في واحد من آخر حواراته الصحفية ذهب رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت إلى أن الدول العربية المعتدلة قد اكتشفت أن عدوها الحقيقي في المنطقة ليس الدولة العبرية، وإنما إيران والإسلام الأصولي، وأن هذه النظرة الجديدة (المغايرة تماماً للنظرة القديمة) ستفتح أفقاً واسعاً للسلام في المنطقة.
معلوم أن تصنيف الدول العربية المعتدلة كان من ابتداع وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، وكان سابقاً على تسميتها الأخرى (الرباعية العربية) التي تضم مصر والأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
يرى أولمرت أن الموقف الجديد قد تبلور بسبب حرب لبنان الأخيرة، الأمر الذي لا يبدو مقنعاً إلى حد كبير، وإن بدا أنه صحيح من حيث التوقيت، حيث ساهمت عملية حزب الله بأسر الجنديين في بلورة موقف سعودي غير مسبوق من الحزب ومما يجري في لبنان، فيما دفع موقفها من إيران نحو مزيد من الوضوح.
كيف يمكن للمراقب أن يقرأ معادلة أولمرت الجديدة، وهل ستساهم بالفعل في فتح أفق للسلام، وأي سلام هذا المقصود، أما الأهم فهو كيف يمكن للعلاقة بين الأنظمة العربية المعتدلة وبين إيران والإسلام الأصولي أن تتطور خلال المرحلة المقبلة؟
لا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا أن التوصيف الذي قدمه أولمرت لتفكير دول ما يسمى محور الاعتدال يبدو صحيحاً إلى حد كبير، وهو ما ينطبق في بعض فصوله على جميع الدول العربية (من زاوية علاقتها مع الإسلام الأصولي)، ذلك أن التحدي الأكبر بحسب ما تراه تلك الدول هو المشروع الإيراني، أكان بطبعته القومية أم بطبعته المذهبية التي لا تتوانى عن توظيف الأقليات الشيعية في العالم العربي، أما تحدي الدولة العبرية فقديم ويمكن التعامل معه ضمن سياسة المراوحة القائمة منذ عقود.
الإسلام الأصولي هو بدوره تحد أساسي لجميع الدول العربية، أكان معتدلاً يذهب في اتجاه صناديق الاقتراع، أم متطرفاً يحمل السلاح ويطلق الرصاص ويفجر المفخخات والأحزمة الناسفة، لأنه في كلتا الحالتين يسعى إلى تغيير الأوضاع القائمة، أكان تغييرا من الجذور، أو من خلال تحجيم صلاحيات الفئات الحاكمة عبر المراقبة والمعارضة الفاعلة.
معلوم أن الأنظمة العربية والعالم ثالثية عموماً تصاب بحساسية مفرطة إزاء معارضة الداخل أكبر بكثير من ضغوط الخارج ومطالبه، وهي جاهزة على الدوام للدفع للخارج مقابل منحها حق التصرف مع معارضة الداخل أو مساعدتها في ضربها وتحجيمها.
الآن لا يرى الأمريكان بأساً في منح الأنظمة العربية فرصة التعامل مع معارضتها الأصولية بالطريقة التي تراها مناسبة، وبالطبع مقابل الدفع من جيب القضية الفلسطينية والعراقية والتعاون في ملف إيران، إلى جانب قضايا تخص السياسات الداخلية الأخرى، لاسيما الاقتصادية منها.
هكذا يدرك أولمرت أن الأنظمة العربية المعتدلة تسعى إلى تشجيع الولاياتالمتحدة على ضرب إيران عسكرياً، بوصفه المسار الوحيد الممكن لتحجيمها وضرب مشروعها. وهي، أي الأنظمة، جاهزة لدفع الاستحقاقات المطلوبة لتحقيق الهدف، أكان بالسكوت على السياسات الأمريكية في العراق، أم ببث أوهام السلام في المنطقة وتهدئة الملف الفلسطيني، فضلاً عن تعزيز الحشد المذهبي ضد إيران من أجل عزلها عن الشارع العربي والإسلامي.
نعلم بالطبع أن ما يحرك السياسة الخارجية الأمريكية في هذه المنطقة على وجه التحديد هي المصالح الإسرائيلية، والإسرائيليون اليوم يريدون ضرب المشروع النووي الإيراني، كما يريدون التهدئة الفلسطينية من أجل لملمة وضعهم الداخلي المتداعي بعد حرب لبنان. أما أولمرت نفسه فيسعى إلى رفع شعبيته على أمل أن يمنحه ذلك، إلى جانب تحسين الوضع الأمريكي في العراق (وهو مصلحة إسرائيلية أيضاً) وضرب إيران، فرصة المضي في البرنامج الذي أورثه إياه سلفه شارون، أعني برنامج الحل الانتقالي بعيد المدى الذي حمل عنوان الدولة المؤقتة على قطاع غزة وما يتركه الجدار من الضفة الغربية.
هنا سنجد أن ما يطلبه أولمرت هو أشبه بالمعجزة، أو لعله الحلم الذي يشبه إلى حد كبير حلم ما بعد احتلال العراق الذي صاغه المحافظون الجدد على إيقاع المصالح الإسرائيلية، فقد كان الأصل بعد فشل مشروع أوسلو هو احتلال العراق الذي سيؤدي بدوره إلى إعادة تشكيل المنطقة بعد ضرب سوريا وإيران وتركيع الوضع العربي برمته، الأمر الذي سيرتب الأجواء لتسوية على المقاس الإسرائيلي، وصولاً إلى تنصيب الدولة العبرية سيدة على المنطقة برمتها (هل تذكرون تنظير شيمون بيريس للشرق الأوسط الجديد الذي تتسيّده الدولة العبرية مطلع التسعينيات).
هل يمكن للحلم الجديد للدولة العبرية، وهذه المرة بزعامة أولمرت أن يتحقق؟ إن التوصيف الصحيح لمعادلة الصراع الآنية، كما يقدمه أولمرت لا يعني أن كل شيء سيمضي على ما يرام وصولاً إلى حلم الدولة المؤقتة التي ستغدو في حال نزاع حدودي مع جارتها (تأبيد النزاع). وكما تحول كلا الحلمين السابقين (حلم بيريس وحلم صهاينة الولاياتالمتحدة الذين صاغوا برنامج الحرب على العراق) إلى هباء منثور بفعل المقاومة الشعبية البطولية، سيلقى الحلم الجديد ذات المصير، والسبب هو أن مقاومة العراق لن تتوقف، ومعها مقاومة أفغانستان، أما ضرب إيران في حال تم، فلن يؤدي إلى تركيعها، حتى لو أدى إلى تحجيم طموحاتها الإقليمية، إذ ستبادر إلى ردود مكلفة ضد مصالح الولاياتالمتحدة، لاسيما في العراق، بينما ستؤدي هذه التطورات جميعاً إلى دفع الفلسطينيين إلى ترجمة رفضهم للدولة المؤقتة مرحلة مقاومة جديدة تستعيد انتفاضة الأقصى.
من هنا نقول إن صهاينة الولاياتالمتحدة، ومعهم صهاينة الدولة العبرية لا يفهمون هذه المنطقة وشعوبها وتحولاتها الدينية والسياسية، ولو فهمومها لما أوغلوا في مغامراتهم البائسة، فهنا ثمة أمة لا يزيدها الاستهداف إلا إرادة ومقاومة، لاسيما حين يأتي في ظل صحوة دينية عارمة كالتي تعيشها هذه الأيام.