في مطلع العام 1957 أعلن في واشنطن عن " مبدأ ايزنهاور لملء الفراغ في الشرق الأوسط". ويومها كان للحركة القومية العربية حضور جماهيري فاعل ما بين المحيط والخليج، فيما أخذت مصر بقيادة عبد الناصر تستعيد دورها التاريخي كاقليم قاعدة عربي ، وقد غدت القاهرة موئل دعاة التحرر والوحدة العربية و مصدر دعمهم المادي و السياسي و الاعلامي ، بل والعاصمة الأبرز فعالية بين عواصم عدم الانحياز. فضلاً عن صيرورة التجربة الناصرية الملهمة الأولى لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث ، ليس فقط بكسرها حاجز الخوف من القوى الاستعمارية، وإنما أيضا باجراءاتها الاقتصادية والاجتماعية. ولأنه بات للعرب حضورهم المؤثر إقليمياً و شديد الإيحاء عالمياً يتضح بجلاء أن غاية " مبدأ ايزنهاور" إنما كانت ملء الفراغ الاستعماري الناشئ عما ألحقه زلزال السويس بالاستعمارين البريطاني و الفرنسي واتضاح قصور الأداة الصهيونية عن مواجهة الحركة القومية العربية و طموحها التحرري الوحدوي.
ويؤرخ لإعلان " مبدأ ايزنهاور" باعتباره بداية " الحقبة الأمريكية " في التاريخ العربي المعاصر. حقبة شهدت انحسار الفكر والعمل القومي دون ظهور فكر وعمل عربي آخر ، كما شهدت غياب حركة عدم الانحياز وتفكك الاتحاد السوفياتي ، مما يسر سعة وعمق المداخلات الأمريكية في الشؤون العربية . وقد تمحورت سياسة ادارة ايزنهاور حول خمسة أهداف استراتيجية : الحفاظ على واقع التجزئة العربي ، وكبح الدور القومي لمصر ، والتصدي لأي مساس بامتيازات النفط و تدفقه على السوق العالمية بالأسعار الملائمة . وتعزيز النفوذ ألأمريكي في الوطن العربي في مواجهة الاتحاد السوفياتي وأي قوة دولية منافسة، و دعم اسرائيل و تمكينها من أداء دورها كأداة استعمارية فاعلة .
ولقد أولت ادارة ايزنهاور التصدي للحركة القومية العربية و الحراك الوحدوي ، الأولوية على بقية أهدافها الاستراتيجية. و يتضح ذلك في الموقف من نظام عبد الكريم قاسم، برغم وضوح دعم الحزب الشيوعي العراقي له منذ يومه الأول . فقد نقل عن ميرفي، وكيل الخارجية الأمريكية، قوله في مؤتمر صحفي ببغداد في 5/8/1958 : لقد انتاب القلق الدوائر الغربية بداية، غير أن لقائي بالزعيم قاسم أوضح أن العراق لن يكون ولاية مصرية أو جمهورية سوفياتية ، فيما أكد الزعيم أنه سوف يصار إلى زيادة ضخ النفط بنسبة 150% . وبعدها بأيام اعترفت الولاياتالمتحدة بالجمهورية العراقية.
وبرغم انتكاسة الحركة القومية العربية وغياب الدور القومي لمصر ، وسيادة المنطق القطري ، استمرت محاربة الانتماء القومي العربي والطموح الوحدوي في مقدمة اهتمامات صناع قرار الإدارات الأمريكية المتعاقبة والإعلام الناطق بلسانهم ، كما يتضح ذلك في إشاعة مصطلح " الشرق الأوسط و شمال أفريقيا" و تعميمه حتى في أجهزة الإعلام العربية بدل مصطلح " الوطن العربي ". وفي تهميش اللغة العربية في المناهج والكتب الجامعية والمدرسية ، والأسواق والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية العربية . وفي موقف إدارة الرئيس بوش ، ومن جاءت بهم على ظهور دباباتها ، تجاه هوية العراق العربية .
