على الرغم من الكثير من تباشير الفرح الذى يغمر نفوسنا سعادة بثورة يناير، لا أدرى لِم يساورنى شىء من القلق، لا بفعل مظاهر الثورة المضادة التى لا تخطئها عين، ولا بفعل الخطوات المتباطئة للغاية التى يتخذها المجلس العسكرى، ولا برؤية بعض من شياطين النظام السابق ما زالوا أحرارا رغم أنهم أكثر من أعانوا على الطغيان والفساد، وعلى رأسهم صفوت الشريف، وزكريا عزمى، وإلى حد ما فتحى سرور الذى عمل عشرين عاما " محللا " دستوريا ونيابيا للكثرة الغالبة من موبقات النظام التشريعية، دون أن يهتز له ضمير، وأبرز هذه التشريعات التعديلات الدستورية السابقة.... إنما يرتجف قلبى خوفا من أن تتكرر بعض مشاهد تاريخ سابق، أجده مع الأسف يقفز من حين إلى آخر إلى ذاكرتى، ليبث فى نفسى خوفا وقلقا..من ماذا؟ من مهارة كثيرين فى شعبنا – ولابد أن نعترف بذلك - على صناعة الطغيان، حكاما ومحكومين، كيف؟ عندما قامت ثورة يوليو 1952، كنت واحدا من الذين كادوا أن يخرجوا إلى الشارع راقصا من الفرحة الغامرة، التى غمرت مشاعر مئات الألوف من المصريين. ولم يخيب قادة الثورة ظنوننا، فما من يوم كان يمر إلا ويزف إلينا الراديو خبرا سارا، وإجراء يرفع ظلما، وينشر عدلا، ويشيع حرية، مع أن ما كان يفرحنا زواله، بعد الكشف عن مآسيه، لا يشكل ذرة مما سمعنا عنه، فى أيامنا الحالية، مما كشفت عنه ثورة يناير عن عهد مبارك الأسود. وبلغنا ذروة الفرحة فى أوائل مارس عام 1954، ثم إذا بعملية التفاف تدريجية، تؤدى إلى تضييق الخناق على الحريات، وزحف تدريجى أيضا لدولة أمنية بامتياز، بعد انتهاء ما عُرف بأزمة مارس 1954. ما من مرة أجد أتحدث فيها عن ثورة يوليو 1952 أو عن زعيمها جمال عبد الناصر، إلا وأجد نفسى مضطرا إلى التنويه بأنى من عشاق هذا الرجل، تحسبا لدراويش الناصرية، الذين لا يطيقون نقدا للرجل، مع أنه بشر يصيب ويخطئ، رغم ما أقرأه من تعليقات على هذا تنقدنى بشدة. لكن رغم حبى هذا للثورة السابقة وزعيمها، فإنى لا أستطيع أن أغفل أبدا صورا من القهر والبغى حدثت لكثير من الناس : كان الجهد الأكبر متجها إلى تحرير الوطن، دون أن يساوقه جهد مماثل لتحرير المواطن، بفعل مقولة شاعت خلال تلك الفترة، تفضل الديمقراطية الاجتماعية على الديمقراطية السياسية، مع أنهما وجهان لعملة واحدة، لا ينبغى الاختيار بينهما. وإذا بالتخوفات المشروعة من تسللل فلول النظام الملكى والإقطاعى، وأعوان الاستعمار، وعملاء إسرائيل ، يوسع من دائرة " البصاصين "، حتى ملأت الساحة، ووصل الأمر إلى انتهاك أبسط حرمات الحياة الشخصية، وعلى سبيل المثال : كنت أجد خطابات تصلنى من الخارج ، من صديق مبعوث للدراسة، يرد على رسالة لى، تشير إلى أنها فُتحت وقُرئت، لا بوسائل فنية لا تجعلنى أرى آثار ذلك، بل بوسائل بدائية وقحة، حيث كنت أجد الخطاب ملصوقا بورق كراريس، ظاهر للعيان، وختم علنى يعلن أن الخطاب فُتح بواسطة الرقابة! ويصل الأمر أيضا إلى " تشغيل " نساء وفنانات للإيقاع ببعض الشخصيات المحلية وزوار مصر من خارج، حتى يسهل السيطرة عليهم، كما يقولون، وأشهر من سار على هذا الطريق، من أصبح – فى عهد مبارك ، بعد اختفاء طويل ، ويا لللسخرية - مسئولا عن جهاز إعلامنا سنين طويلة، ثم أصبح مسئولا عن أحد المجلسين التشريعيين، ومسئولا عن اختيار رؤساء الصحف القومية، ومسئولا عن الموافقة أو الرفض لمن يتقدم بطلب إنشاء حزب جديد...