الرئيس السيسي: تطوير الموانئ تتويج لجهود الجميع.. وكامل الوزير: الفضل لتوجيهاتك    خلال لقاء نظيره التشادي.. وزير الخارجية يدعو لتضافر الجهود دعما للشعب السوداني    منتخب الجماز الفني للناشئين والناشئات يشارك في بطولة العالم بالفلبين    يلا شوووت.. إنجلترا تبحث عن رقم تاريخي أمام ألبانيا في ختام التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2026    ارتياح في ليفربول بعد استبعاد صلاح من مباراة كاب فيردي    مصرع 3 تجار مخدرات وضبط آخرين في تبادل إطلاق النار مع الشرطة بأسيوط وسوهاج    عاجل- نقل الموسيقار عمر خيرت للعناية المركزة وإلغاء حفلاته    "القاهرة الإخبارية": اشتباكات مشتعلة بين الجيش السوداني والدعم السريع في بابنوسة    نتنياهو يواجه انتقادات عنيفة من اليمين المتطرف بعد بيان أمريكي يدعم إقامة دولة فلسطينية    محافظ أسوان يستقبل المشرف العام على المجلس القومي للأشخاص ذوى الإعاقة    جامعة أسيوط تفتتح فعاليات أسبوع الدعوة الإسلامية "مفاهيم حضارية"    الإحصاء: ارتفاع عدد المشتغلين ل32.5 مليون فرد خلال الربع الثالث من العام الحالي    نجل محمد صبري: والدي لم يكن يعاني من أي أمراض.. وطريقة لعبه تشبهه في كل شئ    الأهلي يستعد لتجديد عقد أحمد عابدين حال عدم تلقي عرض من فاماليكاو البرتغالي    نهاية الأزمة.. الأهلي يعلن تعيين حسام عاشور مديرًا لأكاديمية فرع التجمع الخامس    هيئة الرقابة المالية تعدل ضوابط مزاولة الشركات لنشاط تمويل المشروعات المتوسطة والصغيرة    ضبط سائق توك توك تعدى على سيدة بالسنبلاوين بعد انتشار فيديو الواقعة    حزب «حماة الوطن» ينظم لقاءً جماهيريا بالقليوبية دعما لمرشحه في انتخابات النواب    نظام اليوم الواحد (One Day Light)، للتخلص من الانتفاخ واستعادة النشاط    حلا شيحة : دينا الشربينى جدعة ونيتها طيبة ومش خرابة بيوت ولكل من خاض فى عرضها اتقوا الله    بتوجيهات شيخ الأزهر .. دخول قافلة «بيت الزكاة والصدقات» الإغاثية الثانية عشر إلى غزة    جهود صندوق مكافحة الإدمان.. تخريج 100 طالب من دبلوم خفض الطلب على المخدرات بجامعة القاهرة    الطقس: استمرار تأثير المنخفض الجوي وزخات متفرقة من الأمطار في فلسطين    عودة قوية للجولف في 2026.. مصر تستعد لاستضافة 4 بطولات جولف دولية    أصوات انفجارات لا تتوقف.. قصف مدفعي إسرائيلي على المناطق الشرقية لخان يونس بغزة    خالد النبوي: حسين فهمي أستاذ وصديق    وزير الثقافة ومحافظ الإسكندرية يفتتحان فرع أكاديمية الفنون بعد التطوير    دولة التلاوة.. مصر تُعيد تلاوتها من جديد    المدون الموسيقي أحمد الموجي فى قراءة لحفل المتحف الكبير: الاحتفالية رحلة موسيقية من الماضى إلى الحاضر بعين معاصرة    ترامب يواصل إفيهات للسخرية من منافسيه ويمنح تايلور جرين لقبا جديدا    الأزهر للفتوى: الالتزام بقوانين وقواعد المرور ضرورة دينية وإنسانية وأمانة    إيطاليا ضد النرويج.. هالاند يطارد المجد فى تصفيات كأس العالم    وزير الصحة يكشف مفاجأة عن متوسط أعمار المصريين    10 محظورات خلال الدعاية الانتخابية لمرشحي مجلس النواب 2025.. تعرف عليها    مواعيد وضوابط امتحانات شهر نوفمبر لطلاب صفوف النقل    جهاز مستقبل مصر يقود سوق القمح نحو الاكتفاء الذاتى عبر زيادة المساحات الزراعية    محافظ الجيزة يثمن إشادة التعليم العالي بالشعار الجديد للجيزة ويؤكد: يجسد الإرث الحضاري    تشمل إمدادات الغاز.. زيلينسكي يعلن عن اتفاقيات جديدة مع شركاء أوكرانيا    الجامعة العربية: قطاع التعليم في مقدمة القطاعات التي استهدفها الاحتلال    جامعة قناة السويس تُطلق مؤتمر الجودة العالمي تحت شعار «اتحضّر للأخضر»    مصر وتشاد يبحثان خارطة طريق لتعزيز الاستثمار المشترك في الثروة الحيوانية    "الداخلية" تصدر 3 قرارات بإبعاد أجانب خارج البلاد لدواعٍ تتعلق بالصالح العام    عظيم ومبهر.. الفنانة التشيكية كارينا كوتوفا تشيد بالمتحف المصري الكبير    منتخب مصر يستعيد جهود مرموش أمام كاب فيردي    انطلاق أسبوع الصحة النفسية لصقل خبرات الطلاب في التعامل مع ضغوط الحياة    كفاية دهسا للمواطن، خبير غذاء يحذر الحكومة من ارتفاع الأسعار بعد انخفاض استهلاك المصريين للحوم    بمشاركة 46 متدربًا من 22 دولة أفريقية.. اختتام الدورة التدريبية ال6 لمكافحة الجريمة    الإفتاء تواصل مجالسها الإفتائية الأسبوعية وتجيب عن أسئلة الجمهور الشرعية    أمين البحوث الإسلامية يبحث مع رئيس جامعة أسيوط تعزيز التعاون لنشر الوعي بين الطلاب    إخماد حريق نشب داخل شقة سكنية دون إصابات في الهرم    «البيئة» تشن حملة موسعة لحصر وجمع طيور البجع بطريق السخنة    الأوقاف تعلن عن المقابلات الشفوية للراغبين في الحصول على تصريح خطابة بنظام المكافأة    متحدث الصحة: ملف صحى إلكترونى موحد لكل مواطن بحلول 2030    وزير الدفاع يشهد تنفيذ المرحلة الرئيسية للمشروع التكتيكي بالذخيرة الحية في المنطقة الغربية    30 دقيقة تأخرًا في حركة قطارات «القاهرة - الإسكندرية».. الأحد 16 نوفمبر    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 16نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا..... اعرف مواقيت صلاتك    محمد فراج يشعل تريند جوجل بعد انفجار أحداث "ورد وشيكولاتة".. وتفاعل واسع مع أدائه المربك للأعصاب    الإفتاء: لا يجوز العدول عن الوعد بالبيع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عوامل بناء النفس
نشر في الشعب يوم 25 - 10 - 2011


بقلم: الشيخ علي عبد الخالق القرني
النفس بطبيعتها طموحة إلى الشهوات واللَّذَّات، كسولة عن الطاعات وفعل الخيرات، لكن في قَمْعِها عن رغبتها عزُّها، وفي تمكينها مما تشتهي ذلها وهوانها؛ فمن وُفِّق لقمْعِها نال المُنَى، ونفسَه بنى، ومن أرخى لها العنان ألْقَتْ به إلى سُبُل الهلاك، ونفسَه هدم وما بنى؛ فمن هجر اللذات نال المنى، ومن أكبَّ على اللذات عض على اليد.

ففي قمع أهواء النفوس اعتزازها وفي نيلها ما تشتهي ذلُّ سرمدِ
فلا تشتغل إلا بما يكسب العلا ولا ترضَ للنفس النفيسة بالرَّدِي

وعلى هذا: فالناس مختلفون في بناء أنفسهم وتأسيسها وتربيتها اختلافًا واضحًا، يظهر ذلك في استقبال المِحَن والمِنَح، والإغراء والتحذير، والنعم والنِقَم، والترغيب والترهيب، والفقر والغنى؛ فمنهم:
- الصنف الأول من الناس: من أسَّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان: فلا تضره فتنة ولا تُزَعْزعُه شبهة، ولا تغلبه شهوة ،صامد كالطود الشامخ، فهم الحياة نعمة ونقمة، ومحنة ومنحة، ويسرًا وعسرًا، ثم عمل موازنة، فوجد أن الدهر يومان؛ ذا أمن وذا خطر، والعيش عيشان؛ ذا صفو وذا كدر، فضبط نفسه في الحاليْن؛ فلم يأسَ على ما فات، ولم يفرح بما هو آتٍ؛ فلا خُيَلاء عند غنى، ولا حزن عند افتقار، لا يبطر إن رَئِس، ولا يتكدر إن رُئِس، يقلق من الدنيا، ولا يقلق على الدنيا أبدًا، يستعجل الباقية على الفانية؛ فتجده راضي النفس، مطمئن الفؤاد، إن هذا الصنف من الناس صنف قيِّم كريم، لكنه قليل قليل، وما ضره أنه قليل وهو عزيز؛ والسر إنه الإيمان، الذي إذا خالطت بشاشته القلوب ثبت صاحبه، واطمأن وضرب بجذوره فلا تزعزعه المِحَن، ولا تؤثر فيه الفتن؛ بل يُكِنُّ الخير ويجني الفوائد .
