بين مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد في العاصمة الاسبانية في خريف العام 1991، ومؤتمر «بوش» للسلام الذي سيعقد على الأراضي الأميركية في الخريف المقبل فقد العرب رزمة من الأوراق، وحرقوا «كروتاً»، وتخلوا عن «مواقف»، كانت كلها تعينهم على تحمل مشقة التفاوض مع الإسرائيليين، ومقاومة رد فعل منهم تجاه انحياز «الصديق» الاميركي الذي يفترض أنه محايد. رحب العرب تصريحاً وتلميحاً بدعوة بوش الابن الى عقد مؤتمر دول السلام رغم أنهم لا يعرفون حتى الآن «أجندة المؤتمر» أو حتى ما إذا كانت كل الأطراف العربية ذات الصلة بالصراع مع إسرائيل ستشارك فيه أم لا. وهم كانوا (أي العرب) استجابوا لدعوة بوش الأب قبل نحو 16 سنة وجلسوا يتفاوضون مع الإسرائيليين في مناقشات ثنائية بين أطراف النزاع العربية (لبنان وسورية والأردن وفلسطين) وأخرى متعددة الأطراف وبحثوا في المواضيع محل النزاع تحت مبدأ «الأرض مقابل السلام» وقرارات مجلس الأمن 242 و338 و425.
عقد مؤتمر مدريد بدعوة من بوش الأب وبمبادرة منه في أعقاب حرب الخليج، ولكن برعاية مشتركة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي السابق. أما «مؤتمر الابن» فيعقد ولا يوجد في العالم ما يسمى بالاتحاد السوفياتي، وعلى ذلك فالداعي هو الراعي وهو أيضاً المستفيد. ليس خافياً أن الأطراف المشاركة في المؤتمر المقبل التي لم تُعرف أصلاً على يقين بأن نتائج مؤتمر الابن لن تخرج عما خرج به مؤتمر الأب الذي نال دعماً معنوياً وسياسياً حيث كان في أشد الحاجة لالتفاف العالم حوله بعد حرب الخليج. دار الزمن وصار الابن هو ايضاً أشد احتياجاً لمؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط بعد اخفاقات السياسة الاميركية في العراق والشرق الأوسط ومناطق أخرى في العالم وفي ملفات عدة صار الاميركيون على صلة بها وغرقوا فيها.
يبحث الابن عن تحسين صورة مرفوضة داخلياً ومشوهة خارجياً، فبحث في ملفات الاب القديمة ووجد ضالته في الصراع العربي - الإسرائيلي ليلعب مجدداً على أوتاره علها تعزف لحن السلام الذي نعلم أنه لا يحتاج إلى مؤتمرات بقدر احتياجه إلى إرادة سياسية حقيقية لتشخيص المرض وتحديد الدواء، والعلاج سهل ويسير، لكن الراعي يأبى إلا أن يسقي الدواء للطرف الاضعف.
سار الأردن والفلسطينيون في المفاوضات على حدة مع إسرائيل بعد مؤتمر مدريد، لكن سورية ولبنان التزما بوحدة مساريهما التفاوضيين، والعرب في اجتماع وزراء خارجيتهم الأخير طالبوا بمشاركة سورية ولبنان في المؤتمر المقبل والأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى رحب بفكرة المؤتمر وإن تحفظ على تحديد إعلان خطة واضحة له وكذلك عدم تحديد الأطراف المشاركة فيه من دون تخوف من نتائجه، لكن اعتقاداً يسود بأن لا المؤتمر سيحل قضية ولا الإسرائيليون سيعطون العرب شيئاً في زمن فقد فيه العرب القدرة على التأثير، ويبدو وجه الخلاف بين المؤتمرين أن الأب كان يسعى إلى صورة كاملة في حين أن الابن يرغب في جزء منها إذ لا يبدو في الأفق توافق إسرائيلي أميركي على حل يكون لبنان وسورية طرفين في معادلته، والظاهر أن بوش الابن يريد انتصاراً سياسياً إعلامياً معنوياً يتعلق بالقضية الفلسطينية وحدها وإن كان من المستبعد أن ينتصر والعرب في آن. فكل المؤتمرات التي عقدت والمفاوضات التي جرت بين الإسرائيليين والفلسطينيين برعاية الاميركيين أو اللجنة الرباعية أو بوساطة مصرية لم تحقق شيئاً، بل إن بعض نتائجها أفرز أوضاعاً سيئة زادت من معضلة القضية الفلسطينية، وما الوضع في غزة الآن إلا نتيجة لتعنت إسرائيل ومساندة أميركا لها على حساب كل الأطراف الفلسطينية بما فيها السلطة التي يرى فيها الاسرائيليون والاميركيون شريكاً يمكن التفاوض معه، لكن من دون أن يعطوا ذلك الشريك شيئاً يعطيه الافضلية على أطراف فلسطينية أخرى لا تتفاوض ولا يُتفاوض معها فتكون النتيجة واحدة بعد كل مؤتمر: إذ يخرج الشريك الذي قبل بالتفاوض خاسراً ويربح من رفض التفاوض اذ انه لم يخسر شيئاً.