صعود جديد في أسعار الذهب الفورية اليوم الجمعة    الرئيس الأمريكي ترامب يرزق بحفيده الحادي عشر من صهره اللبناني    أول بابا أمريكي للفاتيكان.. دعا للسلام وبناء الجسور    الصومال يواجه شبح المجاعة مجددًا| 55 ألف طفل مهددون بالمرض والوفاة لتوقف المساعدات وإغلاق مراكز التغذية    أمانة العمل الأهلي بالمنوفية تعقد إجتماعاً تنظيمياً لمناقشة خطة عملها    أبو شقة: لدينا قوانين سقيمة لا تناسب ما يؤسس له الرئيس السيسي من دولة حديثة    عقد ب800 مليون دولار أول ثمار سوريا منذ سقوط الأسد.. ما علاقة الإمارات؟    بيت لاهيا تحت القصف وحشد عسكري إسرائيلي .. ماذا يحدث في شمال غزة الآن؟    توقفوا فورا.. طلب عاجل من السعودية إلى إسرائيل (تفاصيل)    لاعب الأهلي يحتفل بخطوبته (شاهد)    4 مواجهات نارية في صراع الهبوط من الدوري .. ثنائي شعبي ينتفض    أول قرار من دفاع نجل الفنان محمد رمضان بعد الحكم بإيداعه في دار رعاية    جداول امتحانات الترم الثاني 2025 في بورسعيد لجميع الصفوف    صاحبة "الغزالة رايقة"، منة عدلي القيعي تحتفل بعقد قرانها على الفنان يوسف حشيش (صور)    د. محروس بريك يكتب: منازل الصبر    اليوم.. الأوقاف تفتتح 11 مسجدًا جديداً بالمحافظات    خروج أخر مستشفى لعلاج السرطان في غزة عن الخدمة    خسارة مصر وتتويج برشلونة باللقب.. نتائج مباريات أمس الخميس    الدوري الإسباني.. أوساسونا يهزم أتلتيكو مدريد بثنائية    هل الصلاة على النبي تحقق المعجزات..دار الإفتاء توضح    نشرة التوك شو| حجم خسائر قناة السويس خلال عام ونصف وتحذير من موجة شديدة الحرارة    بحضور وزير العمل الليبي.. تفعيل مذكرة التفاهم بين مجمع عمال مصر ووزارة العمل الليبية    القوى العاملة بالنواب: علاوة العاملين بالقطاع الخاص لن تقل عن 3% من الأجر التأميني    طقس المحافظات.. الأرصاد تطلق تحذيرا من بلوغ درجات الحرارة ذروتها «السبت»    وكيل أول الشيوخ: مشروع قانون الإيجار القديم لن يخرج إلا في هذه الحالة    مسابقة معلمين بالحصة 2025.. قرار جديد من وزير التربية والتعليم وإعلان الموعد رسميًا    لاعب جنوب إفريقيا السابق: صن داونز سيفوز بسهولة على بيراميدز في نهائي دوري الأبطال    أسوان ضيفًا على طنطا في الجولة ال 36 بدوري المحترفين    طريقة عمل الأرز باللبن، حلوى لذيذة قدميها في الطقس الحار    الحوثيون يعلنون حظر الملاحة الجوية على مطار اللد-بن جوريون    البنك المركزي يطرح أذون خزانة محلية بقيمة 75 مليار جنيه الأحد المقبل    بيان مهم من العمل بشأن فرص عمل الإمارات.. تفاصيل    مصرع صغير وإصابة 21 آخرين في انقلاب سيارة عمالة زراعية في البحيرة    كمين شرطة مزيف.. السجن 10 سنوات ل 13 متهمًا سرقوا 790 هاتف محمول بالإكراه في الإسكندرية    دون وقوع إصابات.. السيطرة على حريق شب فى زراعات الهيش بمدينة إدفو    دون إصابات.. سقوط سيارة في ترعة بالغربية    ندوة علمية تناقش المنازعات والمطالبات في عقود التشييد -(تفاصيل)    25 صورة من عقد قران منة عدلي القيعي ويوسف حشيش    رامي جمال يعلن عن موعد طرح ألبومه الجديد ويطلب مساعدة الجمهور في اختيار اسمه    الكاتب صنع الله إبراهيم (سلامتك).. الوسط الثقافي ينتفض من أجل مؤلف «ذات».. بين الأدب وغرفة العمليات.. «صنع الله» يحظى باهتمام رئاسي ورعاية طبية    رسميًا بعد الانخفاض الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 16 مايو 2025    هل يمكن للذكاء الاصطناعي إلغاء دور الأب والأم والمدرسة؟    صفقات بمئات المليارات وتحولات سياسية مفاجئة.. حصاد زيارة ترامب إلى دول الخليج    "بعد الهزيمة من المغرب".. موعد مباراة منتخب مصر للشباب المقبلة في أمم أفريقيا    لقب الدوري السعودي يزين المسيرة الأسطورية لكريم بنزيما    إعلان أسماء الفائزين بجوائز معرض الدوحة الدولي للكتاب.. اعرفهم    بعد زيارة ترامب له.. ماذا تعرف عن جامع الشيخ زايد في الإمارات؟    