كان الاستفتاء علي التعديلات الدستورية في مصر، هو نجم القنوات الفضائية العربية يوم السادس والعشرين من آذار (مارس) الماضي... ليس بسبب إقبال الأشقاء المصريين عليها، ولا بسبب مقاطعة المعارضة لها، والتي جعلت نسبة الاستفتاء ضئيلة كما أشارت إلي ذلك بعض المنظمات الحقوقية، بل بسبب طبيعة وتوجه المواد والتعديلات التي طالت الدستور المصري! نعم... لقد شعر المشاهد العربي الذي كان يري في مصر (الشقيقة الكبري) التي يمكن أن تكون نموذجا يحتذي في انتزاع الحرية وإقرار الديمقراطية في يوم من الأيام.... والتي تشهد صحافتها بالسجال الحيوي الحار والشجاع لكثير من الأقلام الحرة التي لم تستطع السلطة أن تشتريها، والتي أشعلت منذ سنوات شرارة حركات الاحتجاج الشعبي عندما أطلق الناشطون المصريون حركة (كفاية)، أقول شعر المتفرج العربي، بكثير من خيبة الأمل، عندما رأي أن إحدي أهم التعديلات الدستورية (المادة 88) تعني تشريع تزوير الانتخابات من خلال إلغاء الإشراف القضائي علي الانتخابات... بعد أن قال القضاة كلمتهم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة للرئيس مبارك.. كما جاءت المادة (179) لتكرس مصادرة الحريات وكم الأفواه تحت شعار أو سُعار مكافحة الإرهاب... وسوي ذلك من التفصيلات والتعديلات، التي يخجل المرء أن يقرها واحد من أعرق البرلمانات العربية، وهو مجلس الشعب المصري، الذي كانت أقسي صفعة توجه لضمائر نوابه الذين صوتوا لصالح التعديلات، حين وقف مواطن مصري شعبي بسيط، لا ينتمي للمعارضة ولا لأي حزب، ليقول في إحدي النشرات الإخبارية: (حسبي الله ونعم الوكيل في الذين أقروا هذه التعديلات في مجلس الشعب!!). نعم... لقد كانت التعديلات الدستورية المحزنة في مصر، صفعة لما تبقي من الشعور القومي العربي الحر... وتكريسا للحال التي أخرجت مصر بكل إمكاناتها وتاريخها وتراثها، من دائرة الاهتمام الشعبي العربي، باعتبارها مصدر إلهام وأمل لزمن حرية قادم، أو لحالة تفاؤل كامنة.. في حين شكلت دولة عربية فقيرة ومحدودة الإمكانات، وذات تركيبة قبلية معروفة مثل (موريتانيا) في هذا اليوم التلفزيوني الطويل ذاته، نموذجا ملهما ومنعشا حقا للأمل العربي والحلم العربي، حين أعلنت النتائج النهائية لانتخابات رئاسية ديمقراطية، تأسست علي وفاء العقيد محمد ولد الفال قائد الانقلاب العسكري علي حكم الرئيس المخلوع معاوية ولد الطايع، بعهده بتنظيم انتخابات ديمقراطية لم يرشح فيها نفسه، وانتقل فيها الحكم بسلاسة من العسكر إلي السياسيين المدنيين، وبمراقبة مراقبين غربيين أقروا بنزاهة تلك الانتخابات... فكان بذلك ثاني شخصية عسكرية عربية تستحق أن تبقي في ذاكرة الحرية والديمقراطية بعد الفريق عبد الرحمن سوار الذهب الذي قاد الانقلاب علي جعفر النميري في السودان ثم تنازل عن الحكم طواعية بعد فترة انتقالية أيضا. شخصيا... وبالعودة إلي الذاكرة السورية، فالاستفتاء علي التعديلات الدستورية في مصر، أعاد إلي الأذهان الاستفتاء علي دستور 1973 في سورية، الذي أقر الكثير من التعديلات التي خالفت روح التشريع في الدستور السوري الذي كان قائما علي التعددية، والذي أقر أي تعديل 1973 في العديد من مواده استمرار حالة قانون الطوارئ الذي أعلنه انقلاب حزب البعث عام 1963، وعطل الحريات العامة، وأفقد السلطة القضائية استقلالها، وجعل منها إحدي أدوات السلطة التنفيذية، حين جعل من رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس القضاء الأعلي وهو الذي يعين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، كما جعل رئيس مجلس الوزارة والوزراء مسؤولين أمام الرئيس وليس أمام مجلس الشعب... ناهيك عن مواد كثيرة أخري لا مجال للتفصيل فيها في هذا المقام، إلا أن أشهرها المادة الثامنة التي نصت أن (حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع) وجعلت من باقي السوريين غير المنتمين للحزب المذكور مواطنين من الدرجة الثانية، لا يحق لهم سوي أن ينعموا بالقيادة التاريخية لحزب البعث وتاريخه النضالي... شاء من شاء... وأبي من أبي. واليوم... لا يجد المتفرج العربي سوي أن يطلق الكثير من مشاعر العزاء علي ما حاق بالدستور المصري أخيرا، وعلي دساتير بلدانه التي يفترض أنها القانون الأعلي لكل بلد، وأنها تبني علي أساس حماية مصلحة الوطن والمواطن... لتغدو عبر تاريخ قديم يتجدد من التعديلات، والاستفتاءات الشعبية الصورية علي تلك التعديلات، دساتير غايتها تكريس سلطة من يحكمون بالمزيد من القمع والمصادرة، والمزيد من حد الحريات، وإلغاء الرقابة علي أداء السلطات الحاكمة... وكله بالقانون وحكم الدستور. السؤال الأخير الذي كان يتبادر إلي ذهني، وأنا أتابع الحلقة الأخيرة من مسلسل الاستفتاء علي التعديلات الدستورية في مصر... والتي كان ُيكتب السيناريو المرتجل لها، أو المتفق عليه بشأنها، علي الهواء مباشرة ، وحسب هوي كل محطة علي حدة: لماذا تكون نتيجة كل الاستفتاءات الشعبية في الوطن العربي هي: نعم دائما؟! ولماذا لا نعثر في تاريخنا اليوم علي استفتاء شعبي واحد قال فيه المواطن العربي لا لأي قضية تم الاستفتاء عليها؟! وهل أصبح الشعب العربي من المحيط إلي الخليج هو الشعب الذي يعرف بالفطرة، أن الإجابة الصحيحة علي سؤال أي استفتاء: (نعم... أوافق)؟!!