وهذه سمة المؤمنين، الاطمئنان إلى الله يملأ نفوسهم فيبنيها، يحرك جوارحهم فيقوِّيها. لا يستمدون تصوراتهم وقِيَمَهم وموازينهم من الناس، وإنما يستمدونها من رب الناس؛ فأنى يجدوا في أنفسهم وهنًا عند محنة أو عند منحة أو عند شهوة، أو يجدوا في قلوبهم حزنًا على فائت من الدنيا؟!
إنهم على الحق؛ فماذا بعد الحق إلاّ الضلال، ليكن للباطل سلطانه، ليكن معه جمعه وجنوده، إن هذا لا يغير من الخطب شيئًا.
هذا هو الصنف الأول من الناس ممن أسَّسَ بنيانه على تقوى من الله ورضوان؛ هامات لا تنحني، وقامات لا تنثني، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل هذا الصنف .
أما الصنف الثاني: فأسَّس بنيانه على شفا جُرُف هارٍ: يعبد الله على حرف، إن أصابه خير اطمأنَّ به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، يذوب أمام المحنة فلا يتماسك، يلعب بعواطفه الخبر البسيط فلا يثبت، يطير فؤاده للنبأ الخفيف فلا يسكن، فؤاده هواه، يعيش موزعًا بين همِّ حياة حاضر ومفاجآت تنتظر، لا تطمئن لقوله، ولا تثق في تصرفاته، بصره زائغ، عقله فارغ، أفكاره تائهة، مغلوب على أمره، لا ينفع في ريادة ولا يُعتمَد عليه في ساقة، جبان مفتون فرَّار غرَّار .

يوم يمانٍ إذا لاقاه ذو يمنٍ وإن تلقَّ معديًّا فعدنان
فهو قلق بائس، متردد، تعصف به الفتن، تدمره المِحَن، إن عزلته لم يرعوِ، إن خاطبته لم يفهم. إن المؤمن ليقف شامخًا وهو يرى مثل هذا الصنف البائس، وقد غرق في شهواته الهابطة وفي نزواته الخليعة السافلة يَعُبُّ منها، لكنها حكمة الله البالغة التي أرادت أن يقف الإيمان مُجرَّدًا من الزينة والطلاء، عاطلاً عن عوامل الإغراء، لا هتاف لذة، ولا دغدغة شهوة، وإنما هو الجهد ليقبل عليه من يقبل وهو على يقين أنه يريد الله والدار الآخرة، ولينصرف عنه من يبتغي المطامع والمنافع الدنيوية، ومن يشتهي الزينة ويطلب المتاع؛ ليحيا من حيَّ عن بينه ويهلك من هلك عن بينة .

كيف يقوى على العواصف غرس جذره في ترابه موءود
الحاجة إلى بناء النفس أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب
ولذلك أسباب:
1- لكثرة الفتن والمغريات وأصناف الشهوات والشبهات: فحاجة المسلم الآن إلى البناء أعظم من حالة أخيه أيام السلف، والجهد لابد أن يكون أكبر؛ لفساد الزمان والإخوان، وضعف المعين، وقلة الناصر.
2- لكثرة حوادث النكوس على الأعقاب، والانتكاس: حتى بين بعض العاملين للإسلام، مما يحملنا على الخوف من أمثال تلك المصائر.
3- لأن المسؤولية ذاتية: ولأن التبعة فردية (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نفْسِهَا)[ النحل:111] .
