إذا كان للمسلمين قبلة يتجهون إليها في صلواتهم كل يوم خمس مرات وهي “الكعبة”، فإن للمسلمين قبلة أخرى يتجهون إليها في كل وقت وهي الأزهر، قالها الزعيم الهندي “أبو الكلام آزاد” في حديثه عن “الأزهر” حينما رآه رمزًا للحريات والمقاومة الفكرية والدينية على حد سواء. فقد كان لشيوخ “الأزهر” عبر تاريخه الطويل السبق في تحدي الحكام والمسئولين، للدفاع عن حقوق البلاد والعباد، فكان المنبر هو الميكروفون الذي ينادي جهرًا بالخروج على الظالم. شيوخ السلطان: غير أن دور “الأزهر” بدأ في التراجع وبشدة في السنوات الأخيرة، ليصبح شيوخه سوطًا في يد الحكام ضد المواطنين وتتزاوج السلطة مع الدين. في السنوات الأخيرة الماضية كانت الخطبة الموحدة أول قطرة كشفت عن وجود خلاف بين السلطة الدينية والسياسية في مصر، لكن هذا الخلاف ظهر جليا أثناء عتاب السيسي لشيخ الأزهر "أحمد الطيب" أثناء احتفالات عيد الشرطة. هذا العتاب كشف ما كان مستترا من صراع بين النظام السياسي الحاكم ومؤسسة الأزهر، وبات واضحاً احتدام الموقف بين الرئاسة وبعض الهيئات والمؤسسات كوزارة “الأوقاف” وبعض علماء “الأزهر” المقربين من السلطة، في جانب، وبين المشيخة التي يبدو أنها تحاول التمسك باستقلالها في الجانب الآخر وذلك بعض مقولة "تعبتني يافضيلة الإمام" .. بهذه الكلمات، توجه قائد الانقلاب العسكري “عبدالفتاح السيسي”، إبان حديث له عن انتشار ظاهرة الطلاق في مصر وهى كانت في الحقيقة القضية الثانية لكن القضية التي أشعلت الموقف. &; السيسي وشيخ الأزهر: عتاب “شيخ الأزهر” الدكتور “أحمد الطيب”، كان محاولة لاقتناص فتوى منه بعدم وقوع “الطلاق الشفوي” وضرورة ألا يتم سوى بتوثيقه لدى مأذون شرعي. وما هي إلا أيام حتى أصدرت “هيئة كبار علماء الأزهر”، برئاسة الطيب، بيانا أقرت فيه وقوع الطلاق الشفوي المستوفي أركانه وشروطه، وأكدت أن “هذا ما استقر عليه المسلمون منذ عهد النبي محمد، صلى الله عليه وسلم”، فيما حذرت المسلمين من الاستهانة بأمر الطلاق، ومن التسرع في هدم الأسرة وتشريد الأولاد. ومن المعروف أن “الأزهر”، مثل تاريخياً، دعامة أساسية للوطنية المصرية، وهو ما يتضح عبر الحركة الوطنية منذ ثورتي القاهرة الأولى والثانية في عهد الحملة الفرنسية أواخر القرن التاسع عشر، مرورا بدور الأزهر مع الثورة العرابية. حيث كان لعلماء الأزهر دور كبير في مواجهة “الخديوي توفيق”، وكان منهم قيادات للثورة نفسها أمثال “جمال الدين الأفغاني”، و”محمد عبده”، و”عبد الله النديم”، كما كان لعلماء الأزهر أيضاً دورهم البارز في ثورة 1919 وإعلاء قيمة المواطنة، وإعلان وحدة الهلال مع الصليب. محاولة الوقوف على ما يشبه الحياد: أحداث تلو الأخرى تلت موقف “الطيب” يوم إذاعه بيان الانقلاب على الدكتور "محمد مرسي"، لم يقف الطيب فيها مع السلطة بالشكل الذي يرضيها، ففي يوم 8 من يوليو 2013، بعد أحداث الحرس الجمهوري، أصدر الرجل بيانًا وصف فيه الضحايا ب”الشهداء”، وطالب بفتح تحقيق عاجل فيما حدث، وتشكيل لجنة مصالحة وطنية خلال يومين، وإطلاق سراح المحتجزين والمعتقلين السلميين، كما شدد على أهمية حماية المتظاهرين السلميين وتأمينهم وعدم ملاحقة أي منه. خلال الكلمة التي أذاعها التليفزيون المصري قال الطيب: “أعلن للكافّة في هذا الجو، أنني قد أجد نفسي مضطرًا أن أعتكف في بيتي، حتى يتحمل الجميع مسؤوليته تجاه وقف نزيف الدم، منعًا من جر البلاد لحرب أهلية طالما حذر الأزهر، وطالما حذرنا من الوقوع فيها. &; من هذا القبيل يبدو أن شيخ الأزهر لم يكن موافقًا تمامًا على سلوك قادة الجيش والشرطة، وكانت له فلسفة شبه خاصة في الأحداث التي مرت بها البلاد آنذاك، إذ حاول الطيب التبرؤ من استخدام العنف ضد المتظاهرين، فيما ظهر موقفه الأصلي في صف المسيطرين الجدد على البلاد بعد تأييد الانقلاب على الدكتور “محمد مرسي” وفقًا لرؤية “حقنًا للدماء ولأنه أخف الضررين” التي أعلنها الطيب في كلمته. واستكمالًا لهذه الفلسفة رأى الطيب أنه لما كان سيلان الدماء أمرًا واقًعا بحسب تعبيراته، فضل أن ينأى بنفسه وسافر إلى الأقصر، حيث بيته وعائلته، وأقام هناك لبعض الوقت. الأزهر الذي تأسس في القرن العاشر، وكان منذ ذلك الحين عنصر جذب لطلاب ومفكري شريعة إسلاميين من كل العالم، تصرف مثل مؤسسة مستقلة حتى العام 1961. وفي حينه تحول بواسطة قانون سنه جمال عبد الناصر إلى جزء من الجهاز الحكومي. في المقابل حصلت المؤسسة على صلاحيات فرض الرقابة الدينية على كل فروع الثقافة، وكذلك صلاحية لإدارة جهاز تعليمي مستقل، يشمل إنشاء كليات للهندسة والطب والتجارة إضافة إلى الكليات الدينية. الأزهر من عبدالناصر للسيسي: قال الكاتب الصحفي المتخصص في الشؤون الدينية "محمد عبد الشكور": أن الفاطميين بنوا الأزهر لنشر مذهب التشيع في مصر، ولكن بعد مجيء صلاح الدين بفترة تحول الأزهر لنشر المذهب السني، وتولى مشيخة الأزهر رجال أقوياء كانت السلاطين والملوك تعمل لهم ولمؤسسة الأزهر ألف حساب. “وأشار: هناك مواقف وقصصا حدثت من أئمة الأزهر وعلمائه تثبت هذا، بداية من موقف الشيخ” الإمام العز بن عبد السلام”، ووقوفه ضد “المماليك”، وفتواه بأنه لا يجوز جمع الأموال من الناس للجهاد ضد “التتار” إلا بعد أخذ أموال الأمراء من المماليك والتجار، مروراً بمواقف الشيخ “المراغي”، والشيخ “جاد الحق”، والشيخ الإمام “حسونة النواوي”، والشيخ تونسي الأصل “الخضر حسين” الذى وقف ضد الملك في أكثر من موقف. ويرى “عبد الشكور” أن أكبر انتكاسة تعرض لها الأزهر كانت بعد ثورة 1952، قائلا: “منذ أن تولى جمال عبد الناصر الحكم جعل الأزهر تحت وصاية الدولة، وقام بعمل قانون الأزهر، ورغم ما في القانون من مميزات تراها من الخارج، إلا أنه حمل في طياته الكثير من العيوب؛ أهمها تعيين شيخ الأزهر، وضم أوقاف الأزهر إلى وزارة الأوقاف، وأفرغ الأزهر من مضمونه ورسالته العالمية. وتابع عبد الشكور: جاء السادات ومبارك والسيسي، فكبلوا الأزهر ومشايخه وعلماءه، ووضعوا أيديهم على المؤسسة، وما حققه الأزهر من مكاسب في دستور 2012 تم محو معظمه في دستور 2014 بعد 30 يونيو 2013 وما تلاها، حيث أصبح الأزهر مؤسسة تابعة وخاضعة للدولة لا استقلال له ولا لعلمائه ولا لأئمته. واختتم حديثه بالقول: “بات الأزهر قاب قوسين أو أدنى من دخول كامل حظيرة النظام، ونرى ذلك ونتابعه في المعارك التي تتم بصورة ممنهجة كل فترة، وأخرى على شيخ الأزهر ومؤسسته من قبل إعلام النظام وبطانته، حيث يهاجمون الأزهر وعلماءه كل فترة، وينسبون للأزهر زورا وبهتانا ما ليس فيه” . “الأزهر” غير “الأزهر” ويقول الداعية الشيخ "شعبان عبد المجيد": إن الأزهر تاريخياً كان قلعة من قلاع الشيعة، حتى قامت الدولة الأيوبية، وصار الأزهر سنياً، ومن يومها يؤدى رسالته على النحو الذى يشرف كل مسلم. ويُضيف: أوقف المسلمون للأزهر أوقافاً ينفقون منها على شيوخه وطلابه، ولذا كان الأزهر وشيوخه في استقلالية تامة، يؤدون دورهم دون رغب أو رهب، حتى قام انقلاب 1952، وتمت مصادرة الأوقاف وتعيين وزير لها. “وأردف: م تعيين شيوخ الأزهر كموظفين في الدولة يتقاضون رواتب معينة، ودخل نظام التعليم الحديث على الجامعة، وتدخلت الإرادة السياسية للنظام العسكري منذ أيام عبد الناصر حتى الآن، ومنذ ذلك الحين ضعف دور الأزهر. ورأى عبد المجيد أن “الأزهر لم يعد الأزهر الذي يقود الجماهير في مقاومة المستعمر، ومواجهة ظلم الحكام الجائرين، ولم يعد الآن مؤسسة مستقلة؛ لأنه تابع للسلطة التنفيذية، واستطاعت الدولة أن توجد لها عناصر تؤيدها داخل المؤسسة الأزهرية جامعا وجامعة، وهؤلاء الذين شوهوا دور الأزهر وأضعفوه، وبالتالي ضعفت ثقة رجل الشارع بعلماء الأزهر.