الجامعات التكنولوجية تستعد لتخريج الدفعة الثانية    مواجهات عنيفة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال في محيط مخيم العين بالضفة المحتلة    الخارجية السودانية تصدر بيانا بشأن الأزمة مع الإمارات.. ماذا حدث؟    موعد مباراة الأرجنتين وتشيلي في كوبا أمريكا 2024    افتتاح وحدة علاج الجلطات والسكتة الدماغية فى مستشفيات «عين شمس» قريبًا    صمت 89 دقيقة ثم انفجر، لحظة ثورة مبابي على ديشامب لعدم مشاركته أمام هولندا (فيديو)    التشكيل الرسمي لمباراة تشيلي وبيرو في كوبا أمريكا 2024    البرتغال وتركيا.. مواجهة مشتعلة على التأهل المبكر في يورو 2024    العثور على جثة طفل ملقاة بالزراعات في البداري بأسيوط    تصل ل 45 درجة.. طقس اليوم شديد الحرارة على كافة أنحاء الجمهورية    كلب مفترس يعقر 12 شخصا بقرية الرئيسية في قنا    انتشال 14 جثة بعد غرق مركب مهاجرين أمام سواحل إيطاليا    دار الإفتاء تكشف حكم قراءة المرأة القرآن بدون حجاب    أهم أنواع السيارات في مصر    قتيلان ومصابون إثر إطلاق نار بولاية أركنساس الأمريكية    سفينة تبلغ عن وقوع انفجار في محيطها شرقي مدينة عدن اليمنية    فوق ال 7 من 10.. «رابطة الأندية» تكشف مفاجأة بشأن تقييم بيريرا لحكام مباراة الزمالك والمصري    مصدر أمني يكشف حقيقة انتحار نزيلة روسية بأحد مراكز الإصلاح والتأهيل    كارول سماحة تشعل حفل افتتاح مهرجان موازين    تركي آل الشيخ يحتفل بتصدر "ولاد رزق 3: القاضية" إيرادات السينما المصرية    بعد تعرضها لوعكة صحية.. نقل لقاء سويدان إلى المستشفى    عمرو دنقل: رحلة فرج فودة الفكرية مصدر إلهامي لانطلاق روايتي "فيلا القاضي" المؤهلة لجائزة طه حسين    "شاهدت 4 مباريات سابقة".. ماذا قال كولر بعد الفوز أمام الداخلية؟    مفتي الجمهورية: عماد عملية الفتوى الإجابة عن 4 تساؤلات    موعد مباراة الأهلي والزمالك في الدوري المصري والقنوات الناقلة    منظمة الصحة العالمية تحذر من حقن تنحيف قاتلة    أهمية تناول الماء في موسم الصيف    مع انتهاء موسم الحج. سعر الريال السعودي اليوم السبت 22 يونيو 2024 مقابل الجنيه المصري    باعتبارها قوة احتلال، الأمم المتحدة تطالب إسرائيل باستعادة النظام في غزة    طبق الأسبوع| من مطبخ الشيف حنان محمد.. كرات اللحم بالجبنة وصوص الطماطم    ملف يلا كورة.. موقف الزمالك من القمة.. انتصار القطبين.. وتطورات السوبر الأفريقي    موعد سداد فاتورة التليفون الأرضي لشهر يونيو 2024 في مصر    المصرية للاتصالات.. موعد سداد فاتورة الإنترنت الأرضي يوليو 2024    وصول أول رحلة للحجاج العراقيين العائدين إلى مطار النجف الأشرف    أخبار اليوم الأسبوعي| حقائب التحدى ومفاجأة الأعلى للجامعات والجمهورية الجديدة    تنسيق الثانوية العامة 2024 محافظة القليوبية المرحلة الثانية المتوقع    عضو لجنة العمرة يكشف مفاجأة بشأن وفيات الحجاج المصريين هذا العام (فيديو)    انخفاض سعر السبيكة الذهب اليوم واستقرار عيار 21 الآن بمستهل تعاملات السبت 22 يونيو 2024    رئيس شعبة المحمول بغرفة الجيزة: تحرير سعر الصرف وراء انخفاض الأسعار    أشرف زكي: قرارات النقابات المهنية بمقاطعة إسرائيل لا تقبل الجدل (فيديو)    إيمي سمير غانم ضيفة حسن الرداد في «الليلة دوب».. تعرف على الموعد (صور)    رئيس مجلس الدولة الجديد 2024.. من هو؟ مصادر قضائية تكشف المرشحين ال3 (خاص)    التعاون الإسلامي: اعتراف أرمينيا بدولة فلسطين ينسجم مع القانون الدولي    دعاء الثانوية العامة مكتوب.. أفضل 10 أدعية مستجابة عند الدخول إلى لجنة الامتحان    طقس المملكة اليوم السبت 22-6-2024 وموجة حارة جديدة تضرب أجزاء من البلاد (تفاصيل)    استعلم الآن مجانا.. نتيجة الدبلومات الفنية 2024 برقم الجلوس والاسم (رابط مباشر)    تفاصيل تحقيقات 8 ساعات ب واقعة مشاجرة إمام عاشور في مول شهير ب الشيخ زايد    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ميكروباص بالفيوم    أخبار × 24 ساعة.. التعليم لطلاب الثانوية: لا تنساقوا خلف صفحات الغش    أستاذ علوم سياسية: مصر والأردن لهما حساسة تجاه القضية الفلسطينية    سباق إيران الانتخابى.. قضايا المرأة والمجتمع والتراشق اللفظى بين المرشحين أبرز ملامح المناظرة الثالثة.. المرشح الإصلاحى يرفض العنف ضد الإيرانيات لإجبارهن على الحجاب.. وانتقادات لسياسة الحجب على الإنترنت    إعلام إسرائيلى: الجيش يقترب من اتخاذ قرار بشأن عملية رفح الفلسطينية    بكري يطالب رئيس الوزراء بتوضيح أسباب أزمة وفاة مئات الحجاج المصريين    مركز البابا أثناسيوس الرسولي بالمنيا ينظم اللقاء السنوي الثالث    أفتتاح مسجد العتيق بالقرية الثانية بيوسف الصديق بالفيوم بعد الإحلال والتجديد    مدير الحديقة الثقافية للأطفال بالسيدة زينب: لقاء الجمعة تربوي وتثقيفي    وزير الأوقاف: تعزيز قوة الأوطان من صميم مقاصد الأديان    أول تعليق من الأب دوماديوس الراهب بعد قرار الكنيسة بإيقافه عن العمل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة سريعة في اللحظة العربية والمسار المستقبلي*
نشر في الشعب يوم 10 - 02 - 2013