وتعود أهم أسباب ذلك إلى إدراك صناع القرار الأمريكي ومستشاريهم أن الدولة القطرية العربية لم تحقق لشعوبها الديمقراطية و التنمية والعدالة الاجتماعية كما بشر بذلك الاقليميون العرب ، القدماء منهم والجدد ، في مطلع سبعينات القرن الماضي . بل وتزايد تخلف المجتمعات العربية عن مواكبة العصر ، بدليل افتقاد الأقطار العربية المنعة وتراجعها لتعتبر بين أكثر أقطار العالم تخلفاً وعرضة للتفجرات الاجتماعية ، كما تكرر القول في تقارير التنمية الإنسانية العربية الصادرة عن برنامج الأممالمتحدة الإنمائي منذ العام 2002 . ولا أحسب مراكز البحث الامريكية المختصة بالشؤون العربية لم تحذر من تداعيات عجز الأنظمة القطرية وجامعة الدول العربية عن تقديم الاستجابة الفاعلة تجاه التحديات الداخلية و الخارجية . أو انها لم تنبه لتنامي وعي النخب العربية لاستحالة تحقيق ذلك دون التوجه الجاد والصادق للتكامل القومي باعتباره الأداة الأقدر على التفاعل الإيجابي مع العولمة وتوفير متطلبات الاستفادة من التسارع المذهل في تقنية المعلومات و الاتصالات .
و تحسباً من هكذا احتمال دعا بريجنسكي، في كتابه " بين جيلين" الصادر سنة 1977، إلى إقامة " الشرق الأوسط الجديد" المشكل من كنتونات عرقية و طائفية. مما يعني أنه منذ عهد كارتر لم تعد الدولة القطرية العربية موضوع حرص الإدارة الأمريكية ، بعد أن غاب سبب الحرص عليها بانتكاس الحركة القومية و تراجع الطموح الوحدوي. وتوالت الدعوات الأمريكية لمؤتمرات اقتصادية تجمع عدداً متزايداً من ممثلي الأنظمة ورجال الأعمال العرب مع نظرائهم الاسرائيليين ، بهدف تعميق التطبيع مع الصهاينة باعتباره يقع في صلب مشروع النظام الشرق أوسطى المراد إقامته على أنقاض جامعة الدول العربية . ولتحقيق هذه الغاية اعتمدت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش سياسة " الفوضى الخلاقة "، لتفكيك بنى الأقطار العربية إلى مكوناتها الأثنية ، كما هو جار في العراق المحتل ، الذي أعلن غداة احتلاله أن سيكون إنموذجا لما سيجري تنفيذه في عموم الوطن العربي .
وباعتماد الإدارة الأمريكية استراتيجية التفتيت العرقي والطائفي ، لم يعد التحدي الأمريكي قاصراً على أصحاب الانتماء القومي العربي ، وإنما اتسع ليشمل أيضا الإسلاميين والوطنيين العرب كافة ، فضلا عن خطورته المجتمعية المتمثلة بتدمير التفاعل فيما بين مكونات المجتمعات العربية ، المتسم بالايجابية على مدى القرون الماضية ، بحيث لم تعرف الأرض العربية الحرب الأهلية التي تلوح نذرها في أفق أكثر من قطر عربي في الزمن الراهن. إذ أن بين قوى المجتمعات العربية من لديهم الاستعداد للعمل كبيادق شطرنج في مخطط التفتيت الأمريكي – الصهيوني.
ومع إدراك خطورة شعور صناع القرار الأمريكي باحتمالات فشل مخططهم إلا أن تصعيد العدوان سوف يؤدي لاتساع اطار المقاومة وتنمية الوعي على أهمية التكامل القومي . فضلا عن أن الواقع العربي لما يزل مؤهلا لتقديم الاستجابة الفاعلة في مواجهة التحدي الأمريكي في صيغته الجديدة ، إن أحسنت النخب الفكرية والسياسية توظيف ما تختزنه الأمة العربية من مكون حضاري وإرادة ممانعة ومقاومة الهيمنة والاستغلال الأجنبيين. وذلك بدعم المقاومة ، وتأصيل وتطوير الثقافة الوطنية ، واعتماد الحوار الديمقراطي فيما بين مختلف قوى المجتمعات العربية، والعمل الجاد لتشكيل جبهات وطنية قطرية من مختلف ألوان الطيف السياسي والفكري على قاعدة الالتزام بالأهداف الوطنية والقومية .