اعتادت أدبيات العلوم السياسية على تفسير غياب أو ضعف الديموقراطية والقابلية لها في بعض البلدان العربية وخصوصا الخليجية من خلال ربطها بمتغير النفط أو الثورة الطبيعية من المادة الخام عموما والتي تعتمد عليها الدولة كمصدر رئيس للدخل وربما أيضا المصدر الوحيد. وهو ما عرف بنمط الدولة الريعية. تلك الدولة التي لا تستمد مصدر دخلها القومي من العمل والإنتاج ...فهي ليس لديها سوى استخراج المادة الخام وتصديرها للخارج.....والتعويل عليها في الإنفاق العام. ذلك النفط مثلا هو الذي يغذي الميزانية ويدبر لها أوجه الصرف ويملأ فيها بند الإيرادات.. لماذا تعد تلك الدولة الريعية مناوئة أو غير مهيأة للديموقراطية؟ لأنها عادة ما تلجأ إلى توزيع فائض الدخل الريعي لديها على المواطنين في صورة "رشوة سياسية" لكي لا يطالب هؤلاء بأي تمثيل لهم في أجهزة الحكم أو صنع القرار ....وقد تقدم لهم تلك الرشوة في صورة خدمات وتأمين مستوى من الرفاهية المادية حيث تقدم لهم الدولة كل ما يحتاجون من صحة وتعليم وطرق ومواصلات وإسكان ومرافق أساسية وتوظيف و....وفي المقابل ...يمتنع الناس عن التساؤل عن حقوقهم السياسية في المشاركة والرأي ....وكذلك عن حقوقهم كمحكومين في اختيار الحكام ومساءلتهم ومحاسبتهم وتبديلهم وتغييرهم ...ناهيك عن تطلع المواطن العادي لحقه في ترشيح نفسه لأي منصب سياسي رفيع ...وبالتالي احتكار جماعة أو أسرة أو هيئة معينة للحكم وللسياسة وللقرار. لقد ارتبطت الانتخابات والبرلمانات والأحزاب وغيرها من مؤسسات النظم الديموقراطية في نشأتها في بلاد الغرب ...بقاعدة معروفة هي "لا ضرائب دون تمثيل". والدولة الريعية تشتري سكوت مواطنيها وخضوعهم لها وعدم مطالبتهم بحقوقهم وحرياتهم السياسية من خلال الامتناع من جانبها عن فرض ضرائب تثقل على كاهلهم ....وتدفعهم للتساؤل عن أين تذهب ضرائبنا التي ندفعها للدولة؟ ولماذا نجد تقصيرا أو إهمالا؟ وكيف نقف صامتين أمام جرائم الفساد وهي تشكل نهبا لأموالنا التي فرضتها علينا الدولة؟ فلماذا لم تقدم لنا في مقابلها الخدمات اللائقة؟ ما أريد أن أصل إليه من كل ما سبق أن الدولة الريعية ليست بالضرورة ريعية بالمعنى السابق....لكل مواطنيها ...فهي إذا قسمت شعبها إلى فئتين فئة مستفيدة منتفعة ...من الريع (الذي هو في هذه الحالة ليس مواد خام بل قروض ومساعدات ومنح أجنبية تتدفق على الدولة من خارجها دون أن تبذل فيها جهدا ...أو هي موقع استراتيجي كقناة السويس مثلا أو هي عائدات للسياحة أو للعاملين بالخارج ....وكلها تدفقات ليست ناتجة عن عمل أو إنتاج حقيقي يتم داخل الدولة) فهذه الدولة توزع أموال لم تتعب في جنيها على قطاع أو شريحة معينة على سبيل الرشوة وشراء السكوت والولاء والتأييد والمساندة. أما باقي الشعب وسائر المواطنين ..حتى لو كانوا من العاملين في قطاعات إنتاجية حقيقية فقد لا يكون لهم نصيب من هذه الكعك الريعية التي لا تتقاسمها دولة الريع إلا مع زبائنها من الشعب الريعي. أماالقسم الآخر من الشعب غير الريعي فهم فقط الذين يجدون في النضال من أجل المطالبة بالديموقراطية المخرج الوحيد لهم لاسترداد حقوقهم...لأنهم بالفعل يدفعون ضرائب ولا يحصلون في مقابلها على أية خدمات بل هم محرومون من الاستفادة من ثمرة جهودهم ...التي تصادرها دولة الريع وتوزع حصادها أيضا على شعبها الريعي... هي أفكار أوحت لي بها قراءة في رسالة للدكتوراه ناقشها في عام 2012 زميل عزيز (هو الدكتور أسامة صالح) شرفت بالمشاركة في الإشراف عليها في قسم العلوم السياسية (مع الأستاذ الدكتور محمد صفي الدين وتكونت لجنة مناقشتها من الأستاذ الدكتور كمال المنوفي رحمه الله والزميل العزيز الدكتور عبد السلام نوير) نجده يربط في علاقة طريفة للغاية بين متغيرين ويقدم من خلالهما نظرية إمبريقية سأقتبس لكم من رسالته هذا الاستنتاج الهام: "هناك متغيرين أساسيين بمقدورهما أن يفسرا طبيعة النظام السياسي في الدول الإسلامية من حيث الديموقراطية أو التسلطية يتمثلان في: مدى إسهام صادرات المواد الأولية في الدخل القومي للدولة (علاقة عكسية مع الديموقراطية) ومدى استعداد المواطنين للتضحية من أجل الوصول إلى الديموقراطية (علاقة طردية مع الديموقراطية). أخيرا وليس آخرا فنقلا عن دراسة سابقة لمعتز عبد الفتاح اكتشاف لافت حيث تبين أن أعلى المجتمعات من حيث استعداد مواطنيها للتضحية من أجل الحصول على الديموقراطية هي إيران وتركيا ومالي والستغال وماليزيا وجامبيا وإندونيسيا ويفسر معتز عبد الفتاح الارتفاع الاستثنائي في درجة "الإيرانيين" على مؤشر الطلب على الديموقراطية بأنهم عقب ثورة 1979 صاروا يعتبرون التضحية من اجل الحقوق فرضا دينيا وواجبا شرعيا. (ويبدو أن الثورة الإيرانية جمعت الشعب الإيراني صفا واحدا وراء حقوقه ...ولكن الثورة المصرية 25 يناير لم تصل بعد إلى هذه المحطة التي تجعل الشعب المصري كله شعبا مطالبا مناضلا من أجل حقوقه. فشعب الريع ...غير مستعد للتضحية ولا رغبة لديه في ذلك كما يبد...حتى الآن.