بقلم د/ أحمد دراج [email protected] " إذا لم يحدث تحول جوهري في الضمير السياسي الأمريكي، فلسوف يترتب على فقدان الذاكرة الناجم عن النزعة الأحادية في إدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة عواقب وخيمة وبعيدة المدى، كما سيخلف ذلك فراغاً ضخماً في النظام العالمي" يوشكا فيشر، وزير خارجية ألمانيا الأسبق. بإلقاء الضوء على التحركات العسكرية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والحركة المحمومة لدبلوماسية العصا الغليظة في منظمات الأممالمتحدة وتفعيل ماكينات الضغط الأوربي والالتفاف السياسي ضد إيران تتسارع خطى الخريف الأمريكي القادم على عجل. وبالنظر إلى أبعاد الأنشطة الاستخبارية والأمنية والإعلامية المكثف مؤخرا والتنسيق مع الدول والأنظمة التابعة لها في المنطقة العربية وحشد الجوار الإسلامي في صورة تقطر بالطائفية، كل هذه الجهود الأمريكية والأوربية الحثيثة تشي باحتمالين : إما دفع المنطقة أكثر نحو عنف أوسع وأشمل، وإما وصول الأزمة إلى مفرق خانق يدفع الإدارة الأمريكية للانسحاب، فما المتوقع ؟ ولاشك أن وضع كلام وزير الخارجية الألماني السابق في سياق الأحداث يفهم منه الإحساس بوجود نوع من إصرار الإدارة الأمريكية على زيادة قوة الدفع نحو تفجير الوضع الإقليمي، لهذا جاء تحذيره للإدارة المحافظة من استمرار اللعب الأحادي على دوامة التناقضات في الشرق الأوسط، ولا أظن أن حديثه منبت الصلة عما يدور في كواليس الاتحاد الأوربي، فهل ستنزلق أقدام القطب الأمريكي المتغطرس إلى بؤرة الثقب الأسود والوقوع في حفرة من صنع أقطابه الذين يتساقطون كأوراق الخريف ؟ أم تفضل الانسحاب بصورة تحفظ ما بقي من ماء الوجه " المهبب " ؟ وما العواقب التي تترتب علي أي خيار منها ؟. والمتوقع حسب رأي فيشر حدوث فراغ سياسي ضخم وفوضوي في النظام العالمي الجديد، فإن لم يتدارك الضمير السياسي الأمريكي يد التغيير ويضع خطة زمنية للانسحاب من العراق، فستظل الإدارة تنتقل بالاستراتيجية الأمريكية من دوامة إلى دوامة أكبر وأشرس ومن خطة جديدة إلى أخرى أحدث وأخطر في سلسلة لا متناهية، نتيجة لحالة فقدان التوازن وانعدام والمصداقية وتبلد حاسة استشراف المستقبل وسط شلالات الدم والفوضى، وستتحول كل استراتيجية فاشلة لإدارة بوش إلى استراتيجية ما قبل الأخيرة حتى أوان رحيلها للحفاظ على الخط الوهمي الفاصل بين هزيمة وقعت بالفعل وأمل لم يزل يراود المحافظين الجدد في حفل لتدشين الإمبراطورية الرومانية الجديدة على رائحة شواء الدم واللحم العربي والإسلامي في العالم الإسلامي والدول العربية وإيران، فأي تلك التوقعات ينسجم مع المنطق ؟ إن الواقع ورأي بعض كبار العسكريين الأمريكيين يدركون أن حرب العراق لا يمكن كسبها([1])، وبناء عليه فإن الاستراتيجية الأمريكيةالجديدة " تجاه العراق هي استراتيجية ليست قاصرة على العراق وحده، بل هي استراتيجية متعددة الأوجه في فلسطين والعراق وإيران وغيرها، وهي من الناحية الميدانية-كما يرى المحللون العسكريون- استراتيجية فاشلة ولن تختلف عن سابقاتها إلا في إضافة معادل إقليمي جديد يسمى بحلف المعتدلين عله يأتي بالحل السحري لصالح استمرار وإحياء مشروع المحافظين الجدد. ويرشح عن مصادر بحثية مطلعة أنه في حال نجاح التهدئة على الساحتين الفلسطينية والعراقية ستقطف أمريكا وحدها ثمار تأجيج الصراع الطائفي السني الشيعي إضافة إلى تفكيك الظهير الداعم لخط المقاومة الإسلامية، وبالتوازي ستتفرغ الإدارة الأمريكية الصهيونية المشتركة لتنفيذ الإجراءات العملية لتوزيع أدوار الكانتونات العربية العازلة لحماية القوة الإقليمية الكبرى وأقصد بها إسرائيل، فليس في مخيلة الساسة المحافظين استمرار ضمان أمن الكيان الصهيوني ضمن شريط جغرافي ضيق يحيط به وسط جفرافي وديموجرافي عربي إسلامي متصل وكثيف، ومن ثم فإن تفتيت الوحدات الجغرافية والسكانية العربية المحيطة بالخصر الصهيوني وأطرافه لا مفر منه لنجاح بقاء أمريكا أطول مدة في المنطقة، والعراق في الواقع لم تك سوى البداية. وفي ضوء هذه التصورات سيتنازع مستقبل الشعبين العراقي والفلسطيني أجندات دولية وإقليمية وطائفية متباينة غالبا ومتصادمة أحيانا ومتقاطعة نادرا وهي كالتالي: 1. أجندة الاحتلال الأمريكي وإسرائيل. حيث تطمح المطرقة الأمريكية الصهيونية إلى فرض أجندتها بتسوية ملفين كبيرين هما : ملف جيو سياسي يفيد في دمج إسرائيل في المنطقة واستكمال منظومة بناء القطب الصهيوني الأقوى في المنطقة، ومنح إسرائيل الفرصة الكاملة