صفوت الشريف! لم يكن هناك اعتراض واضح من معظمنا على جمال عبد الناصر، فقد تحملنا انفراده بالقرار، ثقة بما كان عليه من وطنية ومعاداة للصهيونية وقوى البغى العالمية، ومناصرته لحركات التحرر، ومعيشته الشخصية المتواضعة للغاية...لكن المشكلة أن هذا أفرز نظما وقواعد وتقاليد، بل وفراعين متعددة، على مستويات مختلفة، حتى وصل الأمر إلى أن يكتب هذا وذاك من الأفراد العاديين تقارير ضد زملاء لهم وأصدقاء، وكأن ما نشأ وظهر من أجهزة أمنية لم يكن يكفى، فأصبح الأخ يشك فى أخيه! وعندما جاء السادات، كتب الراحل الأديب عبد الرحمن الشرقاوى مقالا بصحيفة الأخبار بعنوان ( سقطت دولة الأمن ) ، وراح السادات ، فى حركة مسرحية، يهدم باب سجن شهير، إعلانا على أن العهد الجديد يعيد الحريات والديمقراطية إلى أبناء هذا الشعب الذى ظلمه حكام من وطنه ، بدرجة أقسى مما فعله الحكام الأجانب السابقين ، تحت مظلة الاحتلال البريطانى!! كما قام السادات، أيضا بجمع مجموعة من الأشرطة التى تحوى تسجيلات، كانت تتم عن طريق الأجهزة الأمنية لكثير من الناس، وقام بحرقها، إعلانا آخر لصورة من صور التحرير، والانطلاق صوب الديمقراطية.. لكن ، تدريجيا، حرص بعضنا على أن يتعامل مع الرجل بصورة حولته فرعونا جديدا، حتى لقد سمعت أول أمس(السبت 12 مارس 2011) على لسان الدكتور إبراهيم درويش، أستاذ الدستورى الشهير ، يقول فى أحد البرامج أنه شارك فى وضع دستور 1971، وكان من أفضل ما يمكن تصوره ، ثم ذهبوا به إلى السادات ليعتمده ، فإذا بالصورة قد تغيرت كثيرا عما اتخذه الفقهاء والمفكرين، ليقنن الدستور بعد ذلك صور قهر واستبداد،وغالبا لم يفعل هو ذلك من نفسه، فهو ليس خبيرا فى الصياغات الدستورية، بل فعله " ترزى " جديد للقوانين..ذا علم ودراية، وذا خبرة ومهارة، لكنه بغير ضمير، وبغير أخلاق!! وهل ننسى أن بعضا من نواب مجلس الشعب، بعد فترة، قدموا اقتراحا بإلغاء القيد على مدد ترشح رئيس الجمهورية ، لتصبح بغير حدود؟! أما ما حدث للرئيس التالى، غير المأسوف عليه، حسنى مبارك، فما زالت أنهر الصحف تفيض يوميا، وكذلك القنوات التلفزيونية، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، من صور الفساد والطغيان، التى لطخت سنينه السوداء، مما لا يحتاج الأمر معه، إلى مزيد بيان. لكن ما نريد أن نؤكد عليه، أن الحاكم يجئ عادة، وهو، كما نقول، " أبيض"، ثم إذا بهذا وذاك، يزين له هذا الأمر وذاك، مما لا يحق له، ويفلسفه، بل ويُشرع له، حتى يصدق الرجل أنه بالفعل زعيم لا مثيل له، وأن الكثرة الغالبة من المواطنين تعيش فى بحبوحة من العيش بفضل حكمته ورجاحة عقله المزعومة. إن مما يؤدى إلى هذا، هو تلك النصوص الدستورية التى تُسلم رقبة الشعب إلى الحاكم، عن طريق مواد توسع من سلطاته، إلى حد أن يكون بالفعل هو وحده الآمر الناهى، فتصدق المقولة الشهيرة " إن السلطة المطلقة مفسدة مطقلة ".