*مداخلة في ندوة نظّمها مركز عصام فارس حول "إنفجار المشرق العربي" في 6 شباط 2013
*أمين عام المنتدى القومي العربي


عنوان الندوة مثير لأنه يوحي بأن الأمور ذاهبة إلى انفجار شامل قد يعيد رسم خارطة المنطقة وفقا لمعايير مختلفة ينصب الإهتمام عليها من قبل المراقبين والمعلّقين والباحثين وأصحاب الرأي والقرار. ولقد قرأنا وسمعنا مقاربات متعدّدة ومتسارعة يربطها بعضها ببعض عامل التشاؤم الممنهج ربما لإعطاء طابع "الموضوعية" أو "الواقعية". ولكن إذا أخذنا المسار التاريخي للأمور قد نأتي بصورة وبانطباع مختلف كلّيا.

في البداية علينا أن نعترف أن هذه المنطقة مستهدفة منذ أكثر من ألف سنة. فمع حملات الفرنج التي يُسمّونها في الغرب وعند المثقفين العرب المستغربين بالحملات الصليبية (الطريف أن الحملة التاسعة والأخيرة انكسرت على أبواب تونس بموت قائدها الملك الفرنسي لويس التاسع 1272 والحراك الشعبي الحالي بدأ في تونس!) إلى حملات المغول في القرن الثالث عشر حتى حملة بونابارت في آواخر القرن الثمن عشر، كانت هذه المنطقة ضمن مطامع خارجية. وفي القرن التاسع عشر بدأ استعمار الوطن العربي من قبل الدول الأوروبية إلى أن تمّ احتلال كل المنطقة عشية الحرب العالمية الثانية باستثناء بعض البقع في الجزيرة العربية. ونضيف إلى ذلك أن عدم الإستقرار في المنطقة بدأ مع نهاية السلطنة العثمانية في نهاية الربع الأول من القرن الماضي وزرع الكيان الصهيوني من بعده ما زلنا نعيش تداعيات تلك التطورات حتى اللحظة. (من المفارقة الساخرة أن العرب اللذين صدّقوا وعود البريطانيين خلال الحرب العالمية الأولى فساهموا في تدمير السلطنة أنتقلت العدوى إلى من يعتقد أنهم العثمانيون الجدد الذين صدقّوا الوعود الغربية بتسليمهم المنطقة! فهل مصير تركيا سيكون كمصير العرب في القرن الماضي؟)

