يعتبر انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا، بعد أن قام الزعيم السوفيتي الأسبق "نيكيتا خروشوف" بمنحها إلى أوكرانيا عام 1954، أولى أوراق الحرب الباردة فعلياً التي استخدمتها روسيا في صراعها مع أمريكا والاتحاد الأوروبي.. بعد 25 عاماً على سقوط جدار برلين، لا شيء يدور داخل العقل الغربي سوى ضم دول الاتحاد السوفيتي في أوروبا الشرقية إلى حظيرة الاتحاد الأوروبي، ويأتي انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا بمثابة صفعة على وجة الاتحاد الأوروبي الذي يضم في عضويته 28 دولة، وهو ما يصعب على هذه الدول إيجاد أرضية مشتركة للعمل من خلالها بطريقة موحّدة، ولذلك مازالت دول أوروبا تعاني حتى الآن من الأزمة المالية التي وقعت عام 2008، تليها أزمة الديون. يعتبر ضم جزء من أوكرانيا (القرم) إلى روسيا من مخلفات الحرب الباردة، ولا أحد يعلم نوايا بوتين القادمة نحو الجمهوريات السابقة في الاتحاد السوفيتي، والتي تعد أبرزها، دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، وبسبب موقعها على السواحل الشرقية لبحر البلطيق في أوروبا الشمالية الشرقية، ضُمت إلى الاتحاد السوفيتي عام 1940، وبعد إعلان استقلال هذه الدول عام 1991، أقاموا تحالفات مع الغرب ومع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ومع ذلك لا تزال تعتمد دول البلطيق بشكل كبير على النفط والغاز الروسيين. وفي هذا السياق يقول د.هاني شادي الخبير في الشأن الروسي، إن أوكرانيا ومولدوفا تشكّل الآن منطقة عازلة في توسعات الاتحاد الأوروبي التي شملت بلدان أوروبا الوسطى والشرقية في السنوات الأخيرة، كما أن بلدان دول البلطيق أو الكتلة السوفيتية السابقة (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، عانت منذ استقلالها من تجاذبات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، إلا أن هذه الدول قد انضمت بالفعل إلى الاتحاد الجمركي لروسيا، ومع ذلك تتودد بشكل كبير إلى الاتحاد الأوروبي، وأوضح، هناك دول كثيرة تطمع روسيا في ضمها مرة أخرى، أبرزها "بيلاروسيا"، خاصةً وأنها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، حكم البلاد الرئيس "ألكسندر لوكاشينكو"، الذي حرص على تطوير علاقات أوثق مع روسيا، وحتى الآن لا تزال بيلاروسيا تعتمد اعتماداً كبيراً على روسيا في احتياجاتها من الطاقة، كما أن نسبة كبيرة من صادرات النفط والغاز الروسية إلى أوروبا تمر عبر بيلاروسيا، وأكد أن موسكو استطاعت تبديل قواعد اللعبة الأوكرانية مع الغرب، ففي الوقت الذي كان يتحدق فيه الغرب عن إيجاد حل سياسي للأزمة، تحركت موسكو بمعداتها العسكرية لحماية مصالحها، وهناك 10 جمهوريات سابقة كانت ضمن الاتحاد السوفيتي السابق حول روسيا، لن تتردد موسكو في ضمها في حال شكّلت تهديداً مع الغرب أو أوروبا للأمن القومي الروسي. بلد منقسم تركزت الأنظار حول أوكرانيا في أعقاب احتجاجات دامت شهوراً، وطرد رئيسها، وتشكيل حكومة جديدة موالية للغرب وأوروبا، وتمسك مواطني شبه جزيرة القرم بالتصويت على انفصال الجزيرة للانضمام إلى روسيا.. تعتبر أوكرانيا بلد منقسم من اللغة والتاريخ والسياسة، حوالي ثلث المواطنين يتحدثون الروسية، وهم أكثر ميولاً إلى روسيا، كما أن أوكرانيا تعد مصدراً مهماً للغذاء بالنسبة لمواطني موسكو، ومركزاً لعبور الصادرات والطاقة الروسية إلى أوروبا. تأتي أيضاً جمهورية "مولدوفا" التي تم ضمها من قبل الاتحاد السوفيتي عام 1940، حيث واجهت مؤخراً تهديدات انفصالية، لا سيما في شرق مولدافيا على الحدود مع أوكرانيا، وهذه الدولة تعتبر مزيجاً من الأعراق الروس والأوكرانيين، وبحسب استفتاء غير رسمي 2006 في عدد من مناطق مولدوفا، صوّت 97 في المئة من السكان لصالح الانضمام إلى الاتحاد الروسي، ورغم ذلك توجد قوات روسية في إقليم مولدوفا، لكن موسكو لم تسع إلى ضم مولدوفا، إلا باستفتاء رسمي. وفي هذا الشأن يؤكد د.