يبدو أن تداعيات الأزمة الأوكرانية لن تتوقف ولن تهدأ، بل ستستمر في تصاعد حاد، حتى ولو استقرت الأوضاع الأمنية داخل أوكرانيا، حيث إن الأزمة كشفت عن ثغرات كبيرة وخلل واضح في العلاقات بين الشرق والغرب، وخاصة بين روسياوالصين من جهة، والأوروبيين وواشنطن من جهة أخرى. وهذه الثغرات وهذا الخلل ليس نتيجة الأزمة الأوكرانية وحدها، بل هو نتاج تراكمات سياسات أخرى عدائية واضحة من قبل الغرب تجاه روسيا، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانقضاء الحرب الباردة، إذ يبدو واضحاً أن الغرب يرفض تماماً وجود روسيا القوية بجواره على الساحة الدولية، وفي نفس الوقت لا تستطيع روسيا أن تتعامل مع الغرب كحليف أو حتى كصديق في ظل هذه السياسات العدائية الواضحة، والتي أكدتها الأزمة في أوكرانيا. ورغم تفاهة وعدم فاعلية وجدية العقوبات التي فرضها الأوروبيون على موسكو، بعد استفتاء القرم وانضمامه إلى روسيا، فإن الروس يشعرون بالإهانة جراء هذه العقوبات، حيث إن روسيا الآن بعد عقد ونصف من حكم بوتين. باتت لا تقبل أن تعامل مثل الدول الصغيرة بمنطق العقوبات من الغرب، الذي يعاني من تراجع مكانته على الساحة الدولية وتراجع اقتصادياته وكثرة أزماته، ناهيك عن تراجع سمعة الغرب العالمية بسبب الحملة الأميركية المشبوهة على ما يسمونه «الإرهاب الدولي»، الذي بات الكثيرون حول العالم على قناعة بأنه صنيعة غربية. لكن روسيا لم تكتف باستعراض قوتها، بل سعت بفاعلية لأن تثبت للغرب أنها قادرة على إثبات هذه القوة بخطوات عملية. وأمام التهديد المستمر من الغرب بالمزيد من العقوبات ضد موسكو، استشعرت روسيا الخطر من التمادي في هذه العقوبات إلى الحد الذي يمكن أن يسبب ضرراً مباشراً وقوياً للاقتصاد الروسي، الذي يعتمد بنسبة 70 % على صادرات الطاقة من النفط والغاز. ولم تستبعد موسكو مؤامرات واشنطن وضغوطها على الأوروبيين للاستغناء عن مصادر الطاقة الروسية، خاصة وأن الأنظمة الحاكمة في أوروبا تتغير بشكل دوري، ويمكن أن تأتي أنظمة موالية تماماً لواشنطن وتنفذ لها ما تريد، حتى لو كان هذا سيسبب أضراراً مباشرة لاقتصادات هذه الدول. خاصة إذا علمنا أن الغاز الروسي يمثل نحو 30 % من إمدادات أوروبا من الغاز، ويشكل أكثر من نصف صادرات روسيا منه، الأمر الذي يشكل خطراً كبيراً في حالة امتناع الأوروبيين عن استيراد الغاز الروسي. الرد الروسي على التهديدات الغربية جاء قوياً للغاية، أثناء الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي بوتين الأسبوع الماضي للصين، والتي شهدت توقيع أكبر صفقة واتفاق في التاريخ في مجال الطاقة، حيث وقعت شركة «غازبروم» الروسية وشركة النفط والغاز الوطنية الصينية «سي إن بي سي»، اتفاقاً لتوريد 38 مليار متر مكعب سنوياً من الغاز الروسي من شرق سيبيريا إلى الصين، لمدة ثلاثين عاماً بقيمة إجمالية تصل إلى 400 مليار دولار. هذه الصفقة أحدثت زلزالاً سياسياً واقتصادياً عالمياً، وقال عنها المحللون والمراقبون إنها ستغير مقومات المعادلة الجيوسياسية العالمية القائمة، وستغير موازين القوى الاقتصادية والسياسية على الساحة الدولية. ورغم أن هذه الصفقة، في الغالب، جاءت في الوقت الحالي كرد على تهديدات الغرب بالعقوبات، إلا أن الحديث والحوار حولها بين موسكو وبكين قائم منذ نحو عشر سنوات، حيث عرضت الصين على روسيا استثمارات ضخمة في قطاع الغاز الروسي، مقابل توريد أكبر كمية منه إلى الصين، وقال الصينيون إنهم يحتاجون لكل صادرات روسيا من الغاز، لكن المعادلة السياسية لدى الكرملين لم تكن تسمح باحتكار دولة ما لصادرات روسيا، وأيضاً لا تسمح بحرمان الآخرين، وخاصة الأوروبيين الذين تسعى روسيا للتقارب معهم بشكل كبير. هذه الصفقة لا تعني أن روسيا تنوي قطع الغاز عن أوروبا، لكنها تعني أن الغاز الروسي سيجد له مشترين آخرين في حالة استغناء الأوروبيين عنه، وهذا ما عبر عنه الرئيس بوتين في تصريحه الذي قال فيه إنه بموجب هذا المشروع مع الصين، ستربط روسيا قنوات تصدير الغاز الروسي بمصادر واحدة وموجهة نحو الشرق والغرب في آن واحد. وهذا يسمح لروسيا بتغيير مسارات صادراتها من الغاز بين الشرق والغرب بآلية سريعة وحسب الطلب.. بمعنى أنه في حالة رفض الأوروبيين للغاز الروسي فسيتوجه تلقائياً إلى الصين، ما يبطل مفعول أي ضغوط غربية على روسيا مستقبلاً. نوع المقال: الصين روسيا مقالات أقتصادية