ليواري أولمرت أزمات حكومته وتداعيات سقوط أسطورة "الجيش الذي لا يقهر" مضى للتصعيد بأن دعا لاعتراف دولي وعربي بالكيان "دولة يهودية" . محاولا استغلال وهن النظام الإقليمي العربي ومأزق ادارة الرئيس بوش الذي اعلن تأييدها في لقاء انابولس . والذي يتجاهله أولمرت وبوش وقابلو الدعوة العنصرية الصهيونية على جانبي الأطلسي ، ولا تفطن له النخب العربية المهرولة للصلح والتطبيع ، أن هذه ليست الدعوة الأولى للتطهير العرقي في فلسطين ، ولا هي أولى الاستجابات الأمريكية لذلك ، وإنما هما دعوة واستجابة توالتا ، كما تواصل إفشالهما بفعل ممانعة ومقاومة الشعب العربي الفلسطيني .
فهرتزل في كتيبه "الدولة اليهودية " جمع بين الفكر العنصري والارتباط العضوي بالإمبريالية . وتتضح عنصريته بتجاهله كون فلسطين عامرة بشعب غني الموروث الحضاري . ولم يقف عند التوصية باعتماد العنف في تنفيذ التطهير العرقي الذي دعا له وإنما طالب بتسخير المواطنين العرب في التمهيد للاستيطان الصهيوني قبل تهجيرهم القسري . فهو يقول في يومياته : إذا ما انتقلنا إلى منطقة فيها حيوانات متوحشة لم يعتد عليها اليهود ، فسوف استخدم سكان البلاد قبل ترحيلهم من أجل القضاء على هذه الحيوانات " . ولقد اعتمدت دعوته كأساس للاستراتيجية التي صاغها مؤتمر بازل الصهيوني سنة 1897 .
ويذكر المؤرخ الصهيوني ولتر لاكور انه في العام 1911 كان القادة الصهاينة يتساءلون علنا إذا كان بالمستطاع إقناع عرب فلسطين بالهجرة إلى البلاد العربية المجاورة ، حيث باستطاعتهم شراء أراض جديدة بثمن ما يبيعونه من أراضيهم في فلسطين ، بل وفكر الصهاينة في أن يقوموا هم بشرائها لهم . وذلك ما تجلى فشله بدليل انه عندما أصدر بلفور وعده سنة 1917 لم يكن الصهاينة يجاوزون 8.45 % من سكان فلسطين ولا تجاوزت حيازتهم 1.83 % من أراضيها .
وأثناء مؤتمر السلم في باريس سنة 1919 بعث الرئيس ويلسون موفديه كنج وكرين لتقصي الحقائق في بلاد الشام . وبعد جولة في ربوعها ما بين 10/6 – 18/8/1919 قدما تقريرا بان المواطنين العرب يجمعون على رفض وعد بلفور ، ويطالبون بالوحدة السورية وبالاستقلال التام ، وأنه إذا رفض مؤتمر السلم ذلك فإنهم يفضلون الانتداب الأمريكي ، لا الإنجليزي ، ولا الفرنسي . ولكن الرئيس ، صاحب دعوة تقرير المصير ، تجاهل تقرير موفديه ، والتزم بتوصية قسم الاستخبارات في الوفد الأمريكي لمؤتمر السلم ، الذي أوصى بأن المصلحة الأمريكية تقتضي أن يتبنى الوفد الأمريكي للمؤتمر إقامة دولة يهودية في فلسطين ، منفصلة عن جوارها العربي ، وان تكون بريطانيا الدولة المنتدبة عليها . وعليه دعمت إدارة ويلسون صك الانتداب الذي حدد مهمة بريطانيا كدولة منتدبة بوضع فلسطين في ظروف اقتصادية وإدارية تؤمن إقامة "الوطن القومي اليهودي" .
ويذكر حاييم وايزمان في مذكراته : " وعدتنا بريطانيا أن تكون فلسطين سنة 1935 يهودية كما هي بريطانيا إنجليزية " . إلا انه في سنة 1935 لم تجاوز نسبة الصهاينة 28 % من سكان فلسطين ، ولم تتعد حيازتهم 4 % من الأرض ، بما في ذلك أملاك الدولة التي منحتهم إياها سلطة الانتداب . كنتيجة لتشدد الشعب العربي الفلسطيني في مقاومة الإجراءات البريطانية بتيسير الهجرة الصهيونية وبيوع الأراضي ، وتصدي طلائعه للسماسرة وباعة الأرض .