صحيح أن منطقة المشرق العربي، بل الوطن العربي بأكمله، يشهد حراكا شعبيا لا مثيل له في التاريخ القديم والقريب. وهذا الحراك ينذر بتحوّلات جذرية يحاول كل من يتابع الأمور تفسيره على مزاجه أو خلفيته السياسية أو تكليفه السياسي الوظيفي المغرض خدمة لأجندات مختلفة. فهناك من تسرّع بدق ناقوس الخطر للإسلام السياسي والإسلام الجهادي الذي قد يطيح بنمط وأسلوب حياة وعمل تعوّدت عليها النخب الحاكمة أوالتي تدور في فلكها. هذه المخاوف مشروعة إلى حدّ ما إلاّ أنها محصورة في عقل ونفوس تلك النخب التي تعوّدت على ترويج ما يمكن تسميته بثقافة الهزيمة وما ينطوي عليها من سلوك ومواقف مناهضة لتطلّعات الشعوب بل تخدم فقط استمرار الأمر الواقع. وأي عمل يهدّد "الأمر الواقع" ينعت بكافة أوصاف الويل والتهويل.

صحيح أن الحراك الشعبي في عدد من أقطار المنطقة خلق حالة من القلق المشروع لما نراه من دمار وسفك دماء وفوضى واحتقان وغرائز وشعارات مخيفة وإحباط لآمال حملها ذلك الحراك ولم تتحقق بعد. لكن كل ذلك لا يبرّر ترويج الهلع والأحباط عبر قراءات مغرضة للمسار العام.

في هذه المداخلة سنركّز على محورين: المحور الأول وهو ما يمكن تسميته تقدير موقف أو وصف اللحظة الراهنة والمحور الثاني استشراف المسار المستقبلي الممكن للأمور.

استشراف المسار المستقبلي
المشهد الحالي لمختلف الساحات العربية يدّل على تحوّلات جذرية تحصل بوتائر مختلفة وفقا لخصوصيات كل ساحة وإن كانت هناك عوامل مشتركة. فهذه العوامل المشتركة يمكن تلخيصها بما نُسمّيه وحدة الحال الجماهيرية في مختلف الأقطار والتي تمثّلت بحراك واسع النطاق حمل شعار ثلاثي: رفض الفساد، ورفض الإستبداد، ورفض التبعية. والأدبيات التي خرجت من رحم هذا الحراك تدّل على التلازم العضوي بين التبعية من جهة والفساد والإستبداد، بل أكثر من ذلك أنها جميعا تتغذّى بعضها ببعض. كما أن تلك "وحدة الحال" كرّست التأثير المتبادل بين الساحات. فساحة تونس أثرت على ساحة مصر وفيما بعد في اليمن وليبيا والبحرين وسورية والأردن والمغرب والجزائر والسودان وحتى الجزيرة العربية والخليج وطبعا لبنان المرآة لما يحصل في كافة أنحاء الوطن.

