لم أكن أستطيع أن أشاهد العرض المسرحي الذي أحدثكم عنه في هذه المقالة, وهو مأساة راسين الرائعة اأندروماكب, لو أني توجهت مباشرة إلي مسرح الكوميدي فرانسيز ووقفت أمام شباك التذاكر كما نفعل عادة لأشتري تذكرة آخذ بها مكاني فيه, فقد علمت أن المقاعد كلها محجوزة إلي نهاية هذا العام في الكوميدي فرانسيز وفي معظم مسارح باريس, ولهذا لم يكن أمامي إلا أن ألجأ لابنتي التي تعمل في التليفزيون الفرنسي لتساعدني في العثور علي مكان في عرض من العروض الثلاثة التي تمنيت أن أشاهدها. في مسرح الأكواريوم كانت تعرض مسرحية االملك يلهوب لفيكتور هيجو الذي نعرف أنه لم يكن مجرد شاعر عظيم, وإنما كان شاعرا نبيا أخلص للحرية كما أخلص للفن, والثمن هو المنفي الذي عاش فيه سنوات بعيدا عن وطنه, لكنه من جانب آخر المجد الذي خلعه عليه مواطنوه. ولقد ظلت مسرحية فيكتور هيجو هذه تصادر وتمنع من العرض منذ قدمت لأول مرة علي مسرح الكوميدي فرانسيز في نوفمبر عام1832 حتي سمح بتقديمها بعد أكثر من نصف قرن. وفي هذه المسرحية الشعرية التي نظمها فيكتور هيجو في خمسة فصول يندد الشاعر بعودة الملكية إلي فرنسا بعد هزيمة نابوليون, ويقف في مواجهة الملك لويس فيليب ونظامه الرجعي المستبد يفضحه ويسخر منه بلسان بطل المسرحية المضحك المهرج ثريبوليه, وهو شخصية تاريخية عاشت في بلاط الملك فرنسوا الأول الذي لم يكن يكف عن القيام بغزواته النسائية, والحاشية تصفق له, ومضحكه ثريبوليه يسليه, ويزين له ما يفعله إلي أن جاء اليوم الذي رأي فيه ابنته التي يغار عليها ويحيطها بعطفه وحمايته مخطوفة معروضة في طرق الراغبين من رجال القصر. عندئذ لم يكن أمام المضحك المطعون إلا أن يقلب الملهاة إلي مأساة انتهت بها المسرحية التي لم أتمكن من مشاهدتها لأن المقاعد كانت محجوزة كلها. المسرحية الأخري التي تمنيت مشاهدتها في زيارتي الأخيرة لباريس هي رائعة ادمون روستان التي نعرفها ونحبها كما يعرفها ويحبها الفرنسيون, سوي أننا قرأناها مترجمة ومعربة بقلم المنفلوطي الساحر, والفرنسيون يقرأونها ويشاهدونها منذ طبعت في كتاب وقدمت لأول مرة علي خشبة المسرح عام1897 فحظيت بنجاح مدو لم يتوقف ولم يهدأ حتي اليوم. لكن سيرانو دو برجراك كانت تعرض في مسرح من مسارح الضواحي ولهذا صرفت النظر عن مشاهدتها أيضا, وركزت جهودي في البحث عن مقعد في الكوميدي فرانسيز, معتمدا علي ابنتي التي اكتشفت أن بعض المكاتب المشتغلة بتسويق الفن تشتري بعض الحفلات وتتولي هي التعامل مع أمثالي من الذين فاتهم أن يحجزوا مقاعدهم في الوقت المناسب, وهكذا تمكنت من مشاهدة اأندروماكب أروع ما ألف راسين, وأوفر العروض حظا من إقبال الجمهور. ونحن نعرف مسرحية راسين, فقد ترجمها طه حسين ترجمة بديعة في أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي, وصدرت ضمن الأعمال الكاملة لراسين في أكثر من طبعة آخرها التي صدرت عن دار المعارف قبل أربعين سنة. والحقيقة أن ترجمة عميد الأدب لم تكن أول ترجمة لهذه المسرحية, وإنما سبقتها ترجمة لأديب إسحق ظهرت عام1873, ولا أدري أي ترجمة من الترجمتين هي التي قدمها جورج أبيض علي مسرح دار الأوبرا المصرية في ثلاثينيات القرن الماضي بعد إنشاء الفرقة القومية المصرية التي أريد بها أن تؤدي في حياتنا الثقافية الدور الذي تؤديه الكوميدي فرانسيز في فرنسا, فتقدم الروائع الكلاسيكية التي لا يستطيع المسرح التجاري أن يقدمها. و اأندروماكب هي قصة الشقاء الذي يجره البشر علي أنفسهم حين يشن بعضهم الحرب علي بعض فيكتوون بنارها جميعا,لا فرق بين الرابحين والخاسرين, وهي أيضا قصة الحب المستحيل, فالخارجون