يتأهب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإرسال مليارات الدولارات في رحلة غريبة إلى الماضي السوفييتي، لتحديث خط السكة الحديدية «بايكال- آمور» (بام) التاريخي الذي مني بالفشل في السابق. ومن المحزن أن يأتي حنين بوتين إلى الماضي بتكلفة كبيرة على حساب مستقبل البلاد. وفي نهاية حقبة التسعينيات من القرن المنصرم، سافر الكاتب الأميركي «فين مونتاجين» عبر روسيا لإنهاء كتابه عن الصيد الطائر. ومن بين مغامراته الأخرى، ركب خط «بام»، وهو عبارة عن خط سكة حديدية ضخمة تمر عبر غابات شرق سيبريا وأقصى الشرق، كان الغرض من إنشائها سبر أغوار الموارد الطبيعية المتوفرة في المنطقة والمعرف عليها. وتم وضع تصور ذلك الخط في عهد «ستالين» عام 1930، ولكن لم يتم بناؤه حتى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بتكلفة بلغت 25 مليار دولار، تم تمويلها من إيرادات صادرات النفط. وما أن تم تشغيل الخط بشكل كامل في نهاية الثمانينيات، حتى انهار الحزب الشيوعي، حسبما أفاد «مونتاجين»، وأدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى عدم وجود أموال لبناء مدن التعدين والمصانع على طول السكة الحديدية الرئيسية. وكتب «مونتاجين»: يوماً ما ستستخدم «روسيا رأسمالية» خط «بام»، مضيفاً: «لكن بينما يشق قطاري طريقه، لا أرى سوى حلم شيوعي خرج عن مساره». والآن مثلما، توقع «مونتاجين»، تم إحياء المشروع من جديد، ولكن ليس على يد رأسماليين؛ ذلك أن الحكومة الروسية ستمول الإنشاء من إيرادات النفط التي كان من المفترض الاحتفاظ بها في صندوق الرفاهية الوطنية الذي يقدر ب 87,9 مليار دولار، وغرضه الأساسي التأكد من أن جهاز المعاشات لديه أموال كافية لدعم كبار السن والمتقاعدين في المجتمع. ومن المقرر أن تنفق هيئة السكك الحديدية الروسية نحو 150 مليار روبل (4,4 مليار دولار) من الصندوق على زيادة طاقة خط «بام» والسكة الحديدية العابرة إلى سيبيريا. وقد تم تخصيص ما يربو على 60 في المئة من أموال صندوق الرفاهية الوطني لمشاريع بنية تحتية من ذلك النوع. وتم التصديق على مشروعين آخرين، هما إنشاء طريق دائري حول موسكو الكبرى، وخط سكة حديدية سريع بين العاصمة وقازان، بتكلفة إضافية قدرها 300 مليار روبل يتم تمويلها من الصندوق. وإضافة إلى ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وتاريخ بطولاتها في الحرب العالمية الثانية وذكريات العطلات المشمسة على شواطئ البحر الأسود، يوضح مشروع «بام» شوق بوتين المتزايد إلى ماضي قوة وعظمة الاتحاد السوفييتي السابق. ويبدو سيد الكرملين مقتنعاً بأن ماضي روسيا هو أيضاً مستقبلها، فلمَ لا يمول إحياء التاريخ السوفييتي بأموال تم ادخارها أصلاً للأيام العجاف؟ ويمكن إخفاء الرحلة عبر الذاكرة من خلال تصريحات معاصرة، إذ صرح نائب وزير المالية مؤخراً بأن «صندوق الرفاهية الوطنية يعتبر الآن أداة لتحفيز النمو الاقتصادي والاستثمار». وبالطبع تعاني روسيا من مشكلات في النمو الاقتصادي. وتتوقع وزارة الاقتصاد تراجع الاستثمارات بنسبة 2,4 في المئة خلال العام الجاري، ومن المحتمل خروج رؤوس أموال تقدر بنحو 100 مليار دولار. وعليه، ترى حكومة بوتين أن الإنفاق الحكومي هو أداتها الرئيسة للحيلولة دون حدوث ركود اقتصادي؛ إذ إن المستثمرين الأجانب سيتجنبون روسيا لبعض الوقت بسبب تحركاتها في أوكرانيا، بينما ينتاب المستثمرين المحليين التشاؤم لأن مشروع بوتين السوفييتي ليس مجدياً لقطاع الأعمال. وبعيداً عن تبديد أموال المعاشات، هناك أيضاً خطط لزيادة ضريبة القيمة المضافة والسماح للأقاليم بفرض ضرائب على المبيعات. وتقول وزارة المالية إن تطوير القرم سيتطلب نحو 90 مليار روبل سنوياً في صورة إعانات، إلى جانب برنامج استثمارات بقيمة 100 مليار روبل خلال الأعوام الثلاثة المقبلة. وهناك أيضاً خطط أخرى سوفييتية مثل تنظيم كأس العالم لكرة القدم في عام 2018، الذي سيتطلب وفق أحدث التقديرات نحو 620 مليار روبل. وتعتزم أيضاً شركة «غازبروم» المملوكة للحكومة والتي تحتكر استغلال الغاز الطبيعي في البلاد، استثمار عشرات المليارات من الدولارات في تطوير حقول الغاز شرق سيبيريا وتوريد الوقود إلى الصين. وربما يتطلب هذا المشروع أيضاً تمويلاً حكومياً مباشراً، وإن كانت الشركة تؤكد أن بمقدورها تحمله بمفردها. نوع المقال: روسيا