4- عدم العلم بما نحن مقبلون عليه؛ أهو الابتلاء أم التمكين؟ وفي كلا الحاليْن نحن في أَمَسِّ الحاجة إلى بناء أنفسنا لتثبت في الحالين.
5- لأننا نريد أن نبني غيرنا، ومن عجز عن بناء نفسه فهو أعجز من أن يبني غيره.
لذلك كله كان لابد من الوقوف على بعض العوامل المهمة في بناء النفس بناءً مؤسَّسًا على تقوى من الله ورضوان.
من عوامل بناء النفس:
1- التقرب إلى الله بما يحب من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة: وخير ما تقرب به المتقرِّبون إلى الله الفرائض وعلى رأسها توحيد الله وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، ثم إن في النوافل لمجالًا عظيمًا لمن أراد أن يرتقي إلى مراتب عالية عند الله. يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ..." رواه البخاري .
ومن فضل الله علينا أن جاء هذا الدين بعبادات شتى تملأ حياة المسلم في كل الظروف والأحوال؛ فهناك السنن القولية، والسنن الفعلية والقلبية التي يعتبر أداؤها من أهم عوامل بناء النفس؛ من قيام ليل، وصيام تطوع، وصدقة، وقراءة قرآن، وذكر لله آناء الليل وأطراف النار. لاشك أن هذه العبادات تقوِّي الصلة بين العبد وبين ربه، وتوثِّق عُرى الإيمان في القلب؛ فتنبني النفس وتزكو بها، وتأخذ من كل نوع من العبادات المتعددة بنصيب؛ فلا تَكَلُّ ولا تَسْأَمُ.
لكن علينا أن ننتبه في هذه القضية إلى أمور:
أ- الحذر من تحول العبادة إلى عادة، فتصبح العبادة حركة آلية لا أثر لها في سَمْتٍ أو قول أو عمل أو بناء.
ب - عدم الاهتمام بالنوافل على حساب الفرائض؛ فيقوم الليل -مثلاً- ثم ينام عن صلاة الفجر.
ج - إذا تعارض واجب ومستحب؛ فالواجب مقدَّم ولا شك.
د - التركيز على أعمال القلوب، وتقديمها على أعمال الجوارح؛ فالقلوب هي محل الفكر ،والتدبُّر، والعلم، " أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ " رواه البخاري ومسلم .
2- من عوامل بناء النفس: المجاهدة:
فكل فكرة لا يصحبها مجاهدة فهي في طريقها إلى الزوال، يقول تعالى:(وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69] .
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
فجاهد النفس والشيطان واعصهما وإن هما محَّضاك النصح فاتهمِ
إن استشعار المؤمن أن الجنة محفوفة بالمكاره يتطلب منه هِمَّة عالية تتناسب مع ذلك المطلب العالي؛ للتغلب على تلك المكاره، مع تنقية تلك الهمم من كل شائبة تدفع لوجه غير وجه الله، وإنما تفاوت الناس بالهِمَم لا بالصور والله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
فها هو ثابت البناني يقول:" تعذبت بالصلاة عشرين سنة، ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى ، والله إني لأدخل في الصلاة فأحمل همَّ خروجي منها".
ولا شك أن هذا نتيجة مجاهدة وصل بها إلى الهداية من الله.
ويقال للإمام أحمد: يا إمام متى الراحة؟ فيقول – وهو يدعو إلى المجاهدة -:" الراحة عند أول قدم تضعها في الجنة" . إِي والله إنها الراحة الأبدية التي يُستعذَب كل صعب في سبيل الوصول إليها.
وأعظم المجاهدة مجاهدة النيات ف " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" رواه البخاري ومسلم. والعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير صدق هباء (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً منثُورًا) [الفرقان:23] .
يأتي أناس يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة يجعلها الله هباءً منثورًا مع أنهم كانوا يصلون مع المصليين، ويصومون مع الصائمين، ولهم من الليل مثل ما للمصليين وما للمخلصين، لكنهم إذا خلَوْا بمحارم الله انتهكوها؛ أمام الناس عُبَّاد زُهَّاد نُسَّاك، لكن إذا خلَوْ ظنوا أن الله لا يعلم كثيرًا مما يعلمون؛ فالنيةَ النية.
