«مصر للمعلوماتية» تطلق تطبيقا إلكترونيا لإدارة الكافتيريات الجامعية    إحباط مخطط إرهابي لحركة "حسم" الإخوانية.. محمد رفيق إبراهيم مناع محكوم عليه بالسجن المؤبد    اليوم آخر موعد لتنازلات مرشحي «الشيوخ».. وبدء الدعاية الانتخابية    أسعار مواد البناء اليوم الأحد 20 يوليو 2025    حملات تفتيشية مكثفة لهيئة سلامة الغذاء على الأسواق بمختلف المحافظات    أسعار الأسماك اليوم الأحد 20 يوليو في سوق العبور للجملة    أيمن الجميل : خطط الإصلاح الاقتصادى توفر مناخا مثاليا للاستثمار الآمن فى مصر وتعزز زيادة الإنتاج والصادرات    كامل الوزير يتفقد 3 مصانع متخصصة في الصناعات الغذائية والمعدنية ومواد البناء بالعبور    رئيس قطاع فلسطين بالجامعة العربية يدعو لتجديد تفويض الأونروا خلال سبتمبر القادم    أبو الغيط يثمن المواقف المصرية الحكيمة في دعم حل عادل ونهائي للقضية الفلسطينية    "الأمير النائم" يرحل في صمت.. تفاصيل القصة التي هزت القلوب| فيديو    راحة 24 ساعة للاعبي الزمالك من معسكر العاصمة الإدارية    مدرب فرانكفورت يلمح لرحيل إيكيتيكي ويستشهد بعمر مرموش    تقرير: لويس دياز يقترب من بايرن مقابل 75 مليون يورو    ريال مدريد يصدم فينيسيوس.. تجميد المفاوضات    حالة الطقس في السعودية اليوم الأحد.. رياح نشطة وأتربة مثارة وتحذيرات من تدني الرؤية    التصريح بدفن جثة شخص لقي مصرعه في حادث بالشرقية    الداخلية: ضبط قائد سيارة "فان" سار عكس الاتجاه بالقاهرة    قرار وزاري برد الجنسية المصرية ل21 مواطنًا    مصرع عجوز سقطت من شرفة الطابق الثامن بالإسكندرية.. وأسرتها تكشف السبب    في ذكرى رحيله.. أبرز محطات حياة القارئ محمود علي البنا    أمير كرارة في حوار خاص ل«بوابة أخبار اليوم»: نفسي أعمل كل حاجة والجمهور يفضل يحبني    وحدة السكتة الدماغية بقصر العيني تحصل على الاعتماد الدولي    أسباب ارتفاع أسعار الأدوية في الصيدليات.. «الغرف التجارية» توضح    تنفيذًا لخطة ترشيد استهلاك الكهرباء| ضبط 143 مخالفة لمحلات غير ملتزمة بقرار الغلق    إلغاء أكثر من 200 رحلة طيران بسبب الطقس في هونج كونج    كونتكت للوساطة التأمينية تنضم رسميًا لعضوية الميثاق العالمي للأمم المتحدة    الثلاثاء.. مناقشة "نقوش على جدار قلب متعب" لمحمد جاد هزاع بنقابة الصحفيين    قبل انطلاقه بساعات.. تفاصيل حفل افتتاح الدورة ال 18 ل المهرجان القومي للمسرح    الزمالك يدعم خط دفاعه بضم محمد إسماعيل من زد    تقرير حكومي: مصر أصبحت وجهة جاذبة لتجميع السيارات بدعم من استقرار الاقتصاد والسياسات الصناعية    «الداخلية»: ضبط 293 قضية مخدرات وتنفيذ 72 ألف حكم قضائي خلال 24 ساعة    ضم تخصصات جديدة، كل ما تريد معرفته عن تعديل قانون أعضاء المهن الطبية    بعد وفاة الأمير النائم، طبيب مخ وأعصاب يكشف ماذا يحدث داخل جسم الإنسان أثناء الغيبوبة الطويلة؟    