على الرغم من الجو الرومانسى الصوفى الذى يحيط برواية «نسكافيه» للأديب السيد حافظ، فإن المرء لا يمكن أن يتجاهل هذا الجانب الملحمى الذى يغلف هذه الرواية ويعطيها قدرا من الفخامة الفكرية. تلك الروح الفكرية التى تمزج بين الوجدان والعقل، فسرعان ما تنقل القارئ من هذه الأحداث الرومانسية إلى صدمة تنويرية يرصد من خلالها المؤلف لحظات صادقة وصادمة من تاريخ مصر والأمة العربية. فقد استخدم المؤلف أسلوبا فنيا مزج فيه روح الرواية بروح المسرح؛ إذ استخدم المؤلف بعض الحواشى التى أطلق عليها اسمى «همسة» و«تنهيدة» كى يرصد من خلالها بعض مشاعره الإنسانية أو يرصد حدثا تاريخيا أو إنسانيا أو سياسيا يمثل أحداثا هاما فى تاريخ الأمة العربية بكل متناقضاتها الموجعة والمؤلمة. لفت نظرى فى هذه الرواية استخدام المؤلف تقنية فنية أطلق عليها «همسة» تتشابه من حيث التقنية مع تقنيات المسرح التسجيلى الذى يرصد أحداثا بعينها، ويطرحها على خشبة المسرح كاسرا بها الإيهام المسرحى، مستعينا فى ذلك بتقنيات إخراجية مثل الشرائح الفيلمية. وهنا نجد تشابها فى هذا المنهج المسرحى مع استخدام السيد حافظ للهمسة التى تخرج بالقارئ من حالة الاندماج الوجدانى مع أحداث الرواية الرومانسية لتصدمه بحقيقة الواقع المأسوى فى العالم العربى كله ومصر خاصة. واستخدام المؤلف تقنية المقابلة بين «مصر العظيمة» و«مصر العبيطة» كأنه يرصد التناقض الموجود فى الشخصية المصرية من خلال هذه المقابلة. ومن خلال هذه المقابلة يصدم المؤلف القارئ بما وصل إليه حاله فى العصر الحديث؛ كيف أنه مع الأسف يتقدم إلى الخلف لا إلى الأمام. «مصر العظيمة والأمة العربية العظيمة تشاهد حتى الآن أفلام السندريلا وتسمع أغانيها. ومصر العبيطة تدفع إلى هيفاء وهبى مليون جنيه لتسجيل أغنية وسبعة ملايين دولار بطولة فيلم». ما يميز هذه الهمسات أنها لم تنصب على إحدى نواحى الحياة من فن أو سياسة أو اقتصاد، بل شملت جميع نواحى حياة الأمة العربية ومصر بما تحويه من تناقضات عديدة تحمل قدرا من المرارة والحسرة على مصر أو الأمة العربية التى تعبث بتاريخها الفنى والاجتماعى، ولا تقدر إعلامها وشخصياتها المميزة التى أصبغت عليها صفات العظمة والمجد، وحطت من قدر من أعطاها ولم تحافظ عليهم؛ فعلى الجانب الفنى، يتذكر المؤلف أعلام الفن فى مصر، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر إسماعيل ياسين الذى تركته مصر العبيطة «يتسول فقيرا» وشكوكو الذى «قتلته جوعا وتنكرت له» وعماد حمدى الذى «تركته يموت معدما وكأنه يتسول دورا أو مالا»، ومثل محمد فريد الزعيم المصرى الذى «أنفق ثروته فى سبيل القضية المصرية» وأعلن مطالب مصر: الجلاء والدستور، ومع ذلك «مصر العبيطة لا تحتفل بذكرى وفاته أو ميلاده أو تقدم مسلسلا تليفزيونيا عنه». وهو ما حدث أيضا مع الاقتصادى المصرى طلعت حرب. لم أتيقن تماما هل اختفى السيد حافظ أو أراد أن يصيبنا بالمرارة حين أشار إلى تعامل مصر والأمة العربية مع الأدباء الخالدين فى تاريخ الحركة الأدبية العربية من شعر ورواية ومؤلفات مسرحية، مثل شاعر النيل حافظ إبراهيم صاحب قصيدة «مصر تتحدث عن نفسها» على سبيل المثال لا الحصر، لكنها فى النهاية «قتلته فقرا حتى النخاع وإهمالا» حتى كتب قائلا: «فما أنت يا مصر بلد الأديب» عبقرية الأمة العربية الشعرية ومع ذلك فإن «الأمة العربية قتلته ومثلت بجثته»، كما فعلت هذه الأمة مع الجاحظ الكاتب الساخر؛ حينما «قهرته وهو حى حتى عمل سماكا ليأكل ويكتب». أما الساسة فكان لهم حظ من حرارة السيدة حافظ؛ هؤلاء الزعماء الذين ضحَّوا بحياتهم من أجل رفعة ومجد مصر والأمة العربية، بدءا من طارق بن زياد فاتح الأندلس الذى «قتلته الأمة العربية العبيطة، ومرورا بعبد الله النديم المناضل الشاعر الذى خانته مصر العبيطة وسلمته إلى الإنجليز مقابل ألف جنيه مكافأة وتركوا جثته فى إسطنبول منفيا حتى الآن». وتمشيا مع قول الشاعر المأثور بأنه «وكم ذا بمصرَ من المضحكاتِ! ولكنه ضحك كالبكا»، يرصد السيد حافظ المتناقضات المليئة بالسخرية المريرة التى تتشابه مع الكوميديا السوداء فى رصده لتناقضات الواقع الاجتماعى المصرى الملىء بالفقر والجهل والعوز، كما أنه ملىء بالسفه، كما أنها تعج بالنفاق الاجتماعى والكذب، كما فى حالة الشاعر المسرحى نجيب سرور الذى قتلته مصر العبيطة «ومشى القتلة فى جنازة وأخذوا العزاء فى النهاية». لا يمكن قراءة هذه التنهيدات التى عرضت بعضها إلا ويشعر القارئ كأنها قراءة فى دفتر أحوال هذا الوطن الملىء بالتناقضات المريرة التى تجعل الرواية ليست مجرد عمل أدبى فحسب، بل وتاريخا لهذا الوطن الذى يعج بحالة من الصخب تفقد المرء القدرة على التأمل فى أحواله وتاريخه، وهو ما استطاع بحِرفية شديدة السيد حافظ تقديمه فى روايته «نسكافيه» ليجعل منها إضافة وتجديدا لفن الرواية فى مصر .