وهناك من سارع بإتهام "الخارج" بشكل عام والولايات المتحدة والكيان الصهيوني بشكل خاص في تحريك هذه الجماهير وفقا ل"مؤامرة مدروسة ومبرمجة" تهدف إلى تقسيم المنطقة إلى دويلات أكثر شرذمة من تقسيمات سايكس بيكو وعلى قاعدة الطوائف والمذاهب والعرقيات والقبلية المكوّنة للمجتمعات العربية وذلك لنفي الهوية العربية الجامعة لها. وكأن النظام العربي القائم حتى 2011 ألم يكن يخدم سياسات الغرب والكيان الصهيوني! فهل تضحّي اسرائيل ب"كنز إستراتيجي"؟ وهل فرنسا تضحي بوزيرة دفاعها لتأييدها لنظام زين العابدين؟ أسئلة تعني أن الحراك الجماهيري حراك ذاتي لم يكن مبرمجا كما أفادت كافة التقارير في مراكز الأبحاث في الغرب. ولماذ تريد الدول الغربية تقسيم المنطقة إلى دويلات غير قابلة للحياة بل تكون مصدرا للإرهاب الدولي؟ وإذا كان الهدف من ذلك إضعاف المنطقة وعدم جعلها قابلة للتصدي لمطامع الخارج إلاّ أن كلفة هذا الضعف قد تطيح بالغرب ومصالحه في المنطقة كما تشهد عليه الإخفاقات في العراق والتناذر الإرهابي الصاعد في سورية.

لا ننفي ولا ننكر أن مكوّنات المجتمعات العربية تشهد حالة من الغليان ولكن المزاج الإنفصالي أو التقسيمي ما زال حتى الآن أضعف من المزاج الوحدوي بل نقول أكثر من ذلك أي أن المزاج الوحدوي (الوحدة الوطنية) يغذّي المزاج الوحدوي الأكبر (أي الجنوح نحو وحدة الأقطار) رغم كل الأدبيات التي تعمل وسائل الإعلام وبعض الأقلام على نفيها بل على تسليط الأضواء على النهج التفتيتي.
كما لا ننفي أن الغرب بشكل عام وحلفائه في المنطقة حاولوا وبنسب مختلفة من النجاح احتواء موقّت لهذا الحراك (ونشدّد على كلمة "موقّت لأن الأمور ما زالت بعيدة عن الحسم لمصلحة الخارج ولن تتحقق في رأينا!). فإحتواء الحراك يختلف كلّيا عن التخطيط له ومن المبكر جدّا أن نسلّم بنجاح الإحتواء رغم بعض المظاهر التي توحي بذلك. لم يكن الحراك الجماهيري من صنع الخارج بل هو من صنع الداخل في كافة الساحات دون استثناء ولكن محاولات الإحتواء وتحريف المسار هو نتيجة عاملين مزدوجين: الصراع المبكر على السلطة بين مكوّنات الإنتفاضات الجماهيرية وثانيا،عقدة النخب الحاكمة والطامحة لها بأن الغرب ما زال يملك مفتاح التمكين و"الشرعية الدولية". أي بمعنى آخر أن التدخّل الخارجي لم يكن ليحصل لولا دعوة بعض القوى المتحاربة على الساحات للتدخّل لمصلحتها. بالمقابل هناك مصالح إقليمية لعبت دورا أساسيا في تغذية الصراع وهذا ما عقّد الأمور إلى حدّ كبير.

يبقى أن نقول في محور "اللحظة الراهنة" أن الصراعات التي نشهدها في عدد من الساحات هي صراعات داخلية أكثر مما هي صراعات خارجية وهذا يشكّل في رأينا نقطة تحوّل أساسية بالنسبة للحقبات الماضية حيث كان التدخّل الخارجي العامل الحاسم. ويعود ذلك الأمر إلى عاملين اساسيين: التطوّرات الحاصلة على الصعيد الدولي والإقليمي حيث نرى محور الغرب بقيادة الولايات المتحدة ومعه الكيان الصهيوني في حالة تراجع إستراتيجي يمسّ البنى السياسية والإقتصادية لتلك الدول وهذا ما يمكن تفصيله في ندوة خاصة وإلى صعود محور جديد لعدد من الدول الرافضة للهيمنة الأحادية. إننا نعيش عصرا جديدا على الصعيد الدولي أي أفول القطبية الأحادية وتنامي العالم المتعدد الأقطاب. كما أن مسار الغرب هو إلى الأفول ومسار الشرق إلى الصعود. هذه التحوّلات جعلت اللحظة التاريخية للإنتفاضة ضد نظام عربي قائم ممكنا بينما الحقبات السابقة لم تكن لتسمح بذلك. بالمقابل أعطى هذا التراجع للدول الإقليمية التابعة للغرب فرصة مناورة أكبر تعارضت في كثير من المحطات مع التوجهات الغربية (البرود في العلاقة بين الولايات المتحدة وبعض دول الجزيرة مثلا، وبين تلك الدول وتركيا إلخ).