محمد فراج الخبير في الشأن الروسي، أن تخوّف الاتحاد الأوروبي من انضمام مولودفا إلى روسيا، سارع بتكوين علاقة وثيقة وبشكل متزايد مع مولدوفا، ومحاولة إيجاد اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وأشار إلى أن موسكو تضع أيديها على الاقتصاد المولدوفي، بعد أن انضمت الجمهورية السوفيتية في السابق إلى الاتحاد الجمركي، ويقول د.: توجد منطقة "القوقاز" التي تضم (أبخازيا، أوسيتيا الجنوبية، إنغوشيا والشيشان وداغستان)، وتقع على الحدود بين أوروبا وآسيا، وتعتبر واحدة من المناطق الأكثر تنوعاً لغوياً وثقافياً على الأرض، كما إنها بؤرة للتوتر السياسي في حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وأن روسيا لا تزال تتمتع بنفوذ سياسي كبير في هذه المنطقة، ويشير إلى أن ولاية "أبخازيا"، التي استقلت عن جورجيا عام 1991، لا تزال تعتبر منطقة انفصالية، وهناك استثمارات روسية تتدفق نحو أبخازيا مؤخراً، حيث تسعى موسكو لزيادة نفوذها هناك، فضلاً عن وجود قطع عسكرية روسية متمركزة في أبخازيا منذ عام 2010، ويرى أنه بعد إقرار بوتين انضمام شبه جزيرة القرم، يعني أن كثير من المناطق الانفصالية من المتوقع أن تنضم إلى روسيا خلال السنوات القادمة. في حين أوضح د.وفيق إبراهيم الخبير في شئون الشرق الأوسط، أن بوتين يريد استعادة مجد بلاده الزائل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولكن لا توجد قوى على الأرض سياسية أو عسكرية تستطيع منع موسكو من المضي في خطواتها السياسية، حتى أمريكا تخشى مجاراة موسكو عسكرياً، وستكتفي فقط بفرض عقوبات اقتصادية أو إدانة ما يجري، لكنها لن تجرؤ على اتخاذ خطوات حاسمة ضد روسيا، ولفت إلى أن بوتين يرغب في ضم الشيشان التي أعلنت استقلالها عام 1991، وبعد ثلاث سنوات أرسل الكرملين قوات عسكرية لاستعادة سلطته على الدولة الشيشانية، وأثارت هذه الخطوة حرب الشيشان الأولى التي انتهت بهزيمة مذلة لروسيا في عام 1996، وتابع: في عام 1999، عادت روسيا من جديد، ولكن دون قوات عسكرية، وفضّلت الاستثمار المالي، وقدّمت موسكو مليارات الدولارات لإعادة الإعمار التي خلّفها الحرب، ويضيف: أعتقد أن هذه السياسية قد تدفع الكثير من مواطني الشيشيان للانضمام إلى موسكو مجدداً، وأكد أن روسيا تعلم جيداً كيف تفلت من العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب وأوروبا، وكون بوتين يمتلك قوة عسكرية تتفوق على القوة الاقتصادية، فإن الكرملين يسعى إلى عودة طموحات القوة العظمى. غير أن الغرب لا يملك الشجاعة السياسية أو العسكرية في مواجهة روسيا، في رأي د.سعيد اللاوندي خبير العلاقات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ويقول: خلال أيام قليلة سيتحدث الاتحاد الأوروبي عن التسامح مع موسكو، وعدم فرض المزيد من العقوبات، خوفاً من تأثر تجارة الطاقة بين روسيا والغرب، ويقول : أن بوتين يعرف كيف يتعامل مع أوروبا والغرب جيداً، ويلعب الرجل على افتقار هذه الدول لأرضية مشتركة أو رأي موحّد يتعاملون من خلاله، فالمصالح متضاربة، ويرى أن هناك بعض الدول الأوروبية ليست لديها القدرة على تحمل فرض عقوبات روسية صارمة، أو فطم شعبها من الطاقة الروسية، ويشير سعيد اللاوندي إلى أن تشابك النفوذ بين موسكووواشنطن خلق الصدع الأكثر عمقاً في العلاقات بين الشرق والغرب منذ نهاية الحرب الباردة، ففي كل مرة تحاول فيها أمريكا وأوروبا إعادة رسم الحدود مع دول أوروبا الشرقية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991، تقفز روسيا إلى أروقة هذه اللعبة على غفلة من الجميع، وسعت إلى كيفية بناء إمبراطورية سوفيتية من جديد، لمواجهة النفوذ الغربي الأوروبي في هذه المنطقة، وبالتالي فإن المعادلة القادمة بين واشنطنوموسكو ستكون "مزيداً من الاستفزازات لن يحقق شيئاً سوى مزيد العقوبات بين القوتين العظميين". وفي سياق متصل يشير د.جمال عبد الجواد أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، إلى أن موسكو أعلنت الترحيب بعودة شبه جزيرة القرم، التي كانت جزءاً من روسيا في القرون الماضية، حتى ذهبت إلى أوكرانيا بعد أن أصبحت دولة مستقلة عام 1991، ويرى أن الكرملين يسعى إلى التوسّع من حدود روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وهو ما سيعيد العالم مجدداً إلى حرب باردة جديدة، ولن تفلح توسلات الغرب أو فرض عقوبات على موسكو، لتتراجع عن هذه الخطوة، ويمكن القول أنه لا توجد قوى في العالم تستطيع إثناء بوتين عن قرار ضم القرم، وتابع: الغرب الذي يدعم القادة الجدد في أوكرانيا الذين تولوا السلطة بعد الإطاحة بالرئيس الموالي لموسكو (فيكتور يانوكوفيتش) الشهر الماضي، لا يملكون سوى فرض عقوبات اقتصادية على موسكو، ولكن يبدو أن هذه التدابير لن تقابلها موسكو إلا بتجاهل.