حين دعا جورج بوش الأب لمؤتمر مدريد سنة 1991 لم يفت البعض إدراك أن الرئيس الأمريكي يعيد إنتاج ما اعتاده دهاقنة الاستعمار البريطاني طوال زمن الانتداب على فلسطين من طرح مبادرات للتفاوض من أجل التفاوض وليس للوصول الى حل يلبي الحد الأدنى من المطالب العربية المشروعة. ذلك لأن الدعوة اتسمت بالغموض بحيث تتيح لكل طرف أن يرى فيها ما يبرر قبوله لها. إذ تأسست على مبدأ “الأرض مقابل السلام” من دون تحديد لمساحة “الأرض” التي ستجلو عنها “إسرائيل” أو طبيعة “السلام” المراد إقامته معها. ثم إن المؤتمر لم يعقد تحت مظلة الأممالمتحدة بحيث يلتزم أطرافه بقرارات الشرعية الدولية. ولا يعوض ذلك مشاركة أمانة الأممالمتحدة في رعاية المؤتمر، إذ لم يكن ممثلها سوى شاهد على ما ينتهي إليه الأطراف. ولأن اسحق شامير، رئيس الوزراء “الإسرائيلي” حينذاك، بدا مدركا الغاية المستهدفة أعلن انه سوف يمضي بالتفاوض عشرين عاما من دون أن يقدم أدنى تنازل.
والذين تفاءلوا باعتماد القرار 242 مرجعية لما سمي “عملية السلام” لم يأخذوا في الحسبان أن قرار مجلس الأمن لم يصدر إلا بعد مباحثات مستفيضة تجاوزت أربعة شهور سنة ،1967 فيما جاء القرار 338 سنة 1974 لتأكيد ما سبق الاتفاق عليه ولم ينفذ بقرار أمريكي. ويومها نبهت، وأكثر من محلل سياسي عربي، إلى أن طرح القرارين في مؤتمر مدريد المراد به إعادة التفاوض على مضمونهما لإتاحة الفرصة ل”إسرائيل” والإدارة الأمريكية للتنصل مما سبق والتزمتا به، وقد بات الظرف الدولي والإقليمي في غير مصلحة العرب كما كان عليه سنة 1967.
وعشية مؤتمر مدريد أعادت القيادات العربية إنتاج أخطاء قيادات ما قبل سنة ،1948 مما يؤكد عدم استفادتها ومستشاروها من تجارب الصراع العربي الصهيوني. فمن جهة أولى ارتضت الأنظمة المشاركة في المؤتمر تعدد مسارات التفاوض، برغم وحدة الموضوع المتمثل بالاحتلال “الإسرائيلي” للأرض العربية. وبذلك خسرت وحدة الموقف، وأتاحت للإدارة الأمريكية، كما ل”إسرائيل”، استغلال التناقضات الثانوية فيما بين الأطراف العربية المشاركة بأن أدخلتها في تنافس استدعى من بعضها تقديم تنازلات.
ومن جهة ثانية ارتضت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن تمثل بأعضاء مستقلين، في تناقض مع اعتبار المنظمة الممثل الشرعي والوحيد لشعب فلسطين. كما ارتضت ألا يكون لفلسطين وفدها المستقل، وإنما مشاركته تحت مظلة الوفد الأردني، في تجاوز لاستقلالية القرار الوطني الفلسطيني الذي كانت ترفعه شعاراً. ويذكر جيمس بيكر في مذكراته أنه لو امتنعت المنظمة عن الحضور لما شارك في المؤتمر أي وفد عربي. وفي هذا القول دلالة على أن قيادة المنظمة لم تحسن تقدير الوزن النسبي للقضية الفلسطينية في الصراع، كما يؤشر إلى أنها كانت مسكونة بثقافة الهزيمة. إذ لو أصرت على المشاركة بوفد من المنظمة مستقل لما اضطرت فيما بعد للدخول في دهاليز أوسلو والالتزام بالاتفاق سيئ السمعة.
