أصبحت المكتبة الدبلوماسية المصرية تتضمن مذكرات ما نستطيع أن نسميه الجيل الأول من الدبلوماسيين المصريين، حيث استقبلت مذكرات: د. محمود فوزي »حرب السويس«، د. أحمد عصمت عبدالمجيد »زمن الانكسار والانتصار، مواقف وتحديات في العالم العربي«، إسماعيل فهمي »التفاوض من أجل السلام في الشرق الاوسط«، محمد حافظ إسماعيل »أمن مصر القومي في زمن التحديات«، د. مراد غالب »مع عبدالناصر والسادات: سنوات الانتصار وأيام المحن«، محمد إبراهيم كامل »السلام الضائع«، د. أشرف غربال »سقوط و صعود العلاقات المصرية الامريكية«، محمود رياض: »مذكرات محمود رياض بين الانجاز والفشل: ثلاثة أجزاء«، كمال حسن علي »محاربون ومفاوضون«، د. بطرس بطرس غالي »طريق مصر إلي القدس«، »5 سنوات في بيت من زجاج، في انتظار بدر البدور«. واليوم تنضم إلي هذه القائمة مذكرات ما يمكن ان نسميهم الجيل الثاني من الدبلوماسية المصرية ابتداء من التوصل إلي اتفاقية الجلاء عام 4591، إلي حرب السويس عام 6591، و معارك التحرر الوطني، وبروز حركة عدم الانحياز، والوحدة الافريقية، والهم الأكبر الذي سوف يكون محور عملهم وعمل ومشاغل الاجيال التي تليهم وهي القضية الفلسطينية و الصراع العربي الاسرائيلي والذي بلغ قمته في الواقعة الكبري وهي حرب وهزيمة 7691، والعمل الدبلوماسي في التعامل مع تداعيات هذه الحرب وصولا إلي الاعداد الدبلوماسي لحرب التحرير عام 3791، ثم تحولات السياسة الخارجية المصرية والتي كان في جوهرها التحول من التعاون والصداقة مع الاتحاد السوفيتي، إلي التعاون والمشاركة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية وهو التحول الذي توازي معه مبادرة السلام العربية وزيارة القدس وصولا إلي اتفاقيات كامب ديفيد وتداعياتها علي محيط مصر العربي وعلاقاتها العربية و تطورها إلي ما سوف يعرف بعملية السلام في الشرق الاوسط ودور مصر و الدبلوماسية المصرية في مراحلها المختلفة ومن أبرزها مؤتمر مدريد لسلام الشرق الاوسط و الدور الأمريكي فيه وهو التطور الذي سبقه حرب تحرير الكويت والائتلاف الدولي الذي قادته الولاياتالمتحدة والمشاركة المصرية فيه. واليوم يطل علينا أحد الوجوه البارزة لهذا الجيل السفير عبدالرءوف الريدي بمذكراته عن معاصرته لهذه القضايا »رحلة العمر الولاياتالمتحدة ومعارك الحرب والسلام ، دار نهضة مصر 1102«. ويحرص السفير الريدي في بداية روايته لرحلته علي أن يستعيد ويسجل المنطقة التي نشأ فيها وتمحورت حول مدينة عزبة البرج وجوارها لدمياط والمدينة التي تقع علي الشاطيء المقابل »و التي يتم بناؤها وتفكيكها مرة كل عام« وهي رأس البر، وقد فسر لي هذا ما لاحظته عن حرص السفير الريدي عندما جاء سفيرا لمصر في واشنطن علي أن يحتفظ في مكتبته بلوحات زيتية تصور البحر والصيد والصيادين وهي البيئة التي لم تتأثر علاقته بها حتي اليوم. ويتوقف السفير الريدي عند عام 0591 وهو العام المليء بالاحداث علي المستوي الوطني وعلي المستوي الشخصي وحيث كانت القاهرة في اوائل الخمسينات تبدو حبلي لاحداث جسام علي وشك الوقوع فهي الفترة التي ألغي فيها رئيس الحكومة النحاس باشا معاهدة عام 6391 وكانت الجامعة انعكاس للحياة السياسية في مصر وكانت فيها كل الاحزاب والقوي الوفديون والشيعيون والاشتراكيون وشباب الحزب الاشتراكي ويتذكر الاساتذة الذين درس عليهم وتأثر بهم مثل الدكتور حسن خلاف ومصطفي كامل والشيخ علي الخفيف وعبدالوهاب خلاف والدكتور محمد حلمي مراد. في هذه الاثناء ايضا عادت القضية الوطنية و احتلت مركز الصدارة الذي كانت قضية فلسطين قد انتزعته من قبل بسبب قرار التقسيم و حرب فلسطين. ويسجل السفير الريدي كيف تلقي نبأ ثورة 32 يوليو 2591 واحداثها المباشرة وانعكاساتها علي التيارات السياسية في مصر وبدء ظهور الخلافات بين اعضاء مجلس قيادة الثورة و التي تركزت حول قضية الديمقراطية وحيث كان السفير الريدي يؤيد الفريق نجيب وخالد محيي الدين خشية من ان تتحول البلاد إلي حكم عسكري. ويتوقف السفير الريدي بشكل خاص عند عام 5591 وهو العام الذي شهد تحولا في فكر عبدالناصر فأخذ يتحول عن طريق التعاون مع الغرب إلي خط آخر يقوم علي اساس التصدي للاستعمار في المنطقة والدعوة إلي القومية العربية وتحرير فلسطين ثم الحادث الفاصل عندما أمم جمال عبدالناصر قناة السويس