ما يثير الدهشة أن رموز التيارات العلمانية والليبرالية وأدعياء الديمقراطية الذين طالما رفعوا لواء الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان، ونادوا بالالتزام بالشرعية التى تأتى من خلال انتخابات حرة نزيهة، نراهم قد انقلبوا على ما يؤمنون به وينادون بتحقيقه، ورحبوا بعودة نظام مبارك العسكري البوليسي القمعى الفاسد حتى وان كان بدون مبارك نفسه، ولجأوا إلى تدبير المؤامرات مع العسكر كى ينقلبوا على الشرعية التى أتت بالإسلاميين إلى الحكم، ليغتصبوا هم السلطة بدبابات الانقلابيين. وقد تجلى هذا الهدف عندما شدّدَ بعض المشاركين في اجتماع، حضرته المحامية تهاني الجبالي عقد لمناقشة تعديل الدستور بعد الانقلاب العسكري الدموي، على أنه حان الوقت لإخراج التيار الإسلامي من المشهد، والتأكيد على علمانية الدولة، وقال الكاتب الصحفى حلمى النمنم : "نحن نكذب عندما نقول إن مصر دولة متدينة بالفطرة.. أنا أرى أن مصر دولة علمانية بالفطرة، وهو ما يجب أن يكون عليه الدستور". أما صاحب رواية يعقوبيان، علاء الأسوانى الذى يُذَيِّل مقالاته بشعار "الديمقراطية هى الحل"، فقد أصبح بين ليلة وضحاها خبيراً عسكرياً، يبدى اعجابه الشديد بقائد الانقلابيين عبدالفتاح السيسى، ويحاول اقناع الصحفى البريطانى البارز روبرت فيسك بإن السيسى هو أعظم قائد عسكرى بعد الرئيس الأمريكي الأسبق، دوايت آيزنهاور! السيسى الذى صرَّح فى مقابلة مع صحيفة ال "واشنطن بوست" فى 3 أغسطس 2013 بأن المشكلة مع مرسى نابعة من عقيدة الاخوان القائمة على استعادة الخلافة الإسلامية، وكذلك تصريح وزير خارجية حكومة الانقلاب نبيل فهمى فى لقائه مع "شبيجل أونلاين" الألمانية فى 7 أغسطس 2013عندما قال أنهم لجؤوا إلى الجيش لعزل مرسى لأنه أراد إقامة نظام إسلامى. حاولوا أن يصوروا للجميع أن الجماهير المصرية خرجت على الرئيس مرسى بعد أن فشل فى أول سنة له فى الحكم ولم يحقق تطلعات الشعب، والحقيقة الساطعة أنه لم يفشل بل أُفشل. فقد كشف تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" حجم الخيانة والمؤامرة التى دبرها العسكر وقادة المعارضة فى جبهة الخراب (المسماة بالانقاذ) قبل عدة شهور من الانقلاب على أول رئيس مصرى منتخب ديمقراطياً والإطاحة به، بل واختطافه إلى مكان مجهول والتحقيق معه دون وجود محاميه. والغريب أن القضاء الشامخ أفرج عن جميع رموز نظام مبارك الذى أجرم وأفسد البلد طيلة ثلاثة عقود وتم استبدالهم باعتقال قادة التيار الاسلامى وتلفيق التهم لهم. وحتى يقنعوا الجميع بأنها ثورة شعبية، قاموا بإخراج الفيلم السينمائى المُعد سلفاً والذى يقوم ببطولته وزير الدفاع عبدالفتاح السيسى الذى طلب من الشعب المصرى الخروج والاحتشاد فى الشوارع والميادين لمنحه تفويضاً بمحاربة العنف والإرهاب، واستجاب لدعوته كل فلول الحزب الوطنى وأعوان نظام مبارك، والبلطجية، وطائفة أخرى من الشعب عانت كثيراً من غلاء المعيشة، وأنصار حركة تمرد التى صنعها ودعمها قادة العسكر والداخلية. وقام مخرج سينمائى ليبرالى معارض للشرعية، بتوثيق المشهد