ومن ثم فإن من أهم الخطوات الواجب التنبه لها، أن تنحصر سلطات رئيس الدولة فى أضيق نطاق ممكن، دون أن تغرنا أن يكون هناك ما يسمونه بالضمانات البارلمانية، من حيث ضرورة موافقتها لما يقرره رئيس الدولة، ذلك لأن البرلمان نفسه – كما رأينا – يمكن أن يكون صنيعة الحاكم وحاشيته، فيوافق على كل ما يطلب ويقرر. ومن هنا تتبدى أهمية تقييد مدد الرئاسة. إن طول فترة الحكم، تتيح الفرصة " لراقات " من الأعوان والمساعدين، أن تتراكم، ممن يكونون حاشية الرئيس، فيزداد الحاكم عزلة عن الناس، ولايرى الأمور إلا بالصورة التى يرسمها هؤلاء، بحيث يتحولون هم أنفسهم إلى حكام حقيقيين، وكأن الرئيس الرسمى، مجرد " برافان " يتسترون خلفه. ولأنهم متعددين، يكون بينهم تنافس على القرب من الرئيس، ربما يتحول إلى صراع، حتى ينفرد هذا أو ذاك بأذن السيد الرئيس. وحرص هؤلاء على انفراد الحاكم بالسلطة وديمومتها، إنما هو حرص منهم على سلطتهم هم وقوتهم هم، وما يمارسونه، تحت هذه المظلة من فساد وإفساد. وهكذا تتأكد أيضا ضرورة التعددية السياسية، وضمانات نزاهة الانتخابات حتى يكون هناك ضمان لوجود مجلس تشريعى يقف بالفعل مراقبا وموجها ومحاسبا، وقادرا على الموافقة أو الرفض، على ما يتطلع إليه جمهور الناس. وقل ما شئت عن الجهاز الجهنمى لأمن الدولة الذى أصبح أخطبوطا يزيح الكفاءات جانبا أو يلقيها فى غيابات السجن، ليقدم المسايرين، الفاسدين، الخانعين، فيتحولون بدروهم إلى طبقة أخرى من الفراعين، تعيث فى البلاد فسادا... وتشكل أجهزة الإعلام شكلا من أشكال التمكين للاستبداد بتحولها إلى مجرد أجهزة تزيين وتجميل وتبرير، وإزاحة كل رأى مخالف، والحجر على كثير من أصحاب الفكر المستقل، مما يشيع صورة مغايرة تماما عن الواقع، وهناك ملايين البسطاء، فى بلد تبلغ فيه نسبة الأمية، ما يقرب من الثلث، أى نتحدث عن أكثر من عشرين مليونا، ومعظم هؤلاء كثيرا ما تنطلى عليهم ألاعيب المنافقين، الذين يزينون للحاكم مايفعل. فى كل مرة إذن ، منذ عام 1952، ومرورا بعهد السادات، ثم بأوائل حكم مبارك، تعم الفرحة بالتحرير وبالديمقراطية، ثم إذا بكدابى الزفة، وضاربى الدفوف، والراقصين على الحبال، والحراس غير الأمناء، يتحولون إلى ثعالب وأفاعى وعقارب، تأكل ما أنجزه الشعب، وتعيد الحياة إلى دولة ظلم وقهر وفساد.. ولا ينبغى أن نردد المقولة المثالية بأن الضامن فى مثل هذا الحال – بعد الله عز وجل- هو الشعب، فمع التسليم بصحة هذه المقولة، لكن ما لايقل عن ذلك أهمية..أن تكون مصر دولة قانون ومؤسسات، والغريب أن السادات نفسه قال بهذا فى أوائل حكمه، فما الضمان لتحقق هذا بالفعل، بحيث لا " تعود ريمة لعادتها القديمة " ،ونقع مرة أخرى فى براثن القهر والطغيان؟