مسئولو وزارة الثقافة- الذين أتى بهم الفساد أو أحضرهم الجهل أو زكتهم كتابة التقارير نكاية فى الشرفاء حتى اعتلوا مقاعد السلطة– اختاروا أن يصيبهم الشلل الإرادى والعمى القصدى والصمم بالاختيار كى لا يبصروا ولا يسمعوا ولا يعترفوا أن مسارح الدولة التى وكلت إدارتها إليهم مغلقة بحجة أنها تحت التحسينات. وأن أهلها الذين ليست لهم مهنة سوى إبداع الفن، ولا غاية غير صناعة التنوير؛ ولا هدف إلا ابتكار المتعة الرفيعة؛ يلقى بهم على أبواب رؤساء جهلة ومسئولين لا تكفّ أيديهم عن الارتعاش خشية اتخاذ قرار بفتح أبوابها وإضاءة أنوارها، فى حين يسيل لعابهم للمكافآت وتنتفخ جيوبهم بالرواتب، ويروحون عن أنفسهم بالسفريات المكررة للخارج وللداخل وما بها من مباهج الإقامة فى الفنادق الفاخرة، وفتح الأشداق آليا بالابتسامات الكالحة المحضّرة سلفا أمام كاميرات الصحف؛ واتخاذ الأوضاع المضحكة فى البرامج التلفزيونية من كل صنف ولون واتجاه. لا يهم إن كانت المناسبة حديثا غثّا عن فعالية هشة أو مهرجان لم يسبقه حصاد أو وحدث تافه يحاولون إعطاءه قيمة؛ أو عزاء صورى لشهداء مسرحيين لا يعرفون قدرهم ولا يحسّون بتصدع قلوب ذويهم وأحزان من عرفوهم. هم أنفسهم من يتركون الفنانين الشرفاء شبابا وشيوخا واقفين بالساعات على أبواب مكاتبهم المريبة دون لقاء. ومن يلتذون بترددهم عليها أياما دون مقابلة. ومن يتركونهم ينتظرون أسابيع بل شهورا دون أن يظفروا بإجابة أو يحصلوا على قرار. وهكذا تستنفد طاقاتهم وتبحّ أصواتهم كى يفوزوا- بمنحة عرض مسرحية قيمة اسمها أبو الثوار– أياما على مسرح معهد الموسيقى العربية وكمجرد مثال. بينما تعلن أنقاض مسرح الأزبكية عن نفسها للرائحين والغادين منتظرة مشروع الترميم والتطوير وإصلاح ما هدمه الجهل أو انهار تحت وطأة الإهمال أو احترق بفعل الفساد قصدا وتعمدا كما يشاع ويقال إلى حين تثبته التحقيقات. وفى نفس الوقت يظل مسرح السلام ومسرح الغد ومسرح الطليعة خائرى الأنفاس منهكى القوى لا تفلح قبلات الحياة- التى تقطعت بها أنفاس فنانيهم المخلصين- سوى فى جعلها تنبض نبضا خافتا متقطعا لعدة ليال خاوية مهجورة من الرؤية، وبعدها تخمد الأنفاس وتموت رغم الإعلانات الهزيلة والادعاءات المضحكة الكاذبة بالنجاح والرواج والانتعاش كما لو أنهم يعيشون فى بلد آخر أو كأن أهل مصر مغيبون عن الوعى أو خائفون لا يزالون من مجرد التعبير. أما السبب فمعروف وهو أنهم "هم" أولئك الذين بيدهم مقاليد الأمور على اختلاف درجاتهم ومسئولياتهم لا يريدون مسرحا ولا يعرفون كيف يقدمونه أو يفعّلونه أو يقيّمونه بل أصلا لا يعترفون بجدواه. هم إذن أعداؤه لأنهم يجهلونه والإنسان– كما يقال وكما هو ثابت– عدو ما يجهل! ليس للمسرح من مستقبل إلا بعد أن يتخلص من كل هؤلاء. ثم ينطلق عن إيمان بدوره وثقة بجدواه ورغبة مخلصة فى جنى ثمار تفعيله. أى حين يحبه المسئول المباشر عنه والموكل أمر حياته وانتعاشه إليه. ولن يحبه إلا حين يعرفه بحق ويعشقه عن اقتناع. لأن كثيرا منهم– وممن هو أعلى مرتبة من رؤسائهم- ربما لم يشاهد مسرحية واحدة فى حياته قبل أن يسند إليه المنصب. بل ومن المؤكد أن منهم من لم يقرأ كتابا طيلة عمره. كما أن منهم من لا يستطيع أن يكتب جملة عربية واحدة صحيحة أو يقوم بتشكيل فعل وفاعل ومفعول. ناهيك عن جهل تام بأية لغة أجنبية إقرارا لقاعدة أن من يجهل لغته يعجز تماما عن تعلم لغة أخرى. اللهم إلا عامية الشوارع ولكنات السوقة وملتقط العبارات الجاهزة من السياح والزائرين. ولن يحدث ذلك أيضا إلا حينما يتحرر الكاتب من سطوة الممثل الذى يقّيم الدور بطوله ويقيس قيمته بمدة بقائه أمام أعين النظارة يجأر و"ينخع" حتى ولو ظل ثابتا فى نفس الموقف مثبّتا على نفس الفكرة، مؤكدا قول شكسبير "كلمات كلمات كلمات.." أو "جعجعة بلا طحن" فى مظنة منه أنه "يفعل"– كما تقتضى الدراما- بينما هو واقف فى مكانه لا يقدم سوى مجرد الثرثرة والثرثرة المجانية! ولن يكون له مستقبل إلا حين يتخلص من المخرجين الذين يتعاملون مع الكلمة "من الخارج".. ومع الفكرة من السطح عاجزين عن قراءة ما بين السطور؛ فيعبئون عقل الممثل وذاكرته بالكلام دون أن يصلوا به ومعه إلى المعنى ليؤدى هاملت على –سبيل المثال– دون أن يفهما معا ماذا تعنى عبارة مثل "أكون أو لا أكون".. أو "أغمدوا سيوفكم فلقد بللها الندى".. أو أن يحولوا الملك لير إلى مجرد ميلودراما عائلية لا تحمل من معنى سوى مجرد عقوق الأبناء طالما حذفت أهم التساؤلات الكونية التى عجزوا عن إدراكها فأسقطوها من النص والعرض والأداء.. ثم صعدوا فوق قامة ممثل عبقرى وانتشوا بالتصفيق له متوهمين أن لهم منه نصيبا أو أنهم قد صنعوه!