وبموجب قرار التقسيم الذي أوصت به لجنة بيل البريطانية سنة 1937 ، تضمن القسم الذي خصصته للصهاينة 325 ألف مواطن عربي يملكون 75 % من أراضيه . فيما تضمن ما خصصته للعرب عشرة آلاف مستوطن صهيوني . ومع ذلك دعا القرار لتبادل السكان . ما يعني عمليا تهجير العرب طوعا أو كرها من ديارهم لتوفير النقاء العنصري للكيان الصهيوني الذي أوصت بإقامته . غير أن الثورة العربية الكبرى 1936 – 1937 أفشلت مشروع التقسيم الأول .
وفي العام 1940 كتب جوزيف وتيز ، المسؤول الإداري عن إنشاء المستعمرات الاستيطانية ، يقول : "لابد أن يكون واضحا فيما بيننا انه لا مكان للشعبين في هذا البلد ، وإننا لن نصل إلى هدفنا في أن نصبح شعبا مستقلا طالما أن العرب موجودون في هذا البلد . ولذا فان الحل الوحيد هو فلسطين ، أو على الأقل فلسطينالغربية – يقصد بدون شرق الأردن – بلا عرب . وليس هناك من سبيل إلا تهجير العرب إلى البلاد المجاورة ، وتهجيرهم جميعا بحيث لا تبقى قرية واحدة أو قبيلة واحدة " .
وكان الرئيس الامريكي هوفر قد دعا الى تنظيم تهجير عرب فلسطين الى العراق ، وقد تبنى دعوته "مجلس الطوارىء الامريكية الصهيوني " معلنا انه "يسعد الصهيونيين ان يتعاونوا في تحقيقه مع الدول الكبرى ومع العرب " . كما أن حزب العمال البريطاني طالب سنة 1944 بتشجيع العرب على الهجرة من فلسطين وتشجيع اليهود على الهجرة إليها .
وعشية انتهاء الانتداب البريطاني سنة 1948 أبرق حاييم وايزمان للرئيس ترومان ، طالبا أن تعلن الإدارة الأمريكية ، التي مكنت من تأسيس الدولة اليهودية ، اعترافها الفوري بها . وبعد إحدى عشرة دقيقة من صدور البيان الصهيوني بإعلان الدولة صرح السكرتير الصحفي للرئيس ترومان قائلا : "أعلمت هذه الحكومة أن دولة يهودية قد أُعلنت في فلسطين ، واعترفت الولاياتالمتحدة بالحكومة المؤقتة كسلطة أمر واقع لدولة إسرائيل الجديدة" .
وبرغم النكبة وتهجير 65 % من المواطنين العرب لم تكن الدولة التي اعترف بها الرئيس الأمريكي يهودية خالصة ، إذ كان العرب يشكلون 11 % من سكانها سنة 1949 . وهم اليوم يقاربون 20 % مما يعني تفوق نسبة تكاثرهم على تزايد نسبة الاستيطان الصهيوني برغم تهجير ملايين اليهود خلال السنوات التي أعقبت قيام الدولة . فضلا عن أنهم باتوا أكثر اعتزازا بانتسابهم الوطني الفلسطيني وانتمائهم القومي العربي ، وأكثر قدرة على المقاومة والصمود في أرض آبائهم وأجدادهم ، وأشد عزما واستعدادا للدفاع عن حقوقهم المشروعة .
وعلى مدى المائة والعشر سنوات التي أعقبت مؤتمر بازل توالت خيبات الطموح الصهيوني . وكل المؤشرات تدل على أن إرادة الممانعة والصمود ، لدى القوى الحية فلسطينيا وعربيا أقوى وافعل من أي يوم مضى منذ بدايات الصراع مع الغزاة الصهاينة ورعاتهم على جانبي الأطلسي . مما يؤشر لاستحالة تحقق التطهير العرقي الذي يريده أولمرت وأقرته الإدارة الأمريكية.