بلغت لعبة الشطرنج ذروة تألقها في الحضارة الإسلامية، في عهد الخليفة العباسي المأمون، تماماً كما بلغ العلم والثقافة ذروتيهما في ذلك العهد أيضاً. وقد كانت بغداد آنذاك ثاني أهم مدينة في العالم، بعد القسطنطينية، وتمتع لاعبو الشطرنج في تلك الأيام بمكانة رفيعة في الحياة الاجتماعية والثقافية، وكانوا يدرجون في مدارس، تنقسم إلى مجموعات، ويمنحون ألقاباً رسمية تحدد مستواهم كونهم لاعبين للشطرنج. أجريت المسابقات الدولية الأولى في الشطرنج، بحضور الخليفة المأمون، وشارك فيها لاعبون من الكوفة، وبغداد، في مواجهة لاعبين من بلاد فارس، وآسيا الوسطى. وكان أشهر لاعبي الشطرنج في ذلك العهد هو جابر الكوفي، الذي يوضح لقبه انتماءه إلى الكوفة، وزرياب لقطان من ولاية خراسان في وسط آسيا. وقد نظم الخليفة المأمون نفسه قصائد بديعة في الشطرنج، ممتدحاً قدرته على تدريب الذهن في المنطق الشكلي، وفي الوقت نفسه في توسيع آفاق اللاعبين. ومع وصول الخليفة المعتصم إلى سدة الحكم، نقلت العاصمة من بغداد إلى سامراء، وخلال عهده، وعهود من أعقبوه، تحولت سامراء إلى مركز حضاري رفيع على نحو غير مسبوق. وكان من بين الشعراء العرب في ذلك العهد الذين برعوا في كل ما يتعلق بالشطرنج، أبو نواس، وابن الرومي، وكذلك المواردي، والرازي، والوزير الزيات، وعلى ابن الطاهر قائد الشرطة. وربما كان أكثر لاعبي الشطرنج العرب والمسلمين الذين بروزا هو محمد بن يحيى الصولي، وهو مؤرخ وكاتب قام بتأليف ما يزيد على 40 كتاباً، ولا تزال كل هذه الكتب تعتبر أعمالاً مميزة في التاريخ والأدب. وكان من الأهمية في لعب الشطرنج، بحيث إن الكثير من المؤرخين العظام، ومن بينهم المسعودي، تصوروا أنه هو الذي ابتكر هذه اللعبة. وقد تم تعيينه أستاذاً للخليفة الراضي، وعرف بلقب «شمس الشطرنج في التاريخ». ولو أننا ألقينا نظرة على النثر والشعر العربيين، لوجدنا أن أشهر الشعراء العرب المعروفين، مثل أبي علاء المعري والمتنبي وكذلك العلامة الجاحظ، قد كرسوا بعضاً من أعمالهم للشطرنج، بل إن كتابات متصوفة تشيد بالشطرنج، وتنظر إليه على أنه ممارسة روحية من نوع ما. ولا يحتاج المرء لكي يظهر مدى الانتشار الكبير، الذي تمتع به الشطرنج في صفوف الناس من كل الطبقات في ذلك العهد، إلا أن يذكر ما يقال عن دار الحكمة في بغداد، وقد كانت مكتبة عامة ومكاناً لإلقاء محاضرات حفلت بالكتب، وأيضاً برقع الشطرنج التي صنعت قطعها من العظم والنحاس والعاج. وقد قدم لنا مؤلفو «ألف ليلة وليلة» المجهولون، قصة طريفة عن الشطرنج، وهي تدور حول امرأة تدعى تودد، برعت في فنون الموسيقى والأدب. ولاختبار معارفها دخلت امتحاناً صعباً أمام الخليفة هارون الرشيد، وبعد هذا الامتحان سألت الحاضرين: «هل هناك موضوعات أخرى ترغبون في اختباري بها؟»، فرد هارون الرشيد: «نعم، هناك الشطرنج». وأمر بإحضار أستاذ ضليع في الشطرنج.. وكان هذا الأستاذ خبيراً في اللعب، فمضى يسخر من الشابة التي تتحداه، فردت عليه مسرعة: «أراهنك بملابسي على هذه اللعبة، وسأتخلى لك عن بعض قطعي أيضاً، فإذا غلبتك فينبغي أن تتخلى عن ملابسك أيضاً، وإذا غلبتني فسوف أتخلى عن ملابسي بدوري». وقبل أستاذ الشطرنج هذه الشروط، وقبل أن تجلس تودد في موضعها تخلت عن قطعها التي وعدت بها، وطالبته بأن يفعل المثل، وأن يبادر إلى اللعب. هذا هو ما قام به أستاذ الشطرنج، معتقداً أنه لا بد سيفوز بالدور لا محالة، في ضوء القطع التي تخلت عنها تودد. وواصل اللاعبان لعبهما، وسمحت تودد له بانتزاع بعض عساكرها، وحدثت نفسها قائلة: ألا ترى أنني أستدرجك إلى الهزيمة؟ وانتهت اللعبة بأن أوقعت تودد الهزيمة بأستاذ الشطرنج المخضرم، فمضى يرجوها أن تسمح له بالاحتفاظ بملابسه، وألا تسيء إليه أمام الخليفة، فوافقت على طلبه، ولكنه قرر ألا يبقى في بغداد طالما ظلت تودد فيها. هذه لمحة بسيطة فحسب من تراث الشطرنج العربي الثري، ولكنها ينبغي أن تكون كافية لإيضاح أن الشطرنج يعد في صميم النسيج البديع للحضارة والثقافة العربيتين. نوع المقال: عام