نحن مدينون للمقاومة في العراق في إفشال المشروع الأميركي في المنطقة كما أننا مدينون للمقاومة في لبنان في إفشال المشروع الصهيوني في المنطقة. تداعيات الفشلين كانت الإنتفاضات الشعبية في مختلف الساحات.

أما العامل الثاني فهو إعادة تثبيت البوصلة إذا جاز الكلام أن تقييم أي حراك حاصل أو قد يحصل يرتبط بالقضية الفلسطينية. فلا حرية ولا تنمية ولا عدالة اجتماعية ولا حكم صالح بعيدا عن الفساد بمعزل عن تحرير فلسطين. فمعركة غزة الأخيرة جاءت لتلغي كافة التكهّنات أن الحراك الشعبي أسقط فلسطين من المعادلة! لذلك نقول أن الحل للأزمات الداخلية في مختلف الأقطار لن يكون إلا عبر الحوار الداخلي وبمعزل عن الموقف الخارجي المناهض لفلسطين. كما أن الحل الداخلي الناتج عن الحوار يقضي بأن المرحلة الإنتقالية التي نعيشها الآن تتطلّب تحالفا جبهويا لكافة مكوّنات الإنتفاضات دون الإتّكال على على حكم صناديق الإقتراع في هذه المرحلة التأسيسية لما تشوبه هذا الإحتكام إلى صناديق الإقتراع من سلبيات نحن بغنى عنها لتثبيت حقبة ما بعد التبعية والفساد والاستبداد. واخيرا فإن الصيغة الحلّ المنشود لن تكون بمعزل عن الموقف المواجه للإحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينية.
بناء على ما جئنا به بالفقرة السابقة فإن استشراف المرحلة المسقبلية تأخذ بعين الإعتبار التحوّلات الدولية والإقليمية الحاصلة والتي على ما يبدو تتسارع عند كتابة هذه المداخلة.
فالتراجع الغربي بشكل عام والأميركي بشكل خاص يفضي إلى ضرورة تفاهم دولي بين المحور الغربي المتراجع ومحور بريكس الذي يضم الشمال (روسيا) والجنوب (جنوب إفريقيا والبرازيل) والشرق (الصين والهند) إضافة إلى التحالفات الإقليمية (محور ايران وسورية وقوى الممانعة والمقاومة). ساحة الصراع الدولي هي الآن الساحة السورية والتطوّرات الأخيرة تفيد أن إحداث تغيير جذري بالقوة لن يتحقق. فالنظام ثبت أنه قادر على مواجهة الهجمة بغض النظر عن الرأي به سواء كان سلبيا أو مؤيّدا. التحوّلات في سورية فرضت نفسها على المواقف الدولية التي نشهد معالمها: أي صمود روسي صيني ايراني وتراجع غربي أميركي. الانعكاسات على الصعيد الإقليمي لم تتأخر فهناك تغيير في "اللهجة" و"النبرة" في الخطاب السياسي في المملكة العربية السعودية رافقتها بعض التغييرات في القيادة وهناك تراجع في الموقف التركي رغم كل الكلام التصعيدي وهناك مؤشرات بتغييرما في الموقف القطري. أما على الصعيد الأميركي فالتعيينات في إدارة الشؤون الخارجية والدفاعية والإستخباراتية تدّل على أن حقبة المواجهات المباشرة وغير المباشرة أفلت لتحّل مكانها حقبة المفاوضات.