وزير الري يتابع إجراءات اختيار قادة الجيل الثاني لمنظومة الري المصرية 2.0    أوكرانيا: ارتفاع قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى مليون و41 ألفا    «بين الخصوصية والسلام الداخلي»: 3 أبراج تهرب من العالم الرقمي (هل برجك من بينهم؟)    بعد غياب عامين.. التراث الفلسطيني يعود إلى معرض مكتبة الإسكندرية الدولي للكتاب    حكم قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية؟.. أمين الفتوى يجيب    حكم استخدام شبكات الواى فاى بدون علم أصحابها.. دار الإفتاء تجيب    نتيجة الثانوية العامة 2025 بالاسم ورقم الجلوس.. رابط الاستعلام عبر موقع الوزارة (فور اعتمادها)    دعوى قضائية ضد حكومة بريطانيا لقرارها عدم إجلاء أطفال مرضى من غزة    دير السيدة العذراء بالمحرق يتهيأ لإحياء تذكار الأنبا ساويروس    "100 يوم صحة".. خدمات طبية شاملة للكشف المبكر عن الأمراض بالعريش    جامعة القاهرة تعلن حصول وحدة السكتة الدماغية بقصر العيني على الاعتماد الدولي    وزير الإسكان يتابع تطوير منظومة الصرف الصناعي بالعاشر من رمضان    كريم رمزي يفتح النار على أحمد فتوح بعد أزمة الساحل الشمالي    وزارة العمل تُعلن عن وظائف خالية برواتب مجزية    مصرع 3 أطفال أشقاء غرقا داخل حوض مياه ببالبحيرة    أحمد شاكر: اختفيت عمدا عن الدراما «مش دي مصر».. وتوجيهات الرئيس السيسي أثلجت صدر الجمهور المصري    دعاء الفجر | اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك    المبعوث الأمريكي يلتقي قائد «قسد» لاستعادة الهدوء في السويداء    موعد بداية شهر صفر 1447ه.. وأفضل الأدعية المستحبة لاستقباله    «مينفعش تعايره».. مجدي عبدالغني يهاجم الأهلي ويدافع عن الاتحاد الفلسطيني بشأن أزمة وسام أبوعلي    «اتباع بأقل من مطالب الأهلي».. خالد الغندور يكشف مفاجأة عن صفقة وسام أبوعلي    حنان ماضى تعيد للجمهور الحنين لحقبة التسعينيات بحفل «صيف الأوبر» (صور و تفاصيل)    الكونغو الديمقراطية و«إم 23» توقعان اتفاقًا لوقف إطلاق النار    أمين الفتوى: الرضاعة تجعل الشخص أخًا لأبناء المرضعة وليس خالًا لهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمويل السياسة الشرعية فى مواجهة عجز الموازنة
نشر في الشعب يوم 29 - 01 - 2013

يمكن إدراك مشكلة البحث بنظرة سريعة للتقلبات الاقتصادية فى العالم وهى كثيرة متنوعة وعجز الموازنة واحد من كبريات هذه المشكلات الاقتصادية. ومشكلة البحث تدعونا للوقوف على رأى الاقتصاد الإسلامى فى تقديم الحلول والمقترحات لهذه المستجدات وأصولها فى تراث ما كتبه فقهاؤنا الأذكياء، بعد أن تجاوز الاقتصاد الإسلامى مؤامرة الصمت التى تركت آثارها فى عالمنا الثقافى والعلمى قبل صحوة الفكر، وانتباهة الوعى.

منهج البحث
حاول البحث المحايدة بين لغة الفقهاء ومصطلحاتهم وأسلوب الاقتصاديين وتحليلاتهم. وأرجو لهذه المحايدة أن تكون قد قربت البعيد، وأوصلت المنقطع. وثمة نقطة جوهرية؛ هى اقتصار البحث فى مؤشراته على المعالجات التى هى من قبيل السياسة الشرعية المنوطة باجتهاد الدولة، واستبعاد المعالجات المنصوص عليها فى التشريعات المالية الإسلامية، كالزكاة والخراج والوقف وغير ذلك مما هو منصوص عليه فى أصول التشريع الإسلامى؛ وذلك انطلاقا من أن مواجهة عجز الموازنة هى إجراء استثنائى طارئ يضاف إلى الإيرادات الدورية وغير الدورية للدولة. ولعل هذا الاقتصار ضرب من الاجتهاد الذى تتسع أمامه وجهات النظر.

عجز الموازنة.. تعريفه وأسبابه
أولا- تعريفه: يقصد به زيادة النفقات على الإيرادات فى موازنة الدولة العامة، بحيث لا تستطيع الإيرادات سداد النفقات العامة. ومن هذا التوضيح يتبين أن مستوى النفقات هو معيار تحديد حجم العجز وطبيعته غالبا.

ثانيا- أسباب عجز الموازنة: يتضح من التعريف أن سبب العجز أمران؛ هما: زيادة النفقات، وقلة الإيرادات؛ فإلى شىء من التوضيح:

زيادة النفقات
تخضع زيادة النفقات لنمط الاستهلاك الذى يسود المجتمعات. ووظائف الدولة الحديثة وواجباتها الاقتصادية لها أثر فى زيادة النفقات؛ فمن تحقيق الرفاه للمجتمع إلى دعم التقدم العلمى، وتقديم خدمات التعليم والثقافة والصحة إلى غير ذلك من مهمات التمدن الحديث. وإلى إشارة سريعة إلى أسباب زيادة النفقات:
- النمو السكانى: ويتطلب هذا السبب توفير خدمات البنى التحتية كالجسور، وشبكات الرى، والصرف الصحى والمواصلات، والكهرباء. ولا يخفى حاجة هذه المشاريع المهمة إلى النفقات.
- زيادة نفقات الخدمة المدنية، بخاصة الرواتب والأجور.
- نفقات الأمن والدفاع والمجهود الحربى مثل الصناعات الحربية وبرنامج التسليح. وهو إنفاق استهلاكى وما يتبع ذلك من فقدان العمران والخسائر والتدمير. وقد ظلت الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية تعانى العجز فى الموازنة العامة لدولها بسبب تزايد الإنفاق من أجل إعادة التعمير.
- تزايد أعباء خدمة الديون العامة الداخلية والخارجية المستخدمة لتمويل العجز فى الموازنة؛ فإن كثرة الاقتراض وتراكم الديون تجعل أعباء خدمة هذه الديون غير محتملة.
وقد قاد النظام الحالى لقروض الفائدة، الأقطار النامية إلى استدانة بلغ مقدارها 400 بليون دولار أمريكى بفائدة وقسط استهلاك تجاوزا 40 بليون دولار أمريكى فى السنة، ولم تتمكن ثلاثة عقود زمنية من التمويل بالدين من جعل الأقطار المدنية متكيفة ذاتيا، ولم تتمكن من تحقيق فائض للوفاء بديونها. وهذه القروض معظمها قروض استهلاكية لا إنتاجية يمكن أن تعود غلتها إلى سداد هذه الديون. ومثل هذه الزيادة فى النفقات يُحدث بلا شك عجزا فى الموازنة.
- الظروف الطارئة مثل الكوارث والزلازل والفياضانات، تطلب نفقات إضافية للإغاثة والمعونة.
- شيوع ظاهرة التبذير والترف والاستهلاك العشوائى غير الهادف. ويعلل ذلك العلامة ابن خلدون بالتعليق بأسباب التمدن المستلزم عادةً هذا النمط الاستهلاكى، وذهاب سر البداوة والسذاجة وخلقها من الإغضاء والتجافى، على حد تعبيره.

قلة الإيرادات
وللقلة هذه أسباب عدة؛ منها حالات الركود الاقتصادى، وضعف معدلات التنمية الاقتصادية المستلزم انخفاض مستويات الدخل العام، وعدم كفاءة الدولة فى جمع المال العام وتحصيله. ولعل فرض الضرائب غير العادلة من أهم أسباب قلة الإيرادات؛ قال الماوردى: «ولا يستقصى فى وضع الخراج غاية ما يحتمله، وليجعل فيه لأرباب الأرض بقية يجبرون بها النوائب والحوائج».
كما علل العلامة ابن خلدون قلة الإيرادات بسبب فرض الضرائب والرسوم الجائرة؛ فهى بطبيعتها تؤدى إلى القعود بالتنمية والاستثمار وتعطيل المشاريع الإنتاجية؛ وذلك بالمقارنة بين ما سيجمعونه من أرباح وما سيدفعونه من ضرائب للدولة.
ويضرب ابن خلدون مثلا لهذه الفلسفة والتعليل ما حدث من ذلك فى أواخر الدولة العباسية والعبيدية، حتى إنها فرضت المغارم على الحجاج فى المواسم، ومثلهم ملوك الطوائف فى الأندلس (ويعود وبال ذلك على الدولة؛ لأن فائدة الاعتمار عائدة إليها، ويدرك الدولة الهرم، فتضعف وتكسد الأسواق لفساد الآمال، ويؤذن ذلك باختلال العمران ويعود ذلك على الدولة).

المؤشر الأول- التوظيف (الضرائب العادلة)
هذا النوع من التشريع المالى الإسلامى لم تكن فيه إلزامية مفصلة عن الله ورسوله، كما هو فى الشأن فى الزكاة، بل تأتى إلزامية التوظيف أو الضرائب العادلة من إجمال غير مفصل وعموم غير مخصص يمنح الدولة بقيود محددة صلاحية فرض الضرائب فى حالات تمر بها البلاد.
وأساس فرض الضرائب يعود إلى المصلحة العامة التى لا بد من توافرها لقيام حياة الناس ومعاشهم، وهى المصلحة الضرورية أو التى ترفع عنهم العناء والمشقة لتحقيق ذلك، وهى المصلحة الحاجية.
ولتوضيح هذا الأساس وما يتفرع منه من الأحكام لتحقيق المقصد المستهدف من التوظيف، سنشير بمؤشرات عامة إلى الآتى:
أولا- معنى التوظيف: يدل التوظيف على أداء مهمة الوظيفة كما هو المعنى بين الدرس والتدريس، والخوف والتخويف. وفى المعجمات العربية، للوظيفة معنيان: الكم المقدر من الرزق أو الطعام أو نحوه، والإلزام بالشىء، فيقال: وظَّف الشىء على نفسه ووظفه توظيفا، ألزمها إياه. ومن هنا يأتى مصطلح التوظيف فى الفقه الإسلامى، ويطلق على ما يعرف اليوم بمصطلح الضريبة. وفى الاصطلاح الفقهى فهو لا يعدو عن الجمع بين المعنيين فى اللغة، فنستطيع تعريفة بأنه «إجراء يُلزم بموجبه الحاكمُ القادرين بفرض التزامات مالية عليهم لسد ضرورة أو حاجة مشروعة».
والتوظيف من حيث الإجراء يشبه الضريبة، ومن حيث كونه مصطلحا فقهيا خالصا، وله شروطه الخاصة؛ فإنى أفضل استبداله بمصطلح الضريبة والإبقاء عليه. ويقترح بعض الباحثين استخدام لفظ التوظيف للإجراء المذكور. أما مصطلح الضريبة فللكم المفروض بهذا التوظيف.

