي للاعتماد على الذات معاكسا للقيم والمصالح الأميركية في المنطقة. وهذا ينطبق على العراق فعملية إعادة الإعمار في جوهرها تتطلب فترة طويلة من الحماية الأميركية. هذه العمليات ضرورية لكن لها حدودا معينة في النجاح. تغيير النظام هو مسألة خاصة، لكن ذلك يجب ألا يكون مهمة المؤسسة العسكرية الأميركية الأولية. يجب إنشاء الأولويات، وحسب توفر القوة العسكرية، لعملية نشر الديمقراطية. تحتاج أي سياسة خارجية تهدف إلى تعزيز الديمقراطية إلى التكيف مع الوقائع الإقليمية أو المحلية وإلا فإنها ستفشل. ففي سياسة السعي وراء تحقيق الديمقراطية ومثل أي سياسة أخرى يجب الانطلاق من تعريف السياسة بأنها فن الممكن. فالدبلوماسية القائمة لصالح الديمقراطية بحاجة إلى أن تعكس تخطيطا سياسيا طويل الأمد بدلا من أن تكون مجرد إذعان لمؤسسات بيروقراطية أو شعبية. وغالبا ما يعارض هذا المقترَح وبشدة أولئك الذين يتعاملون مع الديمقراطية في كونها هدفا نهائيا بحد ذاته. لكن الشعارات لا تخلق سياسة خارجية. فحينما تلعب الولاياتالمتحدة دورا أساسيا في تدمير المؤسسات الحالية مثلما حدث في التحول الذي وقع في إيران عام 1979 وفي اندونيسيا عام 1998، بل وحتى حينما خاضت حربا من أجل تغيير نظام، فإن عليها أن تقوم بذلك وفق تعريف عملي للديمقراطية ولتطورها. إنه من الضروري أن نتذكر أن أكثر البنى الديمقراطية التي تحققت في النصف الأخير من القرن السابق في بلدان مثل كوريا وتايوان وتركيا قد تمت تنميتها بفضل النمو الاقتصادي فيها وهذا ساعد على إنتاج طبقات متوسطة فيها، وأدى ذلك بدوره مع قدر ما من المساعدة الأميركية إلى البدء بتنفيذ عمليات التدقيق والمحاسبة. حينما يتم دفع عملية «الدمقرطة» ضمن فراغ سياسي خال من المفاهيم فإن النتيجة غالبا ما تؤول إلى فوضى أو إلى بروز أنظمة معادية لقيمنا وربما لأمننا. مع ذلك فإن الجدل ظل قائما حول عداء النظام الديني في إيران للولايات المتحدة، إذ يراه البعض بأنه ناجم عن دعم الولاياتالمتحدة السابق للأنظمة غير الديمقراطية، لكن الواقع أكثر تعقيدا من هذا الاستنتاج. فالمنتقدون الذي حثوا الولاياتالمتحدة على مساعدة رجال الدين الإيرانيين للوصول إلى السلطة هم ليسوا بالضرورة يتبعون سياسات تتماشى مع أمننا أو مع قيمنا. وقد أصبح الملف العراقي موضوعا لاختبار هذه الفكرة. فتغيير النظام قد فرِض نتيجة ضرورات جيو استراتيجية، جنبا إلى جنب مع وجود قناعات أخلاقية تدفع بهذا الاتجاه. لكن إعادة إعمار العراق لا يمكن مقارنتها بأي شكل من الأشكال باحتلال ألمانيا واليابان. في ذينك البلدين كان السكان مؤيدين لعملية إعادة الإعمار; ولم يكن هناك أي بديل عن الإصلاح الديمقراطي في الحقيقة الإصلاح والتعاون مع الاحتلال هما الوسيلتان الوحيدتان لاسترجاع السيادة والسيطرة على مقدرات الوطن. في العراق هذان الشرطان مقلوبان تقريبا. فالانقسامات الاثنية والدينية أعمق بكثير مما كانت عليه في المراحل المبكرة، وهناك تهديد لعملية «الدمقرطة» بأن تؤول إلى صياغة المجتمع سياسيا على أساس طائفي. ويأتي تسليم السلطة للعراقيين يوم 1 يوليو كأول خطوة قصيرة في طريق طويل باتجاه الاستقرار الذي منه يمكن أن تظهر طبقة متوسطة علمانية وقوية إلى الدرجة التي تجعلها تصر على التمثيل الحكومي الكامل. وهذا يتطلب فترة طويلة من المشاركة الاميركية وفي الأخير تحقق مشاركة دولية إلى درجة ما. لكن بغضّ النظر عن ماهية عملية «الدمقرطة» فإن شرطها الأساسي هو مدى استعداد الولاياتالمتحدة لدعم هذا التحول الديمقراطي. والنجاح هو استراتيجية الخروج الوحيدة. ومثلما هو الحال مع العراق علينا أن نبحر في الشرق الأوسط بين ضرورة الإصلاح ومخاطر توليد فوضى أكثر. مع دخول الولاياتالمتحدة نقاشا قوميا وفترة آمل أن تكون مصالحة بعد ذلك، يبدو أنه ليس هناك تحد أكثر أهمية من تحديد اتجاه السياسة الخارجية عن طريق دمج قيمنا مع مصالحنا. نحن نشل أنفسنا حينما نتعامل مع هذين العنصرين بأنهما متعارضان بشكل مطلق فيما بينهما. فأنصار «المصلحة القومية» عليهم أن يسلِّموا بأن دعم الديمقراطية هو هدف جوهري يجب أن تبنى على أساسه السياسة الأميركية. كذلك هو الحال مع أنصار بناء السياسة الخارجية على أساس قيمنا، فإنهم بحاجة إلى أن يدركوا أن تحديهم هو ليس لترسيخ مبدئهم، بل أن تطبيقه لن يحقق قدرا أكبر من الديمقراطية وقد يؤول إلى فوضى أكثر. يمكن القول إن أنصار الالتزام بالديمقراطية ضمن السياسة الخارجية الأميركية قد انتصروا في معركتهم الفكرية، لكن بناء مؤسسات للديمقراطية لا يتطلب فقط نظرية بل رؤيا تعترف بالشروط الثقافية والتاريخية. هذا التواضع ليس تنازلا عن القيم الديمقراطية; إنه الوسيلة الوحيدة لتطبيق هذه القيم بشكل فعال. \r\n * خدمة «تريبيون ميديا»- خاص ب«الشرق الأوسط»