وهاهو صلى الله عليه وسلم- يتجه إلى تبوك بجيش قوامه ثلاثون ألفًا في صحاري يبيد فيها البيد، وقت عسرة ووقت شدة، حرٌّ ودنوّ ثمار المدينة، ومشقة عظيمة في سفرهم بلغت فوق ما يتكلم المتكلمون، حتى إن عمر ليقول:" لقد أصابنا عطش شديد حتى ظننَّا أن رقابنا ستتقطع من شدة العطش، حتى إن الرجل لينزل عن بعيره، فينحره فيعتصر فرثه ثم يشربه". وعندما قفلوا راجعين منصورين، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم- بعد هذا التعب العظيم قال: " إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟! قَالَ:" وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ" رواه البخاري .
فبحسن النية بلغوا ما بلغوا، ولذلك يقول الإمام أحمد موصيًا ابنه:" يا بني انوِ الخير؛ فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير". فالنية النية، والإخلاص الإخلاص؛ فهي من أهم عوامل بناء النفس وتزكيتها، وكل ما لا يراد به وجه الله يضمحل.
ثم إن للإخلاص علامات، فاعرض أعمالك عليها، واختبر نفسك، وجاهدها وهي على سبيل المثال:
أ- استواء المدح والذم؛ فالمخلص لا يتأثر بمدح مادح، ولا ذم ذامٍّ؛ لأنه جعل الهمَّ همًّا واحدًا، وهو إرضاء الله وكفى.
ب - نسيان العمل بعد عمله، ويبقى الهم: هل تُقُّبِل هذا العمل أم لم يتقبل؟ و(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27].
ج - الحب في الله، حبًا يزيد بالبر لكنه لا ينقص بالجفاء، وإنها لكبيرة إلا على الذين هدى الله.
د - إخفاء ما يمكن إخفاؤه من الطاعات؛ خوفًا من دواعي السُّمْعَة والرياء؛ فمن استطاع منكم أن يكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل.
لقد كان الرجل من أسلافنا يجمع القرآن ويحفظه وما يشعر به جاره، ويفقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس حتى يُسأل ويصلي الصلاة الطويلة والضيف في بيته ولا يشعرون؛ بل إن أحدهم ليدخل مع زوجته في فراشها ثم يخادعها كما تخادع المرأة صبيها، فإذا نامت سلَّ نفسه، ثم قام ليله كله.
يقول أحد السلف: لقد أدركنا أقوامًا ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر؛ فيكون علانية أبدًا، يجلس الرجل منهم في المجلس المعمور بذكر الله، فتأخذه الخشية، فتأتيه العَبَرة لتخرج فيردها؛ فإذا خشي خروجها خرج من مجلسه خوفًا من السمعة والرياء.
3- من عوامل بناء النفس: محاسبتها محاسبة دقيقة: فالأعمال محصاة في سجلات محكمة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْس شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
وما دمنا نعلم ذلك، فمن العقل أن نحاسب أنفسنا في الرخاء قبل الشدة؛ ليعود أمرنا إلى الرضا والغبطة؛ لأن من حاسب نفسه علم عيوبها وزلاَّتها، ومواطن الضعف فيها، فبدأ بعلاجها ووصف الدواء لها، فينمي ذلك في النفس الشعور بالمسئولية ووزن الأعمال والتصرفات بميزان دقيق، ألا وهو ميزان الشرع.
والمحاسبة على أقسام:
أ- محاسبة قبل العمل: قف عند إرادتك العمل، فأسأل نفسك: هل العمل مشروع؟ فأخلص وسارع إن كان كذلك، وإن لم يكن ف "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " كما قال صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم.
ب- ومحاسبة أثناء العمل: هل أنت مخلص أم مراءٍ ؟ وأنت أعلم بنفسك؛ لأن العمل قد يبدأ وهو خالص لله ثم يشوبه شيء من الرياء أثناء أدائه؛ فليُنتبَه للنية فيه.
ج-ومحاسبة بعد العمل وهي على أنواع:
أحدها: محاسبة النفس على طاعة قصرت فيها في حق لله؛ فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي أن توقع .
أما الثانية: فمحاسبتها على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله.
وأما الثالثة: فمحاسبتها على الأمور المباحة أو المعتادة لِمَ فعلها؟
ومما يعين على محاسبة النفس معرفة عيوبها، ومن عرف عيبه كان أحرى بإصلاحه. ومما يعين على معرفة عيوب النفس ملازمة العلماء الصادقين المخلصين العاملين الناصحين، وكذلك ملازمة الأخوة الصالحين الذين يذكرونك الله ويخوِّفونك حتى تلقى الله آمنًا.
4- ومن أهم عوامل بناء النفس: طلب العلم المقرب إلى الله: والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى في تبليغه، وهذا لسببيْن:
أ- لأن العبادة بلا علم توقع في البدع، وما وقع المبتدعة فيما وقعوا فيه إلا عن جهل غالبًا.
ب- ولأن العلم مادة الدعوة إلى الله، ودعوة إلى الله بلا علم تضر ولا تنفع، وقد يصاحبها الانحراف والضلال. وكم من مريد للخير يجهل العلم لا يدركه، فيا طالب العلم، العلم هام لهاتيْن النقطتيْن.
ثم إن لكل شيء ثمرة، وثمرة العلم العمل والتبليغ، وعلم بلا عمل كشجر بلا ثمر، وإن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، لا تأخذ العلم من صاحب هوى أو من غافل (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28].
ولابد للطلب والدعوة من صبر عظيم كصبر الجماد، وليكن معزيك ما يجده الصابر عند ربه يوم يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب. إن المريض ليتجرع الدواء المرَّ لا يكاد يسيغه؛ أملاً في حلاوة العافية ولو بعد حين .
صبرت ومن يصبر يجد غبِّ صبره ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم
5- ومن عوامل بناء النفس: المداومة على العمل وإن قلّ:
لأن المداومة على الأعمال الصالحة تثبيت للنفس البشرية لمواجهة أعباء الطريق وتكاليفه، وصرفٌ لمكايد الشيطان ونوازعه، ولذا لمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ:" أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ" رواه البخاري ومسلم.
فإذا عود المرء نفسه على الفضائل انقادت له، وإذا تهاون فأقدم مرة وأحجم مرة كان إلى النكوص أقرب، وإن الله من فضله أنه إذا جاء ما يصرفك عن أداء الطاعات من عجز ومرض، فإن الأجر يجريه الله لك كما كنت صحيحًا كما قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا" رواه البخاري.
6- من عوامل بناء النفس: مجالسة من رؤيتهم تذكر بالله: فمجالستهم تريك ما في نفسك من قصور وعيوب؛ فتصلحها وتهذبها؛ فهم زينة الرخاء وعدة البلاء يذكرونك إن نسيت، ويرشدونك إن جهلت، يأخذون بيدك إن ضعفت، من جالسهم وأحبهم أذاقه الله حلاوة الإيمان التي فقدها الكثير، وأحلوا بدلاً منها حبَّ المصلحة التي تنتهي بنهاية المصلحة.
فالثمرة اليانعة لمجالسة من يذكرونك بالله يقصر العبد عن إحصائها، ويكفي أنها تجعلك تذوق حلاوة الإيمان، وتدخلك في السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [ الكهف:28].
7- من عوامل بناء النفس: طلب الوصية من الصالحين: فيوم يُقيِّض الله للمرء رجلا صالحًا يعظه، يثبته الله وينفعه بتلك الكلمات، فتنبني نفسه، وتُسدَّد خطاه يوم يتعرض لفتنة أو بلاء من ربه ليمحصه به.
وها هو الإمام أحمد - يساق إلى المأمون مقيدًا بالأغلال، وقد توعده وعيدًا شديدًا قبل أن يصل إليه- يقول: ما سمعت كلمة مذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها قال : يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيدًا، وإن عشت عشت حميداً فقوَّى بها قلبي.
8- من عوامل بناء النفس: الخلوة للتفرغ للعبادة: والتفكر في ملكوت الله والاستئناس بمناجاة الله عن مناجاة الخلق في قيام ليل والناس نيام، في صلاة في بيتٍ عدا المكتوبة، في ذكر الله، في خلوة، عامل مهم في بناء النفس؛ فإن في ذلك صفاء للذهن وسلامة من آفات الرياء والتصنع للناس والمداهنة وفيه بعد عما يتعرض له الإنسان غالبًا بالمخالطة من غيبة ونميمة ولهو وضياع وقت ومداهنة، ولعل المرء في خلوة يذكر الله فتفيض عيناه من خشية الله؛ فيكون من السبعة الذي يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، ومع هذا فإن مخالطة الناس والصبر على أذاهم خير -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- ولكن اخلُ وخالط، وكلٌ له وقته.