ردا علي القرار الامريكي بسحب عرض التمويل للسد العالي وتداعيات هذا الحدث التي انتهت بالعدوان الثلاثي علي مصر عام 6591 وكيف عولج هذا الحدث في الاممالمتحدة والموقف الامريكي الذي تقدم به السفير هنري كابوت بتعليمات من ايزنهاور بمشروع قرار يطالب اسرائيل بالانسحاب من الاراضي المصرية، ثم يركز علي دور السكرتير العام داج همرشولد وبيانه الذي ألقاه حول قدسية مباديء الاممالمتحدة وواجب السكرتير العام الذي وجد أن هذه المباديء قد تعرضت للانتهاك والمعني الذي تركه بيان همرشولد في الاذهان والذي انطوي علي تهديد بالاستقالة عن منصبه وهو البيان الذي قوبل بتعبير اعضاء مجلس الامن عن ثقتهم في السكرتير العام ثم انتقال الامر نتيجة استخدام حق الفيتو في جلسة استئنائية وكان أهم عمل ينتظر الجمعية العامة هو صدور قرار يطالب الدول المعتدية بوقف اطلاق النار والانسحاب من الاراضي المحتلة وقد صدر هذا القرار بأغلبية ساحقة وصوتت الولاياتالمتحدةالامريكية والاتحاد السوفيتي لصالحه. ويكشف السفير الريدي عن تطور هام في تناول العدوان علي مصر في الاممالمتحدة حين حاول لستربيرسون وزير خارجية كندا باقتراح تقدم به للجمعية العامة يقضي بتشكيل قوة تتبع الاممالمتحدة تقوم بحفظ السلام في المنطقة وكيف كان هدفه الاساسي اعطاء مخرج قانوني لبريطانيا وفرنسا في محاولة لتصوير القوات الغازية وكأنها قوات دولية تعمل هناك تحت مظلة الاممالمتحدة وكانت المفاوضات التي جرت بعد ذلك حاسمة في رفض ما كان بيرسون يسعي إليه. و ازاء الضغوط التي اخذت تتضاعف علي ايدن بشكلا خاص والقادمة في كل اتجاه سواء من المقاومة المصرية الشعبية إلي نسف انابيب البترول علي السواحل السورية و استمرار موقف ايزنهاور علي العدوان لم يستطيع ايدن مقاومة كل هذه الضغوط واصبح البحث عن طريق للتراجع، وهنا ظهر الاقتراح الكندي مرة اخري ولكن ليس ورقة نجاة ولكن ورقة التوت التي يمكن من خلالها ان يعلن ايدن متظاهرا أن انسحاب القوات يأتي في اطار قرار الجمعية العامة لانشاء القوات الدولية التي ستتوجه إلي مصر كقوة سلام. وهنا يبرز السفير الريدي دور سكرتير عام الاممالمتحدة داج همرشولد وكيف كان الاتفاق حول هذه القوة أعمق القضايا التي واجهته ودون ان تكون هناك اي سابقة يمكنها الاعتماد عليها. وقد استطاع همرشولدأن يملأ الفراغ الدبلوماسي الذي نتج عن عدم استطاعته جمع اطراف النزاع حول مائدة التفاوض فقام هو بهذه المهمة من خلال اتصاله بالاطراف وقد ادي نجاح همرشولد في ازمة السويس إلي أن اصبح شخصية عالمية مما جعل الدول تلجأ اليه كلما ظهرت ازمة في الافق. في هذا السياق يستعيد السفير الريدي ما حاوله داج همرشولد من أن ينتهز انتصار مصر السياسي في ازمة السويس لكي يحولها إلي فرصة تاريخية تستطيع مصر ان تنتهزها للتوصل إلي حل للمشكلة الفلسطينية من خلال ايجاد ترتيبات متفق عليها تحول دون انفجار الموقف علي الجبهة المصرية الاسرائيلية مرة أخري وهو الاقتراح الذي طرحه امام الرئيس جمال عبدالناصر وقال انه يقدم نصيحته بكل ما يملك من جدية ودعوته الا تفلت من ايدينا فرصة قد لا تأتي الا نادرا بل قد لا تأتي مرة أخري للخروج من هذا النفق المظلم إلي طريق الاستقرار، الا ان مصر لم تستجب لهمرشولد وظلت متمسكة بنظرية حالة الحرب واصلت منع السفن الاسرائيلية المرور في قناة السويس وان كانت اغمضت عينيها عن مرورها من خليج العقبة. ويعقب السفير الريدي بفقرة مليئة بالمعاني: كان همرشولد يقرأ الغيب، فقد تحققت بنوءته بعد عشرة أعوام عندما انهار الموقف في 7691 وطلبت مصر بسحب قوات الطواريء وأغلقت خليج العقبة مستخدمة في ذلك نظرية حالة الحرب وهو ما ادي في النهاية إلي حالة فاعلية ودخلت مصر في هذا النفق المظلم الذي تنبأ به همرشولد من عشرة أعوام. ومثلما يتذكر السفير الريدي داج همرشولد فأنه يتذكر همرشولد المصري وهو الدكتور محمد فوزي والذي كان نجم الدبلوماسية المصرية في مفاوضات أزمة السويس بحيث كانت ادارته لهذه الأزمة هي اكثر لحظات تاريخه تألقا واصبح اسمه مقترنا بها. ويسجل السفير الريدي تداعيات أزمة السويس علي الشرق الاوسط والذي كان من ابرزها اعلان ما سوف يعرف بمبدأ ايزنهاور والذي اصبح بما أثاره من ردود فعل في المنطقة بمثابة نقطة تحول في تبعئة المشاعر في المنطقة ضد السياسة الامريكية.