ولأن “عملية” إشاعة أوهام “السلام” كانت مقصودة بذاتها، لم تحقق المبادرات التي توالت على مدى السنوات الست عشرة الماضية أي تقدم باتجاه تنفيذ مبدأ “الأرض مقابل السلام”، بينما مضت “إسرائيل” في فرض المزيد من الاستيطان كأمر واقع. وتحسباً من انقشاع الغشاوة عن عيون الحالمين بالترياق الأمريكي، كنتيجة لعدم إحراز أي تقدم فيما يسمى “عملية السلام”، اعتادت الإدارات الأمريكية المتعاقبة طرح “مبادرة” جديدة بين الحين والآخر، بحيث توالت مبادرات “متشيل” و”تينت” و”خريطة الطريق”. وأخيرا جاءت وزيرة الخارجية رايس لبعث “رمام” العملية التي كان عمرو موسى قد أعلن وفاتها.
ولعله من حسن طالع صادقي الالتزام باتفاق مكة انكشاف طبيعة مهمة رايس، إذ تزامنت زيارتها للقدس المحتلة مع تنفيذ الصهاينة حفريات في منطقة الحرم القدسي الشريف، في تجاوز صارخ لقراري الجمعية العامة للأمم المتحدة 2253 في 4/7/1967 و 2254 في 14/7/1967 باعتبار ضم “إسرائيل” للقدس الشرقية غير مشروع، وتأكيد مجلس الأمن على عدم جواز ذلك بقراريه 250 في 27/4/1968 و252 في 21/8/1968. ومخالفة الحفريات لاتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 التي لا تجيز للمحتل تغيير معالم الأرض المحتلة، وقرار اليونسكو رقم 15/30243 سنة 1968 بضرورة الحفاظ على الممتلكات الثقافية في الأرض المحتلة، وقراريها 217/30422 سنة 1972 و 218/30437 سنة 1974 باعتبار الحفريات الصهيونية بالقدس غير مشروعة.
وفضلاً عن ذلك فالحفريات غير مقصود بها إقامة جسر عند بوابة الحرم الشريف كما هو معلن، ولا البحث عن بقايا الهيكل كما يقال بشأن بقية الحفريات الجارية في أغلب نواحي البلدة القديمة بالقدس. وإنما غاية الحفريات تدمير المعالم الأثرية العربية الإسلامية والمسيحية لطمس التاريخ الحق للمدينة عربية النشأة والتراث، تمهيدا لتهويدها الكامل، كما يقر بذلك الكاتب “الإسرائيلي” ميرون ربابورت “هآرتس” في 16/2/2007 حيث يقول، “لا يفكر أحد في القدس، يهودياً أو عربياً، بأن تلة الجسر هي مشكلة تتعلق بالتخطيط والتنظيم فقط، المعركة حول الجسر هي جزء من السيطرة في البلدة القديمة عموما، وفوق جبل الهيكل خصوصاً”.
وبرغم ذلك لم تنبس الوزيرة رايس بكلمة إدانة واحدة لإجراء الحفريات أو تتحفظ على إعلان أولمرت عدم استعداده للتخلي عن القدس الموحدة عاصمة أبدية ل”إسرائيل” أو الانسحاب لحدود 1967 أو تنفيذ حق العودة. وبدلا من ذلك واصلت التأكيد على أن حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية يجب ان تلبي اشتراطات الرباعية لكي يصار البحث بإقامة دولتين متجاورتين. ولم تشر أدنى إشارة الى حدود كل من الدولتين، أو تذكر موقع العاصمة الفلسطينية، ما دام أولمرت يؤكد إجماع الصهاينة على أن تبقى القدس موحدة وعاصمة ل”إسرائيل”. وبسكوت الوزيرة رايس عن مخالفة “إسرائيل” القرارات الدولية بشأن الحفريات واكتفائها بالإعراب عن تفهمها لقلق العرب، كما في قبولها الضمني لاءات أولمرت الثلاث، وبعدم ذكرها لحدود الدولتين وموقع العاصمة الفلسطينية، بكل ذلك فإنها بالذي قالته ووعدت به في لقاء أولمرت وأبي مازن ومؤتمراتها الصحافية لم تجاوز عملية إشاعة أوهام السلام، سعيا لإغواء المراهن عليهم لإجهاض اتفاق مكة. وهذا هو التحدي الذي يواجه صناع القرار الفلسطيني الخاص والعربي العام.