سافرتُ الأسبوع الماضي إلى مدينة نيويورك لحضور حفل إحياء ذكرى مرور ثلاثة عقود على حملة ترشح جيسي جاكسون لمنصب الرئيس الأميركي في العام 1984، وكانت هذه فرصة جيدة لتسليط الضوء على التحولات السياسية التي ترتبت على حركة الحقوق المدنية التاريخية. ولا زلت أتذكر ذلك اليوم، قبل ثلاثين عاماً، عندما اتصل بي جاكسون وطلب مني العمل في حملته الرئاسية. وعندما ذكرته بأن لدي وظيفة بدوام كامل كمدير تنفيذي ل«الجنة الأميركية العربية لمناهضة التمييز»، والتي كنت قد شاركت في تأسيسها قبل أربعة أعوام، أجابني قائلاً: «مشاركتك في الحملة ستمكنك خلال الأشهر الأربعة المقبلة من خدمة جاليتك أكثر مما تمكنت من فعله طوال الأعوام الأربعة الماضية». وما أن قبلت هذا التحدي وأصبحت أحد نواب مديري حملته حتى أدركت حقيقة توقعه، ونتيجة لحملة جاكسون في العام 1984، حصل الأميركيون ذوو الأصول العربية على أول فرصة كي ينظموا صفوفهم وينسقوا أوضاعهم كتكتل انتخابي وطني. وقبل العام 1984، لم تتعامل أية حملة انتخابية وطنية أبداً مع الأميركيين العرب على أنهم تكتل انتخابي، ولم يسعَ أحد بصورة نشطة للحصول على دعمهم. وقد كانت هناك بعض محاولات التقارب مع الأميركيين اللبنانيين أو الأميركيين السوريين، كما كنا نطلق عليهم في بعض المناطق، ولكن عندما نظمنا صفوفنا كأميركيين عرب، كانت ردود أفعال السياسيين مخزية، فإما أنهم رفضوا مشاركتنا، أو ردوا مساهماتنا المالية في حملاتهم الانتخابية. ولكن ما فعله جاكسون كان جديداً، فقد جعل أعضاء الجالية فخورين بهويتهم كأميركيين عرب، إذ رحب بنا ضمن ائتلافه «قوس قزح». ولا زلت أتذكر الإثارة التي أحدثتها الحملة، ففي جميع ربوع الولاياتالمتحدة تحول الأميركيون العرب إلى حشود مؤيدة لجاكسون، فسجلوا ناخبين جددا، وتبرعوا بالأموال واحتشدوا للتصويت في يوم الانتخابات. ولم يلهم جاكسون أفراد الجالية فحسب، ولكنه منحهم فرصة للتعبير عن مخاوفهم، فقبل ذلك لم تكن الدولة الفلسطينية، أو سيادة لبنان، أو الحقوق المدنية للأميركيين العرب، أو الحاجة لمحاربة الصورة النمطية السلبية والتمييز ضد الأشخاص المنحدرين من أصل عربي، من بين القضايا المطروحة للنقاش الوطني، أو التي يتم تناولها من على منصة المؤتمر الوطني لحزب كبير. والأكثر أهمية، أن الديناميكية التي حفزها جاكسون في العام 1984 تواصلت في الأعوام التالية، وانتخب الأميركيون العرب أربعة مبعوثين لحضور المؤتمر الوطني للحزب الديموقراطي في ذلك العام. وبحلول العام 1988، زاد عدد الوفد إلى 55 عضواً، وظل عند ذلك المستوى منذئذ، وتواصل تسجيل الناخبين أيضاً، فأصبح في مدينة «ديربورن» 14 ألف ناخب من الأميركيين العرب بعد أن كان عددهم لا يتجاوز ألفاً. وانتقل الأميركيون العرب من الترشح كمبعوثين في الوفد إلى الترشح لمناصب سياسية وقيادية حزبية، وأضحوا يعملون الآن في أربع ولايات كزعماء أحزاب، ويتولون مناصب عامة على جميع المستويات في أنحاء الولاياتالمتحدة. وبفضل ما بدأه جاكسون في العام 1984، تحولت الجالية الأميركية العربية من كيان غير منظم وعلى هامش الحياة السياسية الأميركية إلى كيان قائم وجزء منظم من النسيج السياسي العام. وبالطبع لم يكن ذلك وحده هو ما فعلته حملة جاكسون، فقد حققت أكثر من ذلك بكثير، إذ مكنت الناخبين الأميركيين الأفارقة، كما حشدت في الوقت نفسه ائتلافاً سياسياً تقدمياً موسعاً كان قادراً على إثارة سلسلة من القضايا التي كان يتم تجاهلها على مستوى النقاش الوطني حتى ذلك الوقت. وقد كان جزءاً رئيساً من استراتيجية جاكسون في العام 1984 هو زيادة تسجيل الناخبين من الأميركيين الأفارقة في المراكز العمرانية الكبيرة في شرق ووسط غرب وغرب وجنوبالولاياتالمتحدة، وآتت هذه الاستراتيجية أكلها. ونتيجة لحملة جاكسون الانتخابية، تمت إضافة ملايين الناخبين إلى السجلات الانتخابية، وهو ما مكن الأميركيين الأفارقة والديموقراطيين من الفوز في الانتخابات في الثمانينيات. وخلال تلك الأعوام استعاد الديموقراطيون السيطرة على مجلس الشيوخ وفازوا بخمسة مقاعد في الولاياتالجنوبية، كنتيجة أساسية لارتفاع عدد أصوات الأميركيين الأفارقة. وعلاوة على ذلك، تم انتخاب أميركيين أفارقة في مختلف المناصب السياسية مثل منصب عمدة مدينة نيويورك وحاكم ولاية فيرجينيا حيث تم انتخاب أول أميركي أفريقي في مثل هذا المنصب في تاريخ الولاياتالمتحدة. وأثار جاكسون عدداً كبيراً من الموضوعات المهمة في النقاش الوطني، وكان من بين الموضوعات التي طرحت للمرة الأولى في مؤتمري 1984 و1988، العقوبات ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والتعهد بعدم المبادرة باستخدام الأسلحة النووية، والحاجة إلى الاستثمار في المدن والبنية التحتية الأميركية، والمطالبة بنظام رعاية صحية وطني، وزيادة تمثيل النساء والأقليات الأخرى الضعيفة التمثيل، والحرب على «الإيدز»، ودعم حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ولن ينسى أي من الذين شاركوا في حملة العام 1984 تلك التجربة أبداً، فقد كانت تاريخية، وأثارت ديناميكية ساعدت في تغيير السياسات الأميركية إلى الأبد. وبالنظر إلى أن كثيراً من التحديات التي أدرجها جاكسون على أجندته لا تزال دون استجابة، ولا يزال هناك كثير من الأعمال التي ينبغي القيام بها، وليس ثمة شك في أننا على مستوى البلاد والجالية أقوى وأفضل استعداداً لمواجهة هذه التحديات بسبب العمل الذي بدأ مع جاكسون قبل ثلاثة عقود. نوع المقال: الولاياتالمتحدة الامريكية