هناك من يقول أن الأميركيين استبدلوا سياسة التدخّل المباشر بالتدخّل بالوكالة عبر تشجيع الإقتتال الداخلي في مختلف الساحات (نذكّر هنا الخطاب الأوروبي والأميركي بأن شعوب هذه المنطقة مجموعة من الطوائف والمذاهب والعرقيات والقبائل والعشائر نافية بشكل متعمد ليس فقط الهوية القومية بل حتى الهوية الوطنية!). هذا صحيح إلى حدّ ما ولكن "الأدوات" المتسعملة على ما يبدو خرجت عن قدرة السيطرة والتحكّم بها. فحادثة بنغازي وحادثة المالي والجزائر والإرتكابات على الساحة السورية فرضت مراجعة في السياسة المتبعة. فكيف يمكن للولايات المتحدة أن تتحالف مع الإرهاب في ساحة ما وتواجهها في ساحة أخرى؟ كما أن إمكانية حصر الصراع في ساحة محدّدة كما في أيام الحرب الأهلية اللبنانية لم يعد ممكنا. فكافة دول المنطقة وخارج المنطقة أصبحت مستهدفة من قبل قوى أعتقد البعض أنها من صنع الغرب الذي شجّعها في مرحلة ما ضد حركات التحرّر والقوى القومية في مختلف الساحات وأصبحت الآن تهدّد بل تعضّ "اليد التي أطعمتها" على حد قول أحد المسؤولين الأميركيين!

إذا المراجعة الحاصلة تؤكد ما ذكرناه سابقا أن دينامية الحراك العربي تعني أن الحل لن يكون إلاّ داخليا وعربيا. مؤشرات تراجع حتى الحركات السلفية واضحة. فهناك دعوات من مراجع سلفية في المملكة وتونس على سبيل المثال تدعو إلى عدم الإلتحاق بالساحة السورية الذي سينعكس سلبا على استمرار المد بالمقاتلين.

أما اللذين حذّروا من وصول الحركات السياسية الإسلامية إلى الحكم والذين أتحفونا بمقارباتهم الكارثية فبات واضحا أن نجم هذه الحركات بدأ بالأفول لسببين: سوء الأداء الداخلي والتخبط في القرارات على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وبسبب المعارضة المتنامية لها من قبل دول شجّعتها في البداية وبدأت تشعر بالقلق بأن هذه الحركات قد تهدّدها في مرحلة لاحقة. كما أن الدول التي ما زالت تشجع هذه الحركات كقطر وتركيا تشهد تصدّعات كبيرة في تحالفاتها (قطر وفرنسا، قطر وتركيا). الوضع الإقليمي لم يعد مؤاتيا لهذه التحالفات الظرفية والتي أقيمت لمواجهة الملف السوري. فالصمود السوري على ما يبدو بدّد الرهانات الخاطائة التي ارتكبتها تلك الدول والتي تبنتها أيضا بعض القوى في لبنان.

من ضمن المؤشرات التي تشير إلى تنامي مسار نحو التهدئة التقارب بين مصر وايران والذي يهدف إلى وأد الفتنة السنّية الشيعية التي تهدّد المنطقة. وهذه الزيارة أثارت وتثير استياء الولايات المتحدة والكيان الصهينوني مما يدلّ على جدّيتها. هذا يدعم مقاربتنا أن منطق التوافق يتنامى على منطق التحارب.

هذه بعض المؤشرات التي تفيد أن حدّة الهجمة الغربية والإقليمية على الساحات العربية باتت في حال تراجع واضح. أضف إلى ذلك آفاق التشبيك الاقتصادي المرتقب بعد اكتشافات النفط والغاز في لبنان وسورية والتي على ما يبدو تفوق الاحتياطات المكتشفة في منطقة الخليج والجزيرة. لم يعد الغرب المرجعية الوحيدة على الصعيد الدولي ولم تسطع القوى الإقليمية فرض هيمنتها على كافة الساحات. نحن، في التيّار القومي العربي، ندعو إلى تكوين كتلتين تاريخيتين (وهذا ما نعمل من أجله ونعتقد أن الأمور تسير بالإتجاهين اللذين نريد): الأولى على الصعيد الداخلي بين كافة مكوّنات المجتمعات العربي من تيّارات سياسية . فالحلّ التوافقي أفضل من الحل "الديمقراطي" الذي لا ينتج عنه إلاّ الإنقسامات والحروب الأهلية التي تفتك بالوحدة الوطنية والسلم الأهلي (فلسطين، العراق، ليبيا، مصر، الجزائر وحتى لبنان نماذج عن "الحل الديمقراطي"). أما الكتلة الثانية فهي إقليمية تضم كل من العرب وايران وتركيا في مواجهة أطماع الغرب والشرق أو أي طرف آخر.
نكتفي بهذا الحد وشكرا لإصغائكم.








الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.