أصبح من المسلمات لدى العقل الباطن والواعي للشعب المصري أن الصراع في مصر هو صراع على السلطة بين طرفين أساسيين هما العسكريين الذين يحكمون مصر منذ انقلاب 1952 وبين كل من تخول له نفسه تغيير هذا النظام أو الوصول إلى السلطة. وقد أعد مركز "كارنيجي" للشرق الأوسط دراسة تحت اسم "فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر" قال فيها :"يدور الصراع في مصر بين المسؤولين الجدد المُنتَخَبين ديمقراطياً، وبين المجلس الأعلى للقوات المسلحة، حول قيادة مستقبل البلاد في حقبة مابعد مبارك، فالمجلس الأعلى، الذي حكم مصر منذ أوائل العام 2011، يسعى إلى ترسيخ وصايته على البلاد في الدستور، والسلطات المدنية تحاول بدورها انتزاع السلطة من مؤسسةٍ عسكريةٍ شكّلت دعامة الحكم السلطوي لعقود، وتسعى الآن إلى البقاء فوق القانون. وهذا الواقع إنما يضع مصير العملية الانتقالية في مصر على المحك. أضافت الدراسة أنه بعد العام 1991، وسّعت القوات المسلّحة المصرية توغّلها التام في كلّ مجال تقريباً من مجالات نظام حسني مبارك القائم على المحسوبيات، وجرت استمالة كبار الضباط عبر وعدهم بتعيينهم بعد التقاعد في مناصب رئيسية في الوزارات والهيئات الحكومية والشركات المملوكة للدولة، ومنحهم رواتب إضافية وفرصاً مربحة تُمكِّنهم من كسب دخل إضافي وزيادة موجوداتهم المادية، وذلك مقابل ولائهم للرئيس. جمهورية الضباط هذه شكّلت أداةً أساسيةً للسلطة الرئاسية، ولاتزال تحتفظ بنفوذها السياسي المتغلغل حتى بعد سقوط مبارك، مخترقةً جهاز الدولة والاقتصاد على السواء، لا على مستوى القيادة وحسب، بل أيضاً على المستويات كافة. وذكرت أنه لذلك، وبغية تفادي الوصاية العسكرية الصريحة، كان لابد من أن يتوصّل كلٌّ من الرئيس الشرعي للبلاد المنقلب عليه، محمد مرسي، والأحزاب السياسية في مصر، إلى توافق راسخ على الحدّ من الصلاحيات الاستثنائية التي يسعى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى تضمينها في دستور 2012، كما أنه كان من الضروري تثبيت الرقابة المدنية الفعّالة على تفاصيل ميزانية الدفاع وأي مصادر أخرى للتمويل العسكري. وقالت الدراسة أنه كان على القادة المدنيون الحذر، لأنهم كانوا كلما أحرزوا مزيدا من التقدم كافحت جمهورية الضباط أكثر لإحكام قبضتها على ما لها من سلطات، مستخدمةً شبكاتها الواسعة المتغلغلة في جميع أنحاء جهاز الدولة بغية عرقلة سياسة الحكومة وإصلاحاتها، وإعاقة تأمين الخدمات العامة، وتقويض النظام الديمقراطي الناشيء، مشيرة إلى أن جمهورية مصر الثانية الحقيقية لن تولد إلا عندما تزول جمهورية الضباط عن الوجود. وأضافت أن المسؤولين المنتخبين ديمقراطياً كانوا على علم بحتمية مواجهة "جمهورية الضباط"، المتمثّلة بشبكات عسكرية مستديمة تخترق كل فروع ومستويات إدارات الدولة والقطاعات الاقتصادية المملوكة لها تقريبا، ومالَم يقدروا عليه فقد استخدمت جمهورية الضباط نفوذها السياسي الواسع وسيطرتها على الجيوب البيروقراطية والاقتصادية الرئيسة لمنع مرسي أو أي رئيس بعده من ممارسة السلطة الحقيقية، وإسقاط أي حكومة مستقبلية لاتكون على مزاجها. واليوم بلغت جمهورية الضباط امتدادها الأوسع، فيتمتّع كبار الضباط بإمكانية الوصول إلى مجموعة واسعة من الوظائف الحكومية بعد التقاعد، وبالسيطرة على الموارد والفرص الكبيرة ضمن الاقتصاد المدني، وبالمكانة الاجتماعية المرموقة. وقالت الدراسة إن جمهورية الضباط تمارس سيطرة حصريّة على ميزانية الدفاع، والمساعدة العسكرية الأمريكية، والشركات المملوكة للمؤسّسة العسكرية، يُضاف إلى ذلك أن جمهورية الضباط تستند إلى شعور عميق بالأحقيّة المؤسّسية والشخصية. الظهور الأول لجمهورية الضباط ظهرت جمهورية الضباط في الأصل في أعقاب إطاحة النظام الملكي على يد القوات المسلحة المصرية في العام 1952، وخصوصاً بعد تثبيت العقيد جمال عبد الناصر رئيساً للبلاد عن طريق الاستفتاء الشعبي في العام 1956، وقد جرى نزع الصبغة العسكرية جزئياً عن مجلس الوزراء إلى حدّ كبير في عهد خلفه أنور السادات في السبعينيات، واستمر هذا الاتجاه في ظلّ التهميش السياسي الظاهري للقوات المسلحة المصرية خلال رئاسة حسني مبارك، التي بدأت في العام 1981، وهو رابع عسكري يشغل هذا المنصب منذ أن تعيَّنَ اللواء محمد نجيب رئيساً للوزراء في العام 1952، ثم رئيساً للجمهورية في العام 1953، لم تَزُل جمهورية الضباط يوماً، بل توسّعت بأشكال جديدة لتصبح الدعامة الأساسية لنظام مبارك القائم على المحسوبيات، إلى أن خرجت من ظلّه لتتولّى السلطة الكاملة في أوائل العام 2011. على النقيض من تصوير القوات المسلحة المصرية في عهد عبد الناصر على أنها عامل تغيير اجتماعي في "الثورة من فوق"، التي أطلقها الرئيس آنذاك، حيث أشرفت على إعادة توزيع الأراضي و"مَصْرَنة" القطاعين الصناعي والمالي في الخمسينيات، وثم على السياسات الاشتراكية بدءاً من أواخر العام 1961 فصاعداً، أدّى دمج القوات المسلحة ضمن نظام مبارك إلى تخلّيها الكامل عن مهمتها الإيديولوجية السابقة، فتم استقطاب كبار الضباط إلى النظام الرئاسي القائم على التمتّع بالنفوذ والمحسوبية، وجرت استمالة القوات المسلحة ونزع الصبغة والدور السياسيَّين عنها، لكن بدل أن تنأى المؤسّسة العسكرية بنفسها عن الساحة، باتت خفية بفضل حضورها الطاغي: حيث تغلغلت جمهورية الضباط في الحياة المدنية لدرجة أصبح معها وجودها أمراً اعتيادياً وطبيعياً، ليس في نظر الآخرين وحسب، بل أيضاً، وهذا الأهم، في نظر أفرادها أنفسهم. تقول الدراسة أنه بعد العام 1991، سارت عملية الدمج في نظام المحسوبية التابع لمبارك، من خلال الوعد بمنح "بدل ولاء" يحصل عليه كبار الضباط عند التقاعد، وذلك مقابل امتناعهم عن الانخراط في السياسة وقبولهم لرواتب متدنّية نسبياً، خلال سنوات الخدمة في القوات المسلحة، بالنسبة إلى الغالبية العظمى، يتضمّن هذا البدل فرصة لمواصلة وظيفة في القطاع الحكومي، ما يضيف راتباً ثانياً إلى المعاش التقاعدي العسكري، ولكل منهما العلاوات والبدلات المرتبطة به. ويمكن للمتقاعدين العسكريين الذين تربطهم علاقات مع جهات نافذة أن يأملوا في تعيينهم في وظائف في الجهاز الحكومي المدني توفّر لهم فرصاً مربحة خاصة تمكِّنهم من تأمين دخل إضافي أو مضاعفة موجوداتهم المادية إلى جانب الرواتب والمعاشات، بالنسبة إلى القلّة، يجري التعيين الثاني بالتزامن مع الخدمة الفعلية في القوات المسلحة، مايخدم تكوين السيَر الذاتية وبناء العلاقات تمهيداً للحصول على مناصب أفضل بعد التقاعد، في كثير من الأحيان، يكون هؤلاء الضباط في طريقهم إلى تولّي مناصب قيادية عليا في فروع القوات المسلحة التي ينتمون إليها، ويمكن أن يطمحوا إلى الانضمام إلى مجالس إدارات الشركات التجارية المملوكة للدولة بعد تقاعدهم من الجيش، وهؤلاء هم الأكثر حظاً، والأكثر ولاءً. لكن نظام المحسوبية بات يعمل اليوم بطريقة مغايرة للنمط السائد في الثمانينيات، عندما عمل وزير الدفاع آنذاك، المشير عبد الحليم أبو غزالة، لكي يحقّق توجُّه القوات المسلحة نحو الاكتفاء الذاتي اقتصادياً الفائدة لجميع الضباط بلا استثناء، أما في عهد المشير محمد حسين طنطاوي، الذي عُيِّن وزيراً للدفاع في العام 1991، فإن فئة قليلة من أصحاب الرتب العليا ظلّت تحقّق القدر الأكبر من المكاسب نتيجة دمجها في نظام مبارك، فيما خسر الضباط ذوي الرتب المتوسطة والدنيا الكثير من المكاسب والمزايا الصغيرة إثر تعديل الإنفاق العام في مصر بعد ذلك