من الجو يوم 30 يونية من خلال مروحية عسكرية، والواضح أنهم قد ركزوا كاميراتهم على مظاهرات معارضي الرئيس مرسى المتواجدين بالتحرير، وغضوا الطرف عن حشود المتظاهرين من مؤيدى الشرعية فى رابعة والنهضة والعديد من ميادين وشوارع مصر، ثم سرعان ما اتخذوا هذه الخطوة كغطاء شعبى للانقلاب على الشرعية والاطاحة بالرئيس مرسى. بدأ الانقلابيون باستخدام هذا التفويض بارتكاب مجازر فى حق المتظاهرين والمعتصمين السلميين من مؤيدى الشرعية، قامت بها قوات من الجيش أمام دار الحرس الجمهورى، وقوات من الشرطة وعناصر من البلطجية والمجرمين ضد مسيرات رمسيس، وضد المعتصمين أمام المنصة، وفى مظاهرات المنصورة حيث قتلوا النساء، وأوقعوا فى تلك المجازر ما يزيد عن ثلاثمائة شهيد وآلاف الجرحى. وفى هذا السياق يجب أن لا نغفل تلك الحملات الشرسة التى يقوم بها الإعلام الرسمى والخاص، فى الحض على الكراهية والتحريض على العنف والقتل لفصيل بعينه، صاحب قضية عادلة وملتزم بالسلمية ومؤيد للشرعية ومتمسك بها، ووصفه بالإرهابى دون أى دليل أو سند. المفهوم من رسالة دعوة الشعب للخروج الى الشوارع والميادين لمنح التفويض للحاكم بفعل ما يشاء، يعطى انطباعاً عن محو دولة القانون وإلغاء فكرة الانتخابات.. فهم يريدون الآن أن يغيروا القواعد والأسس المعروفة للعبة الديمقراطية المتفق عليها والتى تقول أن "من جاء بالصندوق يرحل بالصندوق"، ويستبدلونها بشرعية الحشود وعدد الرؤوس فى الشوارع والميادين. الهدف من ذلك واضح وهو إزاحة الإسلاميين عن المشهد السياسى وسد كل الأبواب المشروعة أمامهم للوصول إلى السلطة، وهذه إرادة قوى إقليمية ودولية توحدت ودعمت أذنابها بالداخل من التيارات العلمانية والليبرالية واليسارية والتى تحميها دبابات العسكر. فكانت السعودية والإمارات أول المهنئين بالانقلاب على مرسى بل ووصل الأمر أن قدموا مع الكويت حزمة مساعدات بقيمة 12 مليار دولار مكافأة الاطاحة بالاسلاميين، كما أبدى الاسرائيليون إعجابهم الشديد بخطوة الانقلابيين واعتبرت صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية أن السيسى هو بطل قومى لاسرائيل، أما الموقف الأمريكى فكان مائعاً خجولاً لا يستطيع وصف ما حدث على أنه إنقلاب لإن القوانين الأميركية تمنع منح المساعدات للدول التي تشهد انقلابا عسكريا ضد السلطة القائمة المنتخبة، ولكن إدارة أوباما مصممة على الإبقاء على دعم الجيش المصري ب 1,3 مليار دولار بشكل سنوي. كما أن السيسى نفسه صرح لصحيفة ال"واشنطن بوست" بأن وزير الدفاع الأميركي تشاك هيجل يتصل به بشكل شبه يومي. هذا الانقلاب العسكري الذى وقع في مصر هذه الأيام، وما حدث فى الجزائر من قبل، ثم حصار غزة بعد فوز حركة حماس فى انتخابات حرة نزيهة، يكشف حقيقة شعارات الديمقراطية الجوفاء التي يستخدمها الغرب وأذنابهم من العلمانيين والليبراليين، لخداع الناس وتحقيق مصالحهم، والوصول إلى أهدافهم الشخصية فقط، ويؤكد على مخططهم بعدم السماح لوصول التيار الاسلامى للسلطة حتى ولو بطريقة ديمقراطية، أما إذا وصل فيجب افشاله وإسقاطه فوراً.