تاريخ المسرح حافل بأسماء مسرحيين شكلوا فصولاً مهمة منه، وبقوا كعلامات بارزة عبر العصور، هؤلاء بقوا واستمروا لأنهم رسموا برؤاهم ملامح مستقبلية للمسرح في زمانهم عبر الاختلاف والثورة والتمرد علي المسرح السائد، أما أولئك الذين جاءوا ترديداً وامتداداً لما سبقهم دون إضافة، فلم يجدوا لهم مكاناً بارزاً وملموساً داخل هذا التاريخ.. جاءوا ومضوا مثلما جاءوا، أما الثائرون والساخطون من أصحاب الرؤي الجديدة فقد تركوا لنا ما يستحق أن نتأمله بين الحين والآخر وكذا سيفعل القادمون من بعدنا إلي عالم المسرح الساحر.. والثائرون علي المسرح عنوان كتاب ألفه «دافيد جرو سفوجيل» الذي عمل أستاذاً للدراما بجامعة «كورنيل» الأمريكية، وهو نافذة مهمة نطل منها علي أعمال أربعة من الكتاب المسرحيين الكبار في القرن العشرين هم: برتولد بريخت وصامويل بيكيت ويوجين يونسكو وجان جينيه وكل منهم يمثل اتجاهاً وعلامة بارزة دفعت الكاتب والناقد الراحل فاروق عبد القادر إلي أن يفتح لنا هذه النافذة لنتأمل ونتعلم.. أنا كاتب المسرح.. أعرض ما قد رأيت.. رأيت الإنسانية تباع في أسواق الإنسان.. وهذا ما أعرضه.. أنا كاتب المسرح هكذا قال بريخت وهو يعي أن ما يريد عرضه لا تناسبه الطرق القديمة للتفكير والتعبير، فذهب إلي ضرورة أن يتخذ المسرح موقفاً نقدياً فيرفض مبدأ التوحد.. أي أن يصبح المشاهد أحد الواقفين علي خشبة المسرح، ويري أن التراجيديا الكلاسيكية حين تقدم علي «خشبة المسرح كمجتمع» فهي تعني أن «المشاهد كمجتمع» ليس في استطاعته أن يغيرها.. فأوديب حين خرج علي مبادئ المجتمع لقي عقابه.. وتكفلت الآلهة بكل شيء. يجب أن يقاوم المسرحيون هذا التوحد بين المشاهد وحقيقة المسرح وأن يستخدموا كل الوسائل الدرامية الممكنة كي يخلقوا عند المشاهد الشعور بالدهشة. تصبح الحكاية هي جوهر العمل الدرامي بل وترفض الشخصيات نفسها أن تذوب فيها، وتحكي الحكاية بشكل تحليلي، أي في مجموعة من الفصول تمثل وحدات مستقلة يربط المشاهد بينها، الكورس يعلن عن الفصل قبل بدايته، والممثلون يلقون العناوين المكتوبة قبل أن يبدأوا أدوارهم.. هكذا يتحول المسرح إلي مدرسة لعمق الفهم ونمو المعرفة عبر طابع ملحمي يستدعي العقل بدلاً من المشاعر.. أما يونسكو فيقول عن مسرحه «المسرح عندي اسقاط لعالمي الداخلي.. اسقاط لأحلامي وقلقي ورغباتي وتناقضاته الداخلية» دخل يونسكو إلي المسرح مرتبطاً بظاهرة العبث التي بلورها «البير كامي »في كتبه «مقال عن العبث» ثم «أسطورة سيزيف» ولكنه دخل ومعه أيضاً حيل ووسائل وإضافات جديدة، في كل مسرحية من مسرحياته شخصية تعلن فشل اللغة وإخفاقها في تحقيق التواصل: شخصية تقول كلمات غير مفهومة (القاتل) وخطيب أصم وابكم يقف ليعبر عن نفسه في (الكراس)، ثلاث شخصيات تحمل نفس الاسم في (خطبة مرتجلة).. مسرحه مشحون بالقلق، والعبث يشكل إطاراً عاماً بعيداً.. تخلي عن القضايا ذات البعد الاجتماعي وانصرف إلي قضايا الإنسان وبالتالي لم يرض عنه أصحاب الايديولوجيات.. يونسكو أشبه برجل صعد إلي خشبة المسرح ومعه بعض الألغاز ينشغل بحلها.. وإذا كانت الحيل اللفظية واللعب بالكلمات هي طابع مسرح «يونسكو» فإن الصمت هو طابع مسرح بيكيت فبرغم الثنائية الموجودة دائما في مسرحه إلا أن الحوار لا يتحقق دائماً من حيث هو تبادل.. إنه يتخذ شكل المونولوج الذي ينتهي بالصمت.. إن مسرح يونسكو يقول لنا بالتأكيد والثرثرة.. وبيكيت يقول لنا بالصمت. وأقرب التصورات إليه هو التصور الدائري.. الزمن يمضي.. والليل يعقبه ليل آخر.. والحكاية تعاد دائماً.. وتبقي الأحداث كما هي.. مهما اختلف مظهرها.. إن بيكيت في مسرحه ينسج خيوطاً مخيفة يخفي بها عري الضياع الإنساني ويعرضها في نفس الوقت وتلتقي كل هذه الخيوط لتنسج قناعاً يشكل الموت أبرز جزء فيه.. ولكنه وسط الرماد والموت والجثث التي تملأ مسرحه يلمع «بصيص» صغير.. وستبقي مسرحياته كشهادة عن صرخة اليأس والإحساس بالعدمية تجاه الزمن الذي عاشه. أما «جان جينيه» الذي عرف الطريق إلي السجن كمجرم خارج عن القانون.. فهو حيث يكتب لا يريد لكلماته أن تصف شيئاً.. ولا أن تسرد أحداث رواية أو تكون مرآة مهما كان الشيء الذي سينعكس علي صفحتها إن إبداعه مشحون بطاقة عدوانية ضخمة.. إنها استمرار لموقف الخارج علي المجتمع من المجتمع.. الذي يراه «جينيه» قديماً ومألوفاً ومملاً.. وهو غير معني إلا بما هو خارج أسوار هذا المجتمع وهو لا يحاول التقرب إلي المجتمع الذي خرج عليه ليصبح عضواً صالحاً في داخله. يقول سارتر: إن جينيه سيسترجع للإنسان تلك الموضوعات الخاطئة التي لا يراها الله لأنها خاطئة.. الإنسان فقط هو الذي سيكون بوسعه أن يري جمالها». وسط المجرمين وصل «جينيه» إلي حقائقه الخاصة: أن المجتمع يخنق حياة الفرد ويدفعه إلي التنكر وارتداء الأقنعة بحثًا عن الصلاح الاجتماعي أما مسرح «جان جينيه» فيقول لهؤلاء: لا تتنكروا وكونوا أنفسكم حتي لو نبذكم المجتمع ورفضكم، مثلما كان هو نفسه.