النائب إيهاب منصور يطالب بوقف إخلاء المؤسسات الثقافية وتحويلها لأغراض أخرى    دعمًا للمبادرة الرئاسية.. «حماة الوطن» بالمنيا يشارك في حملة التبرع بالدم| صور    حيازة أسلحة بيضاء.. حبس متهم باليلطجة في باب الشعرية    أخبار × 24 ساعة.. الحكومة: جهود متواصلة لتأمين المخزون الاستراتيجى للقمح    بسنت شوقي: نجاح دوري في «وتقابل حبيب» فرق معي جماهيريًا وفنيًا    أمين الفتوى: التجرؤ على إصدار الفتوى بغير علم كبيرة من الكبائر    البحيرة: الكشف على 637 مواطنا من مرضى العيون وتوفير 275 نظارة طبية بقرية واقد بكوم حمادة    استعدادا للامتحانات، أطعمة ومشروبات تساعد الطلاب على التركيز    طريقة عمل القرع العسلي، تحلية لذيذة ومن صنع يديك    "الصحة" تفتح تحقيقا عاجلا في واقعة سيارة الإسعاف    "الأوقاف" تعلن موضع خطبة الجمعة غدا.. تعرف عليها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قطز ذبح سفراء هولاكو وعلقهم على أبواب القاهرة
دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (16)
نشر في الشعب يوم 12 - 01 - 2018


عين جالوت صورة كربونية من حطين (دور مصر)
مغزى مقولة جمال حمدان (مصر مجرد قرية واحدة)
الشعب المصري "ثقيل" ولكنه ليس بعيداً عن الثورة

(هذه دراسة غير منشورة وغير مكتملة بعد لمجدي حسين رئيس حزب الاستقلال ورئيس تحرير جريدة الشعب الذي يقبع الآن مغيبا خلف أسوار السجون بأحكام ظالمة وغير دستورية.. لقد تم ترتيب الجزء المكتوب من الدراسة في حلقات وسننشر تباعا الحلقات الموجودة لدينا لحين خروجه من محبسه وإكمال عطائه الفكري والسياسي والذي نأمل أن يكون قريبا بإذن الله..)
ذكرنا أن هولاكو أرسل رسالة صفيقة لسيف الدين قطز سلطان مصر والشام يهدده ويتوعده ويأمره بالاستسلام كما استسلم الذين من قبله. ووصلت بعثة هولاكو إلى القاهرة واستقبلهم قطز وعندما قرأ الرسالة قرر قتل البعثة الدبلوماسية كرسالة تحد لهولاكو ورسالة تعبئة للشعب المصري، والمستقر في الأعراف الدولية في ذلك الزمان وحتى الآن أن الرسل لا تقتل، ولكن المغول اللذين لا يعرفون العهود يجوز قتل مبعوثيهم. وبالفعل أمر قطز بقطع رؤوس أفراد البعثة جميعا عدا واحد تركه ليعود ليروي لهولاكو ما حدث. وعلق جثث المغول على أبواب القاهرة (وهذه رسالة قطز للشعب المصري: إنها معركة حياة أو موت) وكان هذا هو الرد على رسالة التهديد. ولم ينتظر جيش المماليك في مصر قدوم المغول ترتعد فرائضهم في الانتظار كما فعل الذين من قبلهم، بل بادروا بالخروج لملاقاة المغول في الشام. وكان اللقاء في عين جالوت على أرض فلسطين. وانتصر قطز وجيش المسلمين نصراً مؤزرا وقصم ظهر الحملة المغولية التي لم تقم لها قائمة بعد ذلك بنفس الأسلوب السابق الذي أرعب الناس منها، وانتهت أسطورتهم بأنهم الجيش الذي لايهزم، خاصة بعد ما فعلوه في بلدان آسيا بدءاً من الصين وفيتنام وكوريا وتايلاند ولاوس ومينمار ونيبال حتى روسيا كلها وآسيا الصغرى (تركيا الحالية) وأجزاء من أوروبا ومن أراضي بيزنطة. وبعد ما فعلوه في بلاد المسلمين من سمرقند إلى بغداد والشام وحلب. هذه الأسطورة المرعبة انتهت على أرض عين جالوت. حدث هذا في عام 1260 م بعد سقوط بغداد والخلافة العباسية بعامين مما أزال حالة الحزن والاحباط في العالم الاسلامي. وهنا لابد أن نشير إلى توفيق الله وهو أمر حتمي في أي انتصار ولكن أحيانا ترى علامات ظاهرة لا تخطئها العين: فكثيرون لا يعلمون أن هولاكو لم يحضر هذه المعركة لأنه تلقى نبأ وفاة أخيه زعيم المغول وتزايد احتمالات أن تدب الخلافات بين ورثة القيادة فآثر العودة السريعة وعين من يقوم بقيادة الجيش. ولا شك أن غياب هولاكو أثر معنوياً بالاضافة لغياب خبرته وتأثير ذلك على أداء المغول في معركة عين جالوت، طبعا كان يمكن لجيش المغول أن يهزم في وجود هولاكو، ولكن الله يهيئ أسباب النصر ويفتح لها الطريق بعد هذا العزم والاصرار والايمان لدى قادة المسلمين وكيف انهم أخذوