هزة أرضية تضرب الجيزة.. وبيان عاجل من الهلال الأحمر المصري    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقصف مسجد الأنصار وسط دير البلح في غزة    ترامب: إلغاء الرسوم الجمركية يعنى انهيار اقتصاد الولايات المتحدة    أشرف نصار: نسعى للتتويج بكأس عاصمة مصر.. وطارق مصطفى مستمر معنا في الموسم الجديد    المتهم الثاني في قضية انفجار خط الغاز بالواحات: «اتخضينا وهربنا» (خاص)    الشروط والأوراق المطلوبة للتقديم للصف الأول الابتدائي 2025–2026    تامر عبد المنعم يعلن انفصاله عن زوجته رنا علي بعد زواج دام 6 سنوات    هل حقق رمضان صبحي طموحه مع بيراميدز بدوري الأبطال؟.. رد قوي من نجم الأهلي السابق    خدمات مرورية تزامناً مع تنفيذ أعمال تطوير كوبري القبة    أحفاد نوال الدجوي يتفقون على تسوية الخلافات ويتبادلون العزاء    تشابي ألونسو يبدأ ولايته مع ريال مدريد بخطة جديدة    وزارة الحج بالسعودية توجه تحذير لحجاج بيت الله الحرام بشأن يوم عرفة    زيلينسكي يشيد بالنجاح في مهاجمة مطارات عسكرية روسية    التحقيقات الفيدرالي: نحقق في هجوم إرهابي محتمل بكولورادو الأمريكية    عيار 21 الآن وأسعار الذهب اليوم في السعودية ببداية تعاملات الاثنين 2 يونيو 2025    سعر التفاح والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الاثنين 2 يونيو 2025    توريد 231 ألف طن قمح لصوامع وشون قنا حتى الآن    شريف عبد الفضيل: رحيل علي معلول طبيعي    خبير لوائح: هناك تقاعس واضح في الفصل بشكوى الزمالك ضد زيزو    أكرم توفيق: صفقة زيزو ستكون الأقوى إذا جاء بدوافع مختلفة.. وميسي "إنسان آلي"    وزير الزراعة: لا خسائر كبيرة في المحاصيل جراء الأمطار الأخيرة وصندوق لتعويض المتضررين قريبًا    محمد أنور السادات: قدمنا مشروعات قوانين انتخابية لم ترَ النور ولم تناقش    بدء التقديم الكترونيًا بمرحلة رياض الأطفال للعام الدراسي 2025 - 2026 بالجيزة    "زمالة المعلمين": صرف الميزة التأمينية بعد الزيادة لتصل إلى 50 ألف جنيه    أجواء معتدلة والعظمى في القاهرة 31.. حالة الطقس اليوم    تجهيز 463 ساحة لصلاة العيد بجميع مراكز ومدن محافظة الغربية    4 إصابات في تصادم دراجة نارية بسيارة ربع نقل في الوادي الجديد    زلزال بقوة 6 درجات بمقياس ريختر يضرب قرب جزيرة هوكايدو اليابانية    محمود حجازي: فيلم في عز الضهر خطوة مهمة في مشواري الفني    محافظ الشرقية يشهد فعاليات المنتدى السياحي الدولي الأول لمسار العائلة المقدسة بمنطقة آثار تل بسطا    دعاء العشر الأوائل من ذي الحجة.. 10 كلمات تفتح أبواب الرزق (ردده الآن)    هل يحرم قص الشعر والأظافر لمن سيضحي؟.. الأوقاف توضح    رئيس قسم النحل بمركز البحوث الزراعية ينفي تداول منتجات مغشوشة: العسل المصري بخير    قد تسبب الوفاة.. تجنب تناول الماء المثلج    أستاذ تغذية: السلطة والخضروات "سلاح" وقائي لمواجهة أضرار اللحوم    سعر الدولار الآن أمام الجنية والعملات العربية والأجنبية الاثنين 2 يونيو 2025    أخبار × 24 ساعة.. إجازة عيد الأضحى للعاملين بالقطاع الخاص من 5 ل9 يونيو    المشدد 10 سنوات وغرامة 100 ألف جنيه لعامل لاتهامه بالاتجار فى المخدرات بالمنيا    محافظ كفر الشيخ: إنهاء مشكلة تراكم القمامة خلف المحكمة القديمة ببلطيم    مسؤول بيراميدز: تعرضنا لضغط كبير ضد صن داونز والبطولة مجهود موسم كامل    يورتشيتش: بيراميدز أصبح كبير القارة والتتويج بدوري أبطال أفريقيا معجزة    توقعات برج الجوزاء لشهر يونيو 2025 رسائل تحذيرية وموعد انتهاء العاصفة    «قولت هاقعد بربع الفلوس ولكن!».. أكرم توفيق يكشف مفاجأة بشأن عرض الأهلي    عماد الدين حسين: إسرائيل تستغل ورقة الأسرى لإطالة أمد الحرب    غلق مطلع محور حسب الله الكفراوى.. اعرف التحويلات المرورية    مين فين؟    التحالف الوطنى يستعرض جهوده فى ملف التطوع ويناقش مقترح حوافز المتطوعين    ملك البحرين يستقبل وزير التنمية الاقتصادية لروسيا الاتحادية    هل صلاة العيد تسقط صلاة الجمعة؟ أمين الفتوى يكشف الحكم الشرعي (فيديو)    شروط التقديم لوظائف شركة مصر للطيران للخدمات الجوية    عدد أيام الإجازات الرسمية في شهر يونيو 2025.. تصل ل13 يوما (تفاصيل)    رئيس حزب الوفد في دعوى قضائية يطالب الحكومة برد 658 مليون جنيه    قبل العيد.. 7 خطوات لتنظيف الثلاجة بفعالية للحفاظ على الطعام والصحة    الأوقاف تحتفي باليوم العالمي للوالدين: دعوة لتعزيز ثقافة البر والإحسان    طريقة عمل العجة أسرع وجبة للفطار والعشاء واقتصادية    ختام امتحانات كلية العلوم بجامعة أسوان    وزير العمل يعلن موعد إجازة عيد الأضحى للعاملين بالقطاع الخاص    هل يمكن إخراج المال بدلا من الذبح للأضحية؟ الإفتاء تجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مجدي أحمد حسين يكتب: مصر انتقلت من شرعية 23 يوليو إلى الشرعية الإسلامية
نشر في الشعب يوم 24 - 12 - 2012

مصر تحتاج لهدنة وسكينة وهدوء.. فهل يستجيب العقلاء والوطنيون؟
الشرعية الإسلامية لا تعنى شرعية الإخوان.. وإذا لم يحسنوا سيخرجو من السلطة قريبا
ثورة 25 يناير ملك للجميع.. وهى الفيضان الذى أسقط الطغيان
يجب ألا نخشى من الخلاف فهذه سنة الله فى خلقه، ويجب ألا نخشى من احتدامه أحيانا إلى حد السخونة والحدة وتبادل الاتهامات، فهذا يحدث أحيانا فى الظروف العادية فما بالكم فى زمن التحول والثورات. نحن فى مجتمع يشهد تحولات محتومة من مرجعية وشرعية إلى مرجعية وشرعية أخرى. أى أننا نشهد مخاض ميلاد جديدا وهذا لا يكون بدون آلام وبعض الدماء، نرجو أن تكون الدماء التى أريقت خلال العامين المنصرمين هى نهاية المطاف، وهى بمقاييس الثورات جد قليلة والحمد لله.
إن مصر الآن فى أمسّ الاحتياج لبرهة من الهدوء والسكينة والهدنة.. ليقيم كل طرف ممارساته ويكتشف الصواب والخطأ فيها. نحتاج لإنهاء حالة المظاهرات والاعتصامات وشعارات الثورة مستمرة بمعنى اضطرابات الشوارع. وننتقل إلى التنافس المؤسسى الديمقراطى الانتخابى السلمى، حتى تتواصل الحياة بصورة طبيعية فى البلاد، ولا نضع الجدل السياسى فى مواجهة قضايا التنمية الاقتصادية والبناء.
ثورة 25 يناير كانت الطوفان الذى حطم سد الطغيان المستقر عبر القرون فى مصر، ولكنه كان فى طبعته الأخيرة حكم المؤسسة العسكرية على مدار ستين عاما . ولا يعنى هذا أننا لا نرى فرقا بين فترة عبد الناصر وفترتى السادات ومبارك. بل على العكس إننا نرى أن فترة عبد الناصر كانت تدشينا لشرعية ثورة 23 يوليو على جثة الشرعية الساقطة للحكم الملكى السابق، ورأينا أن فترتى السادات ومبارك كانت عبارة عن تآكل فى شرعية 23 يوليو دون تأسيس لشرعية جديدة، ورأينا فى ذلك مقدمة ثورة وشيكة ستحدث فى البلاد.
وقد كتبت فى 19 مايو 2002م ما نصه التالى:
"إن مصر تحتاج لتغيير شامل.. فتح أوسع حوار بين النخبة المثقفة وجماهير الشعب.. لمرحلة جديدة.. إن الأساس الدستورى للنظام (ثورة 23 يوليو) قد تآكل.. وإن الافتعال فى الاحتفال بالذكرى الخمسين للثورة.. لمدة عام كامل.. هو محاولة لتثبيت دعائم الأوضاع الحالية على طريقة الاحتفالات.. وحياة الأمم ومصائرها لا تتحدد بالاحتفالات.. إن الذين يحتفلون بثورة يوليو.. هم الذين هدموا أهم مبادئها.. سواء فى مجال التحرر من الاستعمار.. أو فى المجال الاجتماعى.. وبالتالى فإن استدعاء ثورة يوليو الآن فى صورة احتفالات.. لن يثبت دعائم الأوضاع الحالية ولن ينفع أحدا.. وكل ما تذيعه وسائل الإعلام يرتد على الأوضاع الحالية.. مثلا سمعت المذيع أحمد سعيد يروى عن أحداث عدوان 1956 وكيف تم ضرب محطة إرسال الإذاعة فى أبى زعبل.. وكيف تحولت 12 محطة إذاعة عربية إلى محطات لصوت العرب.. أين هذه الروح لمصر المرتبطة بأمتها العربية من الأوضاع الحالية التى تتحدث عن "الواقعية" وعن محدودية الإمكانات.. وعن الجبروت الأمريكى الذى لا يقاوم والخوف من تعكير المزاج الإسرائيلى.. أين أوضاع ثورة يوليو.. من حالنا ونحن نستقبل ذابحى الشعب الفلسطينى للتفاوض معهم على أرض مصر.. حتى إننا فى أسبوع واحد استقبلنا 4 مسئولين إسرائيليين.. على رأسهم الجزار بن إليعازر.. ونحن الذين نتنازل أمامهم فنوافق على استمرار المفاوضات بدون عرفات.. نستقبل 4 مسئولين دون أى شروط.. حتى دون أن نفرض عليهم الانسحاب من المدن المحتلة.. أو حتى رفع الحصار.. مصر الرسمية التى تشيد بخطاب بوش (وهو خطاب شارون).. ونطالبه بآليات التنفيذ.. وإن خطاب بوش تضمن بالأساس حماية أمن إسرائيل.. وإن آلية التنفيذ ستكون آلية لاستمرار المذبحة فى حق الشعب الفلسطينى.
وعندما يتحدث الإعلام عن بطولاتنا السابقة فى اختراق الكيان الصهيونى.. فإن ذلك يجعل الجميع يتساءل ولماذا نحن منبطحون الآن هكذا أمام إسرائيل؟.. وعندما تقرأ قصة شراء مصر من حر مالها صفقة طائرات ميراج فرنسية قبل حرب أكتوبر.. يتساءل المرء ولماذا الآن تتحدثون عن قلة الإمكانيات من أجل التسليح؟!
وعلى الصعيد الاجتماعى.. أين مجانية التعليم؟ ومجانية العلاج.. بل أين القطاع العام؟ أين قلاعنا الصناعية؟ أين ازدهارنا الزراعى؟
ولا أعنى أن المرحلة الناصرية هى هدفنا المرتجى الذى يجب إن نعود إليه بإيجابياته وسلبياته.. بل يجب تطوير الإيجابيات بما يتماشى مع تطورات العصر ومع وعى الأمة بعمقها الحضارى الإسلامى.. ويجب تجاوز السلبيات فى مجالات: احتكار العمل السياسى وخنق الحريات.. إلخ.
إذا كانت ثورة 23 يوليو هى الأساس الدستورى للنظام.. فيجب أن يقر الجميع أن هذا الأساس قد تآكل.. وأن علاقة واقعنا الحالى بالدستور قد أصبحت واهية.. بل أصبحت عكسية.. الدستور يتحدث عن الوحدة العربية وتحالف قوى الشعب العاملة وان الأساس الاقتصادى للبلاد هو النظام الاشتراكى.. ويتحدث عن السلوك الاشتراكى.. والتعليم المجانى, وعلى سيطرة الشعب على كل أدوات الإنتاج إلخ إلخ.
وقد وصل التآكل إلى حالة لا ينفع معها الترميم.. نحن نحتاج لإعادة مناقشة الخيارات الأساسية للأمة.. من خلال جمعية تأسيسية منتخبة بصورة غير مزورة.. لاستشراف مستقبل البلاد.. بعيدا عن أوهام الاحتفالات بثورة تم وأدها.. على يد القائمين على الحكم منذ ربع قرن. وإلا فإن أزمة النظام السياسى ستتواصل.. ولن يكون أمامه سوى طريق التآكل.. ويعرف الجميع ما هى عاقبة التآكل؟ الانهيار!" انتهى الاقتباس.
نُشر هذا الكلام على الإنترنت كما ذكرت عام 2002 فى موقعى الشعب والعمل وتم توزيعه فى شوارع مصر، ونشر فى كتاب صدرت له طبعتان الأولى كانت فى عهد مبارك.
رغم اعترافنا بشرعية ثورة 23 يوليو وهى حقيقة تاريخية لا يمارى فيها أحد والتى حكمت البلاد حتى ثورة 25 يناير، فقد أكدنا أنها تآكلت وأن النظام ينتظر الانهيار. وقد حدث هذا الانهيار بعد 10 سنوات من هذا التقدير المكتوب. والإقرار بشرعية مرحلة تاريخية ما لا يعنى الموافقة أو الإعجاب بكل ما مثلته من أفكار وممارسات. ولكنه إقرار بأنها كانت أساس مشروعية النظام السياسى والمجتمعى، وأنها حظت بإقرار وقبول شعبى عام صريح أو ضمنى، وكان هذا أساس استقرارها لا القوة البوليسية أو القمعية. وفى هذا الإطار نقول إن الطابع الاستبدادى للحقبة الناصرية كان من عورات هذه المرحلة، وغطى عليها مواقف عبد الناصر الوطنية والقومية وأيضا فى مجال العدالة الاجتماعية. ولهذا استخدم السادات راية الحرية والديمقراطية لإضفاء مشروعية خاصة على عهده، ولكنه لم يتمكن من استكمال المشوار. ولم يمثل عهده تأسيسا لمشروعية جديدة بقدر ما كان يدور فى فلك 23 يوليو ولكن فى ظل حالة من التآكل المتواصل لهذه المرجعية. ووصل التآكل ذروته فى عهد مبارك، وعندما أجرى هذا العهد تعديلات دستورية وألغى فيها كل نصوص الاشتراكية كان يحرر شهادة وفاته، ليس لأنه ألغى شرعية يوليو نهائيا، فهذا كان قد حدث بالفعل على أرض الواقع. ولكن لأنه لم ينشئ (وما كان بإمكانه أن ينشئ) شرعية بديلة. والحديث عن الاقتصاد الحر لا يمكن أن يمثل شرعية جديدة، فالشرعية لا تنشأ فى لجنة سياسات أو بقرار جمهورى أو دستورى أو بخطة ما يضعها بعض المفكرين فى منتدى أو جمعية. الشرعية تنشأ لأسباب تاريخية عميقة وتفاعلات كبرى أشبه بتفاعلات الزلازل والبراكين التى تخلق وقائع جديدة على الأرض لا يمكن نسبتها لجهة ما أو شخص ما أو هيئة ما. فشرعية يوليو نشأت من تفاعلات عميقة عبر عشرات السنين تسعى للحرية والاستقلال من الاستعمار الأجنبى بدأت بثورة عرابى وانتهت بالمقاومة المسلحة فى قناة السويس، وأيضا على محور النضال للخلاص من الظلم الاجتماعى للنظام الاقطاعى.
الشرعية الإسلامية
كل من يعيش على أرض هذا البلد ويعرف تاريخه ويخالط شعبه ويتفاعل مع أمته يعلم أن مصر وكل الأمة العربية والإسلامية تعيش تفاعلا تاريخيا عميقا وأصيلا أشبه بالسنن الكونية للعودة إلى الذات.. إلى هويتها الحضارية.. إلى شخصيتها الثقافية. وأن ذلك مرتبط بنزعة للحرية والاستقلال فى مواجهة الهيمنة الغربية.. مرتبط بنزعة للعزة الوطنية والاعتزاز بالنفس. وهذه العودة الحضارية بدأت تعرف مستويات رفيعة من الإنتاج الفكرى والفقهى الإسلامى المواكب للعصر بدرجات متفاوتة من بلد لآخر ومن مفكر لآخر ومن جماعة لأخرى. وحتى حركات التحرر الوطنى من الاستعمار التى كانت ترفع رايات جيفارا وهوشى منّه وماوتسى تونج أصبحت ترفع شعارات لا إله إلا الله. وقد ترافق هذا المدّ الإسلامى كما هو معروف مع انكسار المد الماركسى، وإندثار المثال الشيوعى فى التنمية والتقدم. فى نفس الوقت تراجعت حالة الإعجاب والوله بتجارب الغرب بسبب الجرائم التى ارتكبتها أمريكا وإسرائيل ولا تزال تحدث على أرض العرب والمسلمين. وتراجع نموذج النجاح الاقتصادى، بينما أضحت أنظار المسلمين متجهة إلى اليابان والهند والصين. وقد قال مهاتير زعيم نهضة ماليزيا إنه ولى وجهه شطر التجربة اليابانية ليقتبس منها طريق التنمية. وأصبح الحديث المشوق الآن والملفت للانتباه هو الحديث عن (بعد المعجزة اليابانية) المعجزة الأسيوية عوضا عن المعجزة الغربية أو الأمريكية. بل تتوالى أنباء الأزمات الاقتصادية الغربية.
فى هذا الإطار العام تعود مصر إلى مرجعيتها الإسلامية، ولا أتحدث هنا عن نصوص الدستور بخصوص ذلك فقد كانت موجودة فى العهد البائد، فالموضوع أكبر بكثير من نصوص الدساتير. انظر مثلا ما يحدث فى تركيا رغم النصوص العلمانية الفجة التى لم تتغير فى الدستور. إن عودة مصر للشرعية الإسلامية التى أسقطها الاحتلال البريطانى مسألة حتمية لأنه لا توجد مشروعية أخرى محتملة. وغلاة العلمانيين فى مصر وغيرها ليس لديهم أى مشروع إلا محاكاة الغرب. وهذا الاقتراح رفضته الأمة، لأنها جربته وانتهى بنا إلى هذا المصير. كانت هناك تجربة إسماعيل وانتهت بالغرق فى المديونية والاحتلال. وكانت تجربة عبد الناصر حيث مال إلى محاكاة النظم الغربية الشيوعية وكان معجبا بها للغاية من زواياها الاقتصادية والسياسية (لم يكن ملحدا بالتأكيد). ومن أهم المراجع فى هذا الصدد كتاب محاضر اجتماعات الوحدة بين مصر وسوريا والعراق، حيث تظهر هذه المحاضر الدقة الشديدة فى معرفة عبد الناصر للنظم السوفيتية والصينية واليوغسلافية واقتباسه منها. وهذا ما فعلته أيضا النظم البعثية والقومية العربية الأخرى ولم يتبق منها الآن إلا النظام السورى! وشهدنا إعجاب السادات بالغرب وكيف انتهى إلى الغرق فى الديون والتبعية وكامب ديفيد. وكان مبارك امتدادا بالغ السوء له، حتى ترك مصر حطاما. ولكن ما يهمنا هنا: ماذا فعل بنا الغرب عندما تركنا له القياد وقلنا له أنت المثل الأعلى ونريد أن نقلدك فى كل شىء. ولسنا من القائلين أن النموذج الغربى مرفوض كلية، ولا يمكن الاستفادة منه. أبدا ولكنه ليس نموذجا صالحا للتشغيل فى ظروف بلادنا. بل إن الغرب نفسه لا يريدنا أن نلحق به، فهو يريدنا عبيدا فى مشروعه. ولا نحجر على أحد أن يظل النموذج الغربى هو مثله الأعلى، وأن يظل يروج لذلك بالفكر والآراء، ولكننا نطالبه بشىء واحد: عدم استخدام وسائل غير مشروعة فى هذا السبيل، عدم استخدام العنف والبلطجة والمال الحرام والرشوة، وعدم توتير أجواء المجتمع، عدم استخدام وسائل الإعلام لنشر الأكاذيب. والاعتماد بدلا من ذلك على نشر الدعوة بالليبرالية وتطوير الأحزاب الليبرالية فى القرى والنجوع والأحياء الشعبية، والمنافسة الانتخابية. ربما تؤدى هذه التفاعلات إلى خلق مشروعية ليبرالية فى البلاد يوما ما، ربما أكون مخطئا فى تقديرى. فلست أوزع المشروعيات على هواى ولكننى مجرد باحث فى الواقع الذى أعيشه.
نرى فى حزب العمل أن المشروعية الإسلامية هى التى تفرض نفسها عبر عشرات السنين من التفاعلات: من أواخر السبعينيات من القرن الماضى، وهذه ظاهرة لا مرد لها وأن العاقل والوطنى هو الذى يعمل على ترشيدها لا محاربتها، لأن محاربتها ستؤدى به إلى محاربة الشعب!
الموضوع لا يرتبط بنصوص الدستور كما ذكرت، وإنما يرتبط بالتشريع والقضاء الذين تحكمهما الثقافة الإسلامية الزاحفة على المجتمع لا أوامر الحاكم ولا نصوص الدستور. ألا تذكروا أحكام القضاء فى عهد المخلوع التى أنصفت الحجاب والنقاب، وأحكام استندت فى حيثياتها إلى حجج من الفقه الإسلامى والشريعة الإسلامية. المرجعية الإسلامية تفرض نفسها بدون أوامر وتعليمات: الإقبال على الصيام ودور العبادة والحج والعمرة وأداء الزكاة والزى الإسلامى والكتاب الإسلامى وحتى النوافل الإسلامية. وهناك تدين موازٍ بين المسيحيين لا يتبرم منه العلمانيون.