ثانيا- التطبيق الفقهى للتوظيف
تقدم أن أساس فرض التوظيف يعود إلى المصلحة العامة. والمصلحة باعتبار أهميتها قسمان: المصلحة الضرورية، وهى التى لا تقوم الحياة إلا بها، وعليها ينبنى مقصود الشريعة. قال الإمام الغزالى: «المحافظة على مقصود الشرع فى الخلق خمسة؛ هو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم». والمصلحة الحاجية، ويقصد بها نفى الحرج ودفع المشقة غير المعتادة فى الأحكام المشروعة للمحافظة على المصالح الضرورية الخمسة المذكورة.
فإذا لم تكف الزكاة حاجات التكافل الاجتماعى، ولم يكن فى بيت المال ما يسد تلك الحاجات (عجز الموازنة)، فرض الإسلام على أغنياء كل بلد أن يقوموا بالضرورى لحاجات الفقراء الغذائية والمعيشية. ومن تلك الضروريات استقرار الأمن العام فى البلاد. قال الإمام الغزالى: «إذا خلت الأيدى من الأموال، ولم يكن من مال المصالح (بيت المال) ما يفى بخراجات العسكر، وخيف من ذلك دخول العدو بلاد الإسلام أو ثوران الفتنة من قبل أهل الشر؛ جاز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند؛ لأننا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران دفع أشد الضررين وأعظم الشرين».
وقال الإمام الشاطبى: «أما إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجنود لسد حاجات الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم؛ فالإمام إذا كان عادلا أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم فى الحال، إلى أن يظهر بيت المال، ثم النظر إليه فى توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك. وإنما لم ينقل مثل هذا عن الولى لاتساع بيت المال فى زمانهم بخلاف زماننا؛ فإن القضية فهى أخرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك بطلب شوكة الإمام، وصارت دياره عرضة لاستيلاء الكفار»، ثم يشير الشاطبى إلى القاعدة الشرعية التى أشار إليها الإمام الغزالى فيقول: «فإذا عورض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق بهم أى الأغنياء بأخذ بعض أموالهم فلا يتمارى فى ترجيح الثانى على الأول، وهو ما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر فى الشواهد».
وإنما لم تعمد الدولة فى صدر الإسلام إلى فرض التوظيف لعدم مشروعيته، بل لعدم حاجة الدولة إليه، بمعنى أنها لم تكن تشكو من عجز فى ميزانيتها. والإمام المفسر أبو عبد الله القرطبى يتلمس الدلالة على هذا التوظيف فى تفسيره الآية الكريمة (لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِى الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177) .
فيذهب القرطبى إلى أن قوله تعالى: (وَآتَى الزَّكَاةَ) غير المراد بقوله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ)، وإلا كان ذلك تكرارا، واستدل بحديث شريف رواه ابن ماجة والترمذى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: «هل فى المال حق سوى الزكاة؟» قال: «نعم، فى المال حق سوى الزكاة»، ثم تلا قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ...) الآية المذكورة.
ووجه الدلالة أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرفها إليهم؛ قال مالك رحمه الله: «يجب على الناس فداء أسراهم، وإذا استغرق ذلك أموالهم.. وهذا إجماع أيضا». ويمكن أن يستدل للتوظيف بدلالة القياس الجلى ومفاده أن الإسلام شرع الجهاد لحماية الدولة والتشريع والحياة العامة، والجهاد يستدعى بذل الرواح والدماء؛ فلأنه شُرع بذل الدماء لذلك فإن بذل المال يكون مشروعا بالقياس الجلى أو كما يقال، من باب أولى.

ثالثا- شروط فرض التوظيف: يشترط لفرض التوظيف لتغطية الإنفاق الضرورى أو الحاجة شروط؛ من أهمها ما يأتى:
* خلو خزانة الدولة وعدم كفاية ما فيها من أموال لتغطية هذه النفقات الضرورية أو الحاجية.
* أن يكون الإمام (الحاكم) عدلا. والعدالة المقصودة هنا يقتضى ديانة لا يشوبها فسق ظاهر، مع التحلى بآداب المروءة اللائقة به.
* أن تأخذ من فضول أموال الأغنياء أولا قبل غيرهم؛ فالتوظيف إجراء استثنائى يتسلط على الأموال، والاستثناءات تقدر بقدرها؛ فلا يتجاوز التوظيف حدود الكفاية لعامة الناس قبل البدء بفضول الأموال. والإمام الجوينى يعرض فى كتابه «غياث الأمم فى التياث الظلم» المعروف بالغياثى؛ رأيين للفقهاء فى طبيعة التوظيف؛ هل هو نزع للملكية من الأفراد وصرفها فى مصالح الجماعة، أو هو ضرب من ضروب القرض بين الدولة والأغنياء؛ فمع ترجيحه الأول لا يرى مانعا من جواز الثانى. ولسنا بسبيل الترجيح بين القولين فى إلزامات هذا المؤشر.
وبخلاف هذه الشروط، فليس ثمة مسوغ شرعى يبيح التوظيف. وتعد الضرائب عندئذ من ضروب الظلم، ولا سيما إذا كانت تدعم مصارف التحسينات؛ فليس من حق الحاكم بهذه الضرائب أن يقتنى ذخيرة وكنزا ويتأمل مفخرة وعزا، كما يعبر الجوينى.

رابعا- وعاء التوظيف ومقداره: الضريبة فى الفكر المالى الحديث تقع على الدخول والثروات والاستهلاك. والفقه الإسلامى باختصار يرى أن التوظيف يقع على الدخول والثروات. وفى هذا الصدد يقول الإمام الجوينى: «يوظف الإمام على الغلات والثمرات وضروب الزوائد والفوائد من الجهات».
أما الضريبة بسبب نمط الاستهلاك لبعض الأفراد، فالفقه الإسلامى لا يجيز مصادرة الأموال باعتباره نوعا من العقوبات، على أن هذا المنع لم يكن محل اتفاق بين الفقهاء، وإن كان رأى الأكثرين منهم. وقد عرضنا لبيان ذلك مفصلا فى غير هذا الموطن.
ولكن نرى الإمام الجوينى مع ترجيحه عدم جواز مصادرة الأموال بسبب سوء التصرف الاستهلاكى؛ جعل التوظيف على هذا النمط من الناس يدخل فى الأولوية، فيقول: «ليس فى الشريعة أن اقتحام المآثم يوجه إلى مرتكبيها ضرورة المغارم»، فلا يصح فى رأيه نزع الملكية أو فرض الغرامات المالية على وجه العقوبة والتعزيز، لكنه يقول فى التوظيف: «لا يبعد أن يعتنى الإمام عند مسيس الحاجات بأموال العتاة. وهذا فيه أكمل مردع ومقنع».
ومثلما يكون التوظيف ببذل فضول الأموال، يكون ببذل فضول المنافع والخدمات، فتوظف دُور الناس للسكنى وسياراتهم وآلاتهم وما شاكل ذلك.
أما مقدار التوظيف، فبناء على تحقيق أهداف التوظيف، فإن التشريع الإسلامى لم يحدد هذا المقدار بالنسبة المئوية أو بأى مقدار محدد آخر. وهذا لا يعنى أن التحديد مناف لأهداف التشريع، وإنما هو أمر فنى يخضع اعتباره وعدم اعتباره لسياسة الدولة فى تحقيق المصلحة من فقه التوظيف.
ونظرا لاختلاف الحالات، فالفقه الإسلامى يربط مقدار التوظيف بنوع الحالة الموجبة له. ويمكننا تقسيم ذلك وفق الآتى:
* إذا كانت الأزمة ليست عامة، وبإمكان الموسرين مواجهتها، فتوظف الدولة عليهم وحدهم ما يمكن به درء المخاطر.
* إذا كانت الأزمة عامة فيترك لكل موسر كفاية عام، ويوظف عليه بما زاد على ذلك.
* وإذا كانت الأزمة أكبر من ذلك، فمن أجل ضرورة دفعها، فإن للدولة الحق فى توظيف ما تراه سادا للحاجة، دارئا للضرر، بالغا ما بلغ.
