تبدي الدوائر الإسرائيلية ارتياحاً كبيراً لموافقة السلطة الفلسطينية على الوفاء بالتزاماتها الواردة في البند الأول من خريطة الطريق كشرط للتقدم على طريق المفاوضات، وقبل ذلك توفير فرص النجاح لمؤتمر أنابوليس، والبند المذكور لمن لا يتذكر هو المتعلق بحل المجموعات المسلحة وجمع سلاحها ووقف مختلف أشكال المقاومة، بما في ذلك التحريض، نعم التحريض.
ويرى الإسرائيليون، ومن رائهم بالطبع كوندوليزا رايس وزعيمها جورج بوش أن هذه الموافقة ستفسح المجال أمام التقدم في صياغة الوثيقة أو البيان المتعلق بقمة أنابوليس، التي لم يحدد موعدها النهائي إلى الآن بسبب المشاكل الإجرائية التي تعترضها، ومن ضمنها معركة المزايدة السياسية بين قيادات الدولة العبرية، وعلى رأسهم كلاً أولمرت ووزير دفاعه إيهود باراك، لاسيما أن وزيرة الخارجية تسيبي ليفني التي تمسك بملف القمة العتيدة وبيانها "التاريخي" تبدو أقرب إلى الأول منها إلى الثاني.
نتذكر هنا أن البداية المشار إليها، والتي يركز عليها الإسرائيليون هي ذاتها التي افتتح بها مسلسل أوسلو بعد إنشاء السلطة الفلسطينية في قطاع غزة وأريحا عام 1994، وبالطبع بعد شهور من توقيع الاتفاق في سبتمبر عام 1993، وجاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لكي يكرسها فيما سماه "التبادلية" التي تتلخص في معادلة (المزيد من إعادة انتشار الجيش الإٍسرائيلي في مناطق السكان الفلسطينيين مقابل المزيد من الأمن للإسرائيليين).
على هذه القاعدة البائسة والمثيرة للقهر، والتي تلخص في واقع الحال البعد الأمني لاتفاق أوسلو، جرت المطاردة المحمومة لكل أشكال المقاومة منذ إنشاء السلطة وحتى نهاية التسعينيات، وعلى إيقاع بنودها جرى التخلص من جميع المتمردين على برنامج التعاون الأمني الذي أثبت فعالية مشهودة باصطياده لرموز المقاومة الكبار واحداً تلو الآخر، من المهندس يحيى عياش إلى المهندس محيي الدين الشريف إلى عماد وعادل عوض الله وسواهم الكثير ممن قتلوا أو سلموا للإسرائيليين بشكل غير مباشر، فضلاً عن وضع شبان العمل المسلح ومن يسندونهم من السياسيين رهن الاعتقال في سجون السلطة الفلسطينية. ونتذكر كيف اندلعت انتفاضة الأقصى سبتمبر عام 2000، فيما كان خيرة الرجال رهن الاعتقال، فكان أن تحول معظمهم لاحقاً إلى شهداء أو أسرى لدى الاحتلال، أما من تبقى منهم وهم قلة، فمنهم من اعتقل خلال الحملات الأمنية الأخيرة، ومنهم من سيعتقل لاحقا.
الآن يمكن القول إن السلطة لم توافق على تنفيذ البند الأول من خريطة الطريق فحسب، بل شرعت بالفعل في تنفيذ المطلوب، وبالطبع على أمل الحصول على بعض الحوافز المقابلة التي يمكن من خلالها تسويق ما يجري، مثل الإفراج عن بعض السجناء أو إزالة بعض الحواجز، فضلاً عن الإفراج عن بعض الأموال. وما المطاردة التي تجري لحماس في الضفة الغربية واستمالة بعض مجموعات المقاومة من أجل تسليم سلاحها، إلى جانب استلام الأمن في نابلس خلال النهار، ما ذلك سوى جزء لا يتجزأ من تنفيذ المطلوب وإثبات حسن النوايا، الأمر الذي ظهرت نتائجه على الأرض مدائح إسرائيلية للجانب الفلسطيني تتحدث عن وجود شريك يمكن السير معه في طريق السلام، مع مطالبات من قبل بعض الكتاب والسياسيين بتقديم مزيد من الحوافز للسلطة كي تمضي قدماً في طريق السلام، مع مطالب معاكسة بمزيد من فرض الحصار على حماس في قطاع غزة.
ولكن ماذا عن وثيقة المؤتمر الموعودة التي جرى الحديث عنها طوال الأسابيع الماضية وجعلتها السلطة وبعض الدول العربية شرطاً لحضور المؤتمر؟ من الواضح أن الوثيقة المذكورة ستكون موجودة بحسب أرجح التقديرات، لكنها ستكون كما أشرنا مراراً، وثيقة تعتمد "الغموض البناء" الذي يتيح لكل طرف أن يأخذ منها ما يشاء، وستركز حسب المصادر الإسرائيلية على هدف المفاوضات ممثلاً في "إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة إلى جانب دولة إسرائيل"، مع الإشارة إلى حدود 67 من دون تحديدها، ومن ثم الحديث عن تبادل عادل وملائم للأراضي من دون تحديد النسب، مع العلم أن وضع نسبة واحد إلى واحد لن يغير شيئاً في بؤس الوثيقة، لأن أراضي القدس والأراضي التي تؤوي أحواض المياه في الضفة الغربية وتقسّمها إلى كانتونات لايمكن أن تقارن بذات النسبة من الأرض في صحراء النقب. وفيما يمكن الإشارة إلى القدس كعاصمة للدولتين، فلن يجري التطرق إلى أية تفاصيل أخرى تثير الغبار وتفجر الخلاف مثل مكانة الحوض المقدس والمسجد الأقصى، مع العلم أن قمة كامب ديفيد لم تنفجر بسبب الحديث العام عن كون القدس عاصمة للدولتين، وإنما بسبب التفاصيل المتعلقة بالمسجد الأقصى وما حوله، وتفاصيل التسوية الأخرى داخل حدود القدس. ويبقى ملف اللاجئين الذي ستصاغ من أجله عبارات لا تفضح تماماً تنازل السلطة عن حق العودة، لكنها ستشير إليه عبر الحديث عن الحل المتفق عليه، وعن التعويض وأخذ معاناة اللاجئين بعين الاعتبار.
ما يعنينا هنا بعيداً عن كل هذه التفاصيل التي يعرف الإسرائيليون كيف يلتفون عليها حتى لو كانت لصالح الفلسطينيين في الأصل، هو أن مسيرة "أوسلوية" عبثية جديدة ستمضي في طريقها، رغم إدراك الجميع أن أصحابها لن يحصلوا في نهايتها على ما حصلوا عليه في كامب ديفيد. والأسوأ أن ينطوي ذلك كله على مسيرة تطبيع مجانية جديدة كما يأمل الإسرائيليون والأمريكان، فضلاً عن تهيئة الأجواء لضرب إيران.
هذا الإدراك المشار إليه، إضافة إلى عجز قيادة السلطة عن فرض إرادتها على الجماهير وقوى المقاومة، بما فيها حركة فتح، لن يسمح لهذه اللعبة بالمرور على نحو ما وقع للعبة أوسلو، فما هو سوى بعض الوقت حتى تنفجر الأوضاع من جديد، لاسيما إذا ضربت إيران وتصاعد منسوب الفوضى في المنطقة إثر فشل المخطط الأمريكي في ترتيب الوضع العراقي والعربي على نحو يعيد تشكيل المنطقة ويرتب أوراقها لصالح الزعامة الإسرائيلية.