فوز الإسلاميين بالأغلبية فى الانتخابات المختلفة هو مجرد انعكاس سياسى لهذه الحالة المجتمعية التى لا ترونها أيها العلمانيون رغم أنكم موجودون على أرض الوطن ولكن تتحركون فى دوائركم الخاصة. ولا سبيل للسلام الاجتماعى إلا بالاعتراف بالواقع ومحاولة تغييره بالوسائل السلمية والمؤسسية والديمقراطية.
شرعية ثورة 25 يناير
يقول العلمانيون: ولكن ثورة 25 يناير لم تكن إسلامية، بل حتى الإسلاميين (الإخوان) لم يشاركوا إلا يوم الجمعة. وهذا صحيح إلى حد ما. ولكن ثورة 25 يناير مظلومة مع الجميع، وستظل يختلف حولها وحول مغزاها رغم أنها حدثت أمام أعين وبمشاركة الجميع. وهذا الاختلاف حولها يؤكد أنها ملك الجميع فعلا، وكل شخصية وكل جهة وجدت نفسها فيها وتريد أن تنسبها إليها. لقد كانت ثورة مميزة فعلا، وأستطيع أن أقول بارتياح بعد حوالى عامين من التأمل إن هذه الثورة كما قلت فى بداية المقال كانت الطوفان أو الفيضان الذى حطم سد الطغيان، وفتح الطريق للجميع، ولكن المشروعية التاريخية الطبيعية (الإسلامية) كانت هى المستفيد الأول بطبيعة الحال. هذه الثورة كانت ضد طغيان الفرد الذى كان قد أصبح أمرا مسلما به، وتحول تاريخ مصر المعاصر إلى مقارنة بين شخص عبد الناصر وشخص السادات وشخص المخلوع، وهكذا تلخصت مصر فى تحليل شخصية ونفسية وتصرفات 3 أشخاص. وكان لا بد من إنهاء هذه الفرعونية المقيتة. الراحل جمال حمدان كان فى كتاباته الأخيرة يدرك أن هذه هى المشكلة الأولى لمصر ولذلك لفت نظرى ما قاله فى الجزء الرابع من شخصية مصر وكتبت عن ذلك فى كتاب الإسلام والحكم ما يلى:
أريد أن أستعرض الوصية النهائية للمفكر الراحل د. جمال حمدان.. رغم أنها ليست آخر ما كتبه, إلا أنها أكثر ما يستحق أن يوصف بالوصية, وهو الجزء الرابع للكتاب العمدة (شخصية مصر) فقد رأى عن حق أن مفتاح خروج مصر من أزمتها هو ضرب الأساس البيروقراطى الفرعونى. فهو يهتم بأساس تكوين المجتمع المصرى الذى تمحور حول النيل ونظم الرى التى ترعاها الحكومة, حتى أضحت البيروقراطية المركزية عنصرا أصيلا فى موكب الحضارة المصرية، أصبحت مصر مجتمعا حكوميا، الحكومة وحدها هى التى تملك زمام المبادرة وإمكانيات العمل، العمل الكبير على أية حال. حتى قال المؤرخون عن مصر: (إن قليلا من البلاد التى يلعب بها الجهاز الإدارى مثل الدور الذى يلعبه فى مصر أو يأخذ الحجم المتورم والثقل الضاغط الذى يأخذ فيها). أو (لا نعرف بلدا يتأثر أهله بالحكم صالحا أو فاسدا كما يتأثر أهل مصر، ولا نعرف بلدا يسرع إليه الخراب إذا ساءت إدارته كمصر).. (يكاد المجتمع المصرى أن يتحول إلى مجتمع حكومى، فمعظم من فى مصر أصبح يعمل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة موظفا عند الحكومة).
يقول حمدان فى وصيته: (قضية إعادة بناء الإنسان المصرى هى ببساطة قضية هدم الديكتاتورية المصرية الغاشمة الجهول، ودك صرحها الإجرامى العاتى المتهرئ، وتصفية الطغيان الفرعونى المخضرم المتقيح البغيض جسديا وأبديا، وهد قلعة الاستبداد المصرى الشوهاء المشئومة).
ويضيف: إن مصر عرفت العصابة الحاكمة -ولا نقول أحيانا الحثالة الحاكمة- بمعنى عصبة مغتصبة تستمد شرعيتها من القوة غير الشرعية.
لقد كانت مصر هى حاكمها، وحاكمها هو عادة أكبر أعدائها، وأحيانا شر أبنائها, وهو على أى حال يتصرف على أنه "صاحب مصر"، "ولى النعم" أو الوصى على الشعب القاصر الذى هو "عبيد إحساناته" وظيفته أن يحكم, ووظيفة الشعب أن يُحكَم. وحاكم مصر ينظر إليها كضيعته الخاصة, وإلى الشعب كقطيع، وعلى أحسن تقدير يتبنى فكرة الراعى الصالح والرعية التوابع، أى فكرة الأبوية الطيبة أو القاسية بحسب الأحوال. والدولة الفردية أقرب فى الواقع إلى الدولة الشخصية.
ويضيف: كانت دولة الطغيان كقاعدة عامة استسلامية أمام الغزاة بوليسية على الشعب. وهو يتحدث عن المعارضة فى عهد السادات ومبارك فيقول: المعارضة ديكور للديكتاتور, أو ملفقة كتمثيلية مرتبة جيدة الإخراج, أو داجنة مستأنسة شكلية مجرد حلية تابعة كما هى عاجزة، فهى على الأغلب "زائدة دودية" لا مبرر لها ولا وظيفة.
وهو يكتب عام 1984 (فماذا لو عاش حتى 2004 ليرى الأحوال أسوأ بما لا يقاس): (إن مصر تبدو اليوم فى أسوأ حالاتها، أسوأ مما كانت فعلا فى أى يوم مضى, إنها ما زالت تبدو حتى الآن عتيقة, شاخت ولا تتجدد أبدا. مريضة ولكنها لا تموت أبدا. ذلك أنها قد تعايشت مع المرض وتعودت عليه).
(إن مصر المأزومة والمهزومة المحرومة الجريحة الكسيرة الأسيرة لا بد أن تنفجر، لأن التغيير أصبح شرط البقاء, والاختيار صار بين التغير والموت. فإن تلك المرحلة هى بلا ريب مرحلة الخلاص). انتهى الاقتباس من كتابى ومن جمال حمدان.
*************
هذا هو الإنجاز الأعظم لثورة 25 يناير أنها قضت على سد الطغيان، ولا أحسب أن يتمكن أحد من إعادة بنائه لفترة طويلة من التاريخ.
كان لا بد للتيار الإسلامى أن يفوز بنصيب الأسد، بل يفوز بالسلطة، وهذه ليست كارثة فهو تيار من صلب هذا الوطن ومن صلب عقيدته. ولكن كل ما ذكرته لا يعنى أن الإخوان المسلمين سيحكمون مصر إلى أجل غير مسمى بسبب هذه الشرعية التاريخية الإسلامية. فهم إذا لم يحسنوا لن يعمروا طويلا، والمشروع الإسلامى أكبر من قيادة الإخوان، وأقصد ما أقول تحديدا (قيادة الإخوان) أو العناصر المتنفذة فى مكتب الإرشاد ولا أقول الحالة الإخوانية الإسلامية وقواعد الإخوان وأنصارهم وجماهيرهم فهؤلاء سيظلون جزءا لا يتجزأ من المشروع الإسلامى.
الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.