9- ومنها: الدعاء فهو أهم عامل في بناء النفس: إذ هو العبادة –كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- ففيه الذل والخشوع والانكسار بين يديْ رب الأرباب ومسبب الأسباب، هو الذي يجعل من الداعي رجلاً يمشي مرفوع الهامة والقامة، لا يخضع لأحد دون الله –الذي لا إله إلا هو- وهو من صفات عباد الله المتقين الذين يعلمون أن القلوب بين إصبعيْن من أصابع الرحمن يقلِّبها كيف يشاء؛ فكان لسان الحال والمقال: " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ" . فهلاَّ تلمسنا مواطن وأسباب إجابة الدعاء؛ لعلنا نحظى بنفحة ربانية تكون بها سعادة الدنيا والآخرة، في ثلث ليل آخر، والناس هاجعون، والناس نائمون.
فقد روى الثقات عن خير الملا بأنه عز وجل وعلا
في ثلث الليل الأخير ينزل يقول هل من تائب فيُقبِل
هل من مسيء طالب للمغفرة يجد كريمًا قابلاً للمعذرة
يَمُنُّ بالخيرات والفضائل ويستر العيب ويعطي السائل.
10- ومن عوامل بناء النفس: تدبر كتاب الله والوقوف عند أسمائه الحسنى وصفاته العلا: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24] .
كلنا يقرأ القرآن، وكثير منا يحفظ القرآن؛ لكن هل من متدبر ربط حياته بالقرآن؛ أقبل عليه تلاوة وتفسيرًا وعلمًا وعملاً وتدبرًا، منه ينطلق، وإليه يفيء؟ أولئك البانون أنفسهم، أولئك الثابتون إذا ادلهمَّت الخُطُوب، أولئك المسدَّدون المهديون إذا أطلت الفتن برأسها؛ فأصبح الحليم حيرانًا، وإن وقفة واحدة مع أسماء الله الحسنى وصفاته العلا الواردة في كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لتبني النفس بناءً لا يتزلزل ولا يحيد، إنه السميع البصير ليس كمثله شيء، إنه العليم الخبير ليس كمثله شيء، لو تفاعل المؤمن مع اسم الله السميع العليم، فربَّى نفسه عليها، فعلم أن الله يسمعه في أي كلمة ينطقها، في أي مكان يقولها وحده، مثنى، أمام الناس، عند من يثق به، عند من لا يثق به؛ فالله يسمعه سمعًا يليق بجلاله؛ بل إنه ليسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء؛ إذن لَصَلُح الحال.
إن النفس يوم تتفاعل مع هذه الصفات تتعلق في كل أمورها بالله، فتراقبه، وتنسى رؤية الخلق مقابل ذلك. فيا أيها العبد المؤمن إذا لقيت عنتًا وظلمًا ومشقة وسخرية واستهزاءً فلا تحزن يا طالب العلم، يا أيها الداعية إذا جُعلت الأصابع في الآذان، واستُغشيت الثياب، وحصل الإصرار والاستكبار، فلا تحزن؛ إن الله يسمع ما تقول، ويسمع ما يقال لك: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11].
يا أيها الشاب الملتزم الذي وضع قدمه على أول طريق الهداية، فسمع زميلاً يسخر منه، ويهزأ به لا تأسَ، ولا تحزن، واثبت، واعلم علم يقين أنك بين يديْ الله يسمع ما تقول وما يقال لك. وسيجزي فاعلاً ما قد فعل.
إن النفوس يوم تتربى على تدبر كتاب الله والوقوف على معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، والتملي في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تتخذه قدوة مطلقة، وتقتدي بما يقتدي به صلى الله عليه وسلم؛ تبنى بناءً لا يزعزعه أي عارض في أي شبهة أو شهوة أو ترغيب أو ترهيب أو إغراء أو تحذير؛ بل تعلق باللطيف الخبير السميع البصير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
أخيرًا: أسئ الظن بنفسك يا عبد الله؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع عن كمال الإصلاح ويرى المساوئ محاسن والعيوب كمالاً، ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عارضها، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه، وكم من نفس مستدرجة بالنعم، وهي لا تشعر مفتونة بثناء الجُهَّال عليها، مغرورة بقضاء الله حوائجها وستره عليها.
ألا فابنوا على التقوى قواعدكم فما يُبْنَى على غير التقى متداعٍ
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.