(1) كنت من بين الحاضرين في نيروبي ضمن مجموعة استشارية عند استئناف مفاوضات السلام السودانية برعاية منظمة الإيغاد في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1997 بعد انقطاع دام ثلاث سنوات، حين جاءت أنباء بأن مبعوثاً أمريكياً حضر إلي نيروبي للالتقاء بالمتفاوضين والوسطاء. وقد ثارت تكهنات كثيرة، معظمها تجنح إلي التفاؤل حين طلب المسؤول، وهو مساعد وزير الخارجية الالتقاء بالسيد علي عثمان محمد طه وزير الخارجية ورئيس وفد المفاوضات الحكومي.
(2) كانت المفاوضات قد بدأت بداية متعثرة في ظل انعدام للثقة بين الطرفين. ولأن الكل كان يتوقع أن تنتهي الجولة بالفشل، كان علي كل فريق اختيار النقطة التي تنهار عندها المفاوضات بحيث يكون موقفه هو الأسلم. وبالنسبة لوفد الجيش الشعبي لتحرير السودان فإن النقطة الحمراء كانت إثارة موضوع الاتفاق الذي عقدته الحكومة في العام السابق مع الفصيل المنشق عن الجيش الشعبي. ولم يطل الأمر بالفريقين حتي يصلا هذه النقطة، حيث أن علي عثمان استغرق معظم وقت الجلسة الافتتاحية في شرح اتفاقية الحكومة مع الفصيل المنشق. وعليه اتخذ وفد الجيش الشعبي قراره بالانسحاب من المفاوضات.
(3) في ظل هذا التهديد قمت مع الصديقين بونا ملوال وفرانسيس دينج بعقد سلسلة اجتماعات، بدأت بلقاء مع علي عثمان الذي أقنع المجموعة بعد نقاش مطول بجدية الحكومة في المفاوضات، ثم انتقلنا بعد ذلك إلي لقاء آخر مع رئيس وفد الجيش الشعبي سلفا كير الذي اقتنع وزملاؤه بعد طول جدل بسحب قرار الحركة بالانسحاب.
(4) من هذا المنطلق كان الفهم لمغزي حضور المبعوث الأمريكي هو أنه جاء للدفع في نفس الاتجاه، خاصة وأن الرئيس بيل كلنتون كان قد قام خلال الجولات السابقة عام 1994 بتعيين مبعوثة خاصة للمفاوضات. وبالفعل فإن المسؤول حث في لقائه مع علي عثمان الطرفين علي التفاوض بجدية، قبل أن يفجر قنبلته بإعلان عقوبات اقتصادية واسعة علي السودان. كان القرار صدمة للجميع، ولكن الإدارة الأمريكية فسرته بأنه محاولة للضغط علي الحكومة السودانية المتهمة بالتعنت حتي تظهر بعض المرونة في مواقفها.
(5) قد تكون الإدارة الأمريكية معذورة في اعتقادها بأن الحكومة السودانية تستجيب للضغوط، خاصة بعد أن بدا أنها قبلت العودة للمفاوضات في عام 1997 والقبول بإعلان المبادئ الذي رفضته عام 1994 بعد أن تعاونت ثلاث دول مجاورة مع المعارضة المسلحة في عملية غزو للبلاد من ثلاث جبهات في محاولة للإطاحة بالحكومة. ولكن الواقع كان أكثر تعقيداً، لأن استئناف الحكومة للمفاوضات كان من جهة مناورة حتي لا تدخل في صراع مكشوف مع الإيغاد والمجتمع الدولي، ومن جهة أخري استجابة لنصائح شركائها الجدد من المنشقين عن الجيش الشعبي. ولكن هذا لم يمنع أن التصرف فهم علي أنه استجابة مباشرة للضغوط، ولم يكن الوحيد بين تصرفات حكومية متكررة الذي يحتمل هذا التفسير.
(6) العقوبات التي أعلنها الرئيس جورج بوش الأسبوع الماضي ليست إذن جديدة لا في طبيعتها ولا في مبرراتها. ولكنها تكتسب اليوم أبعاداً جديدة، أولاً لأنها تستهدف لأول مرة مؤسسات بعينها ذات قيمة سياسية للحكومة، وثانياً لأنها تأتي استجابة لضغوط مكثفة وواسعة من القوي السياسية ومنظمات المجتمع المدني داخل وخارج الولاياتالمتحدة، وهي ضغوط متصاعدة لن تتوقف عند هذه النقطة. طوفان المشاعر الذي ولدته أزمة دارفور عالمياً ما يزال يتفاعل ويتصاعد، وسيفرض علي كثير من الحكومات الغربية اتخاذ خطوات ما ضد الحكومة السودانية.
(7) كما هو الحال مع الإدارة الأمريكية، فإن هذه الخطوات قد تكون ذات طبيعة رمزية. وكما هو الحال مع مطلب استقبال قوات أممية، فإن الحلول المقترحة قد تعقد المسألة بدلاً من أن تحلها. ولكن مع تصاعد المشاعر والضغوط، فإن هدف معاقبة الحكومة سوف يغلب علي أي اعتبار عقلاني، وبدون النظر إلي العواقب غير المباشرة، مع تسريع انفصال الجنوب أو انحدار البلاد نحو الفوضي.
(8) يبقي أن مسؤولية معالجة الوضع والخروج من هذه الدوامة تقع علي الحكومة أولاً، وعلي القوي السياسية الفاعلة ثانياً. فإذا تقاعست الحكومة عن أداء واجبها في التصدي للأزمة التي هي لب الإشكال، وظلت تهيم في عوالم من الأوهام بأن الأزمة ستحل نفسها بنفسها، فإن القوي السياسية الأخري لا يجب أن تقف مكتوفة الأيدي وهي تري البلاد تنحدر نحو الهاوية، بل يجب أن تضطلع بمسؤولياتها. وأولي القوي السياسية بالتحرك لتلافي الخلل هي القواعد العريضة للحركة الإسلامية التي تعاني التهميش حالياً ولكنها ستكون أول من يدفع ثمن التخبط والانهيار.