من حرب طروادة كلهم عاجزون عن الحب, بيروس ابن آخيل وملك إبير الذي انتصر في الحرب يحب أسيرته أندروماك أرملة هكتور ابن ملك طروادة الذي سقط في المعركة ومثل أخيل بجثته فذكراه حية ماثلة لا تستطيع أندروماك إلا أن تظل وفية لها, وهرميون ابنة هيلين وخطيبة بيروس تحب خطيبها وهو لا يعبأ بها, وأورست ابن أجاممنون وابن عم هرميون يحبها وهي لا تبادله عواطفه, لكن هرميون تغضب لما تلقاه علي يد بيروس من مهانة فتغري أورست بأن يغتاله ليخلو له الجو فإذا انصاع لأمرها قتلت نفسها وعندئذ يصاب أورست بالجنون! وليس في هذه القصة, ولا في حياة أبطالها, ولا في المصير الذي لقيه كل منهم شيء غريب, هذا هو ما يحدث في الواقع أو ما يمكن أن يحدث فيه. والفرق بين ما نعيشه بالفعل وما نشاهده هو قدرة الكاتب أو الشاعر علي قراءة النفوس, وتتبع الحوادث وتوقع المصائر واختصار الزمن. وفرق آخر هو أن ما يحدث في الواقع ليس أكثر من حوادث تقع للجميع فالأبطال كلهم مجهولون, أما في المسرح وفي غيره من الفنون فالحوادث تتحول إلي كلمات وأغنيات, وصور وتماثيل, الفعل الذي يتكرر كل يوم في الواقع ولا يلفت أحدا يصبح في الفن إبداعا لا يتكرر وجمالا يبقي علي الزمن, ومن هنا لا يكف الكوميدي فرانسيز عن عرض اأندروماكب التي قدمت لأول مرة علي المسرح سنة1667, ولا يكف الناس عن مشاهدتها, لأنهم في الحقيقة يشاهدون فيها وفي غيرها من الروائع أنفسهم, بعد أن غيروا أسماءهم وملابسهم, ووضعوا علي وجوههم الأقنعة, وانتسبوا لأمكنة وأزمنة يرونها هناك وهم يجلسون هنا فيصبحون مشاهدين مشهودين. ونحن نعرف أن راسين شاعر مسرحي كلاسيكي يلتزم القواعد الموروثة عن المسرح اليوناني القديم ويحافظ عليها, فموضوع المسرحية واحد, ومكانها واحد, وزمانها محدود متصل, وهذا ما نجده في اأندروماكب التي تقع أحداثها في بهو من أبهاء قصر الملك بيروس, وتتواصل حتي تنتهي إلي ما انتهت إليه, دون أن تتغير المناظر إلا بالقدر الذي نخرج فيه من الصباح إلي المساء. أعمدة البهو كأنها من مرمر ناصع البياض, وستائر طويلة هفهافة ترقص في الريح, وإضاءة رهيفة نقية تساير الوقت كأنها شمس لا نراها, وموسيقي مصاحبة للإضاءة مصدقة للكلام, وأي كلام؟ إنها لغة راسين بكل ما فيها من جمال وغني, وإنها أصوات الممثلين الذين يختارهم الكوميدي فرانسيز وفق الشروط التي لابد أن تتوافر فيهم حتي يمكنهم أن يؤدوا رسالته, وهي تقديم الأعمال الكلاسيكية التي لا يستطيع أن يؤديها جسم مترهل, أو صوت معيب, ممثل الكوميدي فرانسيز تمثال حي من تماثيل اليونان والرومان, وصوته قوي معبر مقنع حساس. تصوروا! ساعتان متواصلتان عرضت فيهما المسرحية وأدي كل ممثل دوره لم يتوقف لحظة, ولم يتلعثم, ولم ينس حرفا, ولم يغير كلمة, ولم يطلب العون من ملقن. والحوار كله شعر رائع تسمعه فكل صوت صحيح المخرج, وكل تدفق مبرر, وكل وقفة في مكانها, وهو مع ذلك كله شعر موزون في البحر السكندري, مقفي, متميز عن النثر ومعبر بقوة عن الواقع حين يبتعد الواقع عن السطح المبتذل ويتوغل في الأعماق. وتصوروا! ساعتان متواصلتان جلس فيهما الجمهور الذي ملأ المسرح كله بمقاعده التسعمائة, وفيه الرجال والنساء, الشيوخ والشباب, النخبة والعامة, دون أن يعلو صوت أو تشذ حركة تشوش العرض أو تسترعي النظر أو تقطع الاستغراق, كأن الجمهور غير موجود, وكأن الموجود الوحيد هو راسين. عرض رائع وصورة من نشاط مسرحي متنوع متأصل متجدد متغلغل في حياة الفرنسيين مؤثر فيها ومتأثر بها. هل نقارن بينه وبين نشاطنا المسرحي الراهن؟ لا, فالمقارنة ربما كانت ظالمة. وإنما نتذكر به ما كان لدينا فنتحسر!