لإعادة هيكلة منظومتها العسكرية ( بعد الفشل في لبنان ) استعدادا لمرحلة تصفية القضية الفلسطينية فيما بعد، وبالتوازي مع خطوة تفعيل الفتنة الطائفية يتم تسكين الملف الفلسطيني مؤقتا ببعض المهدئات ( وقد يكون لنظام الحكم السوري نصيب في تلك المهدئات ) ريثما يتم تسوية القضايا الساخنة في العراق الملتهب، ويبدأ الملف الثاني إما باحتواء القطب الإيراني الجامح إقليميا عبر عمليات متوازية تجمع بين التهديد العسكري والإغراء والحصار الاقتصادي، وقد يقفز استخدام القوة للصدارة قبل بداية الانتخابات الرئاسية الأمريكية لتحقيق بعض الأهداف السريعة حيث تفرض بموجبها سياسة الأمر الواقع على الشعب الأمريكي، وقد تختلف الأولويات حسب المتغيرات الإقليمية والداخلية لترتيب هذه العناصر: أ- تصفية المشروع الإيراني بالفتنة أو الوسائل العسكرية بأيد وأموال وأرواح عربية وإسلامية، وهو ما تضمنه تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية مؤخرا من أن حكومتها تعتزم العمل مع دول معتدلة في الشرق الأوسط " لصد الطموح الإيراني"، ويدعمه ما رشح عن التكتل السباعي لوزراء خارجية الدول الإسلامية في كراتشي . ب- عقد صفقة مع إيران تمنح الاحتلال الأمريكي صك بركة الجوار في العراق، وضمان امتيازات تمرير أطول خط أنابيب في العالم 1090 ميل عبر أراضيها ينقل نفط بحر قزوين من باكو ( أذربيجان) إلى سيحان ( تركيا )، مقابل السماح المؤقت بتخصيب اليورانيوم تحت الرقابة الأممية ( الأمريكية فعليا )، ومنح دور إقليمي أكبر لإيران بمشاركة كل من إسرائيل وتركيا. ت-تشتمل الصفقة تحييد المقاومة اللبنانية، وفتح قنوات اتصال بين بقية الدول العربية وإسرائيل بما في ذلك قوى 14 آذار اللبنانية وإسرائيل لبناء جدار أمني دائم يحمي الشمال الإسرائيلي. ث-توظيف احتلال العراق استراتيجيا واقتصاديا للتحكم في مصادر النفط والرقابة على معدلات النمو الاقتصادي في دول آسيا وفي مقدمتها كل من الصين والهند، لضمان الانفراد بالسيطرة على مقدرات العالم لقرن آخر أو أكثر. وسيضمن التحكم في أوراق هذه الملفات حصار فكرة المقاومة ذات الجذور الإسلامية الجهادية وجيوبها التي مازالت تشكل هاجسا أمنيا لإدارة المحافظين الجدد والنظم الرديفة لها في العالمين العربي والإسلامي. 2. أجندة الشيعة الموالون لإيران. تتشابك خيوط تلك الأجندة التي تشكل مطرقة أحيانا وسندانا أحيانا أخرى، حيث تعد مطرقة لتحقيق مصالح طائفية لشيعة العراق ضد سنتها وانتهاز الفرصة التاريخية للانتقام من الحكم السني الممتد للعراق طيلة عقود مضت، وتتقاطع معها مصلحة إيران في وجود نظام موال لها على حدودها الجنوبية الغربية لئلا تتكرر تجربة الحرب العراقية الإيرانية مرة أخرى، كما تصب هذه الأجندة في صالح الأطماع الإيرانية في لعب دور إقليمي مواتي يتناسب مع قوتها ووضع شروط جديدة لموازين القوى في ظل غياب كامل لمشروع عربي. 1. أجندات الأنظمة العربية. يمكن تحديد أكثر من أجندة وتوجه للأنظمة العربية، فدول الخليج تتبنى مصالحها الذاتية في استقرار الأنظمة الملكية والأميرية واقتصادياتها، وإن كانت السعودية أكثر حرصا على لعب الدور السياسي الأول في المنطقة مقتنصة الفراغ السياسي الذي تركته السياسة المصرية طواعية وقسرا، بينما تتبني الأردن الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية حرفيا لأنها دولة وظيفية وجدت في الأصل لتبقى جدارا شرقيا عازلا يحمي المشروع الاستعماري، أما مصر فيبدو أنها في حالة انعدام وزن أو مرحلة التيه، فالنظام الحاكم فيها يمارس سياسة احتواء متضاربة توجهها فكرة مركزية هي استمرار تجميد السلطة وتوريثها بعقد صفقات متبادلة مع الإدارة الأمريكية أحيانا وعبر الحكومة الصهيونية أحيانا أخرى، وقد لا يمنع هذا من المزايدة القومية الشكلية على قوى التغيير الوطنية من جهة أخري عند الحاجة. إذن ، فالتحالف الاستراتيجي بين الجناح الشيعي الإيراني وأمريكا يصب في صالح الاحتلال بإشعال الحرب الطائفية والقتل على الهوية، ويحد من اتساع جبهة مقاومة الاحتلال ، كما يصب من ناحية أخري في صالح إيران لتوريط الثور الأمريكي أكثر فأكثر في حلبة ووحل العراق المدمم واستنزاف طاقاته ، ومن ثم فإن إضافة أي جندي أمريكي جديد يزيد الموقف الإيراني صلابة بالقدر الذي يضعف الموقف الأمريكي، لأن هذه القوة ستكون عبارة عن رهائن تستخدم وقت الضرورة وما أقربها.
------------------------------------------------------------------------ [1] جورج مكفرن ووليم بولك، الخروج من العراق 10