الزمن. رسّخت سياسة مسار مزدوج غير رسمية هذا الفصل، فوفقاً لضباط ومسؤولين حكوميين سابقين أُجريَت معهم مقابلات لإعداد هذه الورقة، فإن صغار الضباط، ممَّن يعتبرون ذوي توجّهات سياسية أو غير جديرين بالثقة، لاتتم ترقيتهم بعد رتبة رائد، وبدلاً من ذلك يستكملون سنوات الخدمة الاعتيادية ثم يتقاعدون كما هو معهود في أوائل الأربعينات من أعمارهم على أبعد تقدير، وحدهم الضباط الذين يعتبر ولاؤهم مؤكداً يتجاوزون هذا الحاجز غير المرئي، وعندما يصل هؤلاء الضباط إلى الرتب الوسطى – أي مقدم، عقيد، عميد - يميلون إلى تحمّل رواتبهم وظروفهم المعيشية المتواضعة على أمل أن دورهم سيأتي أيضاً. هذا لايعني أن عدد المستفيدين كان متواضعاً، بل على العكس تماماً، إذ تضخّمت "طائفة" الضباط الكبار، كما وصفها عالم الاجتماع المصري أنور عبد الملك في أوائل الستينيات، بشكل كبير نتيجة لعدد من التدابير، وكانت باكورة ذلك استحداث رتبة عسكرية رفيعة جديدة، هي فريق أول، في نهاية فترة التدخّل المصري في الحرب الأهلية في اليمن بين العامين 1962 و1966، هذا أدى إلى زيادة كبيرة جداً، ودائمة، في عدد الضباط الذين يمكن ترقيتهم إلى رتبة فريق ولواء. عوامل دمج جمهورية الضباط في نظام مبارك تقول الدراسة إن هناك ثمّة عوامل ثلاثة متضافرة دفعت دمج جمهورية الضباط في نظام المحسوبية التابع لمبارك - أولها تصميم مبارك على ألا يجازف بصعود رجل عسكري قوي آخر يمكن أن يشكّل تحدّياً لسلطته، وقد انعكس هذا في قيامه في العام 1989 بإقالة وزير الدفاع أبو غزالة، الذي كان يتمتع، بحسب اعتقاد الكثيرين، بشعبية تفوق شعبية رئيس الجمهورية، سواء داخل القوات المسلحة أم بين عامة الشعب، وبعد فترة فاصلة تولّى خلالها اللواء يوسف صبري أبو طالب، والذي يحظى بتقدير كبير، هذا المنصب، عُيّن طنطاوي وزيراً للدفاع في مايو 1991، وفي ظلّ طنطاوي تم استقطاب المستوى القيادي في القوات المسلحة إلى قلب نظام المحسوبية. - ثانيها أدّى الصراع المتصاعد مع الجهاديين الإسلاميين المسلحين، والذي ازداد مرارة بعد محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا في العام 1995، إلى تسريع ضمّ سلك الضباط في القوات المسلحة إلى داخل نظام مبارك، علماً بأن ذلك لم يكن واضحاً في البداية، نظراً إلى الاتجاه نحو زيادة الاعتماد على الأجهزة الأمنية فقد ازداد عديدها ليصل إلى مايقدّر ب1.4 مليون، وفقاً لبعض التقديرات، عند إطاحة مبارك، أو مايعادل قرابة 1.5 أضعاف حجم القوات المسلحة واحتياطيها مجتمعَين. في غضون ذلك، ارتفعت ميزانية وزارة الداخلية السنوية ثلاثة أضعاف مقارنةً بالزيادة التي شهدتها ميزانية الدفاع. - ثالثها أن شيوع الاعتقاد بأن ظهور "الدولة الأمنية" قد همّش القوات المسلحة، حيث مثل صعود نجم الأجهزة الأمنية في المعركة ضد الإسلاميين، الذي حوّل الأنظار عن المؤسسة العسكرية، نوعاً من ذرّ الرماد في العيون لأن القوات المسلحة استمرت في لعب دور لاغنى عنه في المحافظة على النظام، فقد أصبح المتقاعدون العسكريون يشغلون وظائف في جميع مستويات الحكم المحلي، حيث عملوا كذراع تنفيذية وأمنية موازية تتبع في نهاية المطاف الرئيس من خلال المحافظين الذين يعيّنهم، كما قامت القوات المسلحة، ولاتزال تقوم، بتقديم الضباط من الخدمة الفعلية لتولّي عدد كبير من المناصب القيادية والإدارية العليا في وزارة الداخلية ومديرية المخابرات العامة، مايدلّ ويؤكّد على دور القوات المسلحة العضوي في الحفاظ على نظام مبارك. إذا دولة العسكر كانت عبارة عن لوبي يحافظ على مصالحه، وكل من حاول الاقتراب من السلطة أو التصدي لهذه المصالح؛ حتى وإن كان من داخل هذا اللوبي فسيكون جزاؤه التشويه المجتمعي والتاريخي والإبعاد والنفي.