وفى هذا يقول إمام الحرمين الجوينى: «لو استقرت بالمسلمين داهية ووقع والعياذ بالله حرم فى ناحية، لاضطررنا فى دفع البأس إلى نفض أكياس الناس».

خامسا- مصادر التوظيف: يتأسس الفكر المالى المعاصر على أن الأدوات المالية إيرادا ونفقة وأهمها الضرائب تؤثر فى الاقتصاد القومى بطرق متعددة، وتخدم عددا من الأغراض والأهداف. وتُجمع هذه الآثار على المستوى الكلى فى ثلاث مجموعات أو ثلاث وظائف؛ هى: وظيفة التخصيص، ووظيفة التوزيع، ووظيفة الاستقرار. وتقاس درجة كفاءة النظام المالى بمقدار ما يحققه فى كل وظيفة من هذه الوظائف. وتتفاوت النظم فى ذلك تفاوتا واسعا.
ولا بد من الإشارة إلى ملحظ مهم؛ هو أن هذه الوظائف من المنظور الإسلامى لا تقتصر على الضريبة فحسب، بل هى من وظائف عموم التشريع المالى، كالالتزامات المالية الثابتة (الزكاة، والعشور، والخراج) وعموم ما يتعلق بالملكية.
ومن أهم الوظائف أو الوجوه التى تصرف إليها أموال التوظيف، الجهاد فى سبيل الله، وحماية الأغراض والأموال والديار، ورد غائلة الاعتداء، ومحاربة الإفساد والظلم.
سياسة إعادة التوزيع بسد حاجات المجتمع والبلوغ به إلى حد الكفاية؛ فإذا لم يكف التوزيع من المرتبات والعطايا يصار إلى إعادة التوزيع ومنها الزكاة فإذا لم تكف يصار إلى التوظيف.
وفى حديث أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له»، فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه ليس لأحد حق فى فضل.

سادسا- القواعد العامة للتوظيف: هذا المؤشر يعتبر تلخيصا للشروط والأحكام العامة للتوظيف. ويمكننا تصنيف ذلك فى الآتى:
* التوظيف هو آخر ما تلجأ إليه الدولة لسد العجز فى موازنتها المالية؛ فبعد أن تعجز التشريعات المالية الواجبة كالزكاة والعشور والخراج، والتشريعات المالية الطوعية كالصدقات والأوقاف؛ تلجأ الدولة إلى إجراء التوظيف حالة استثنائية.
* تأسيسا على ما سبق، فإن التوظيف منحصر فى حالة خلو خزانة الدولة من المال. وبخلاف ذلك فإنه يعد ضربا من الاعتداء على الملكية.
* لا يكون التوظيف إلا عند قيام ضرورة ملجئة أو حاجة ملحة يحقق دفعهما مصلحة معتبرة شرعا.
* ليس لأية سلطة فى الدولة الحق فى التوظيف دون الحاكم. ويشترط فى الحاكم أن يكون «مقيدا بمراسيم الإسلام، مؤيدا بموافقة مناظم الأحكام»، كما يعبر الجوينى.
* بالنظر إلى خطورة التوظيف بمقدار معين، بل هو مفتوح لما تحصل به الكفاية، وتدرأ به الأخطار، وتُدفع به الأزمات، مهما استغرق من الأموال. ويقدر ذلك بقدره باختلاف الأزمان والأماكن والحالات.
* يراعى التدرج فى التوظيف؛ فهو على الموسرين أولا، ثم بعدهم حتى تحقيق المصلحة منه.
* يكون التوظيف على الدخول الفردية والثروات المخزونة، ويشمل أيضا الخدمات العامة والمنافع المملوكة ملكا فرديا.
* للدولة الحق فى الاجتهاد فى ترتيب الأولويات التى تصرف إليها أموال التوظيف بحيث تحقق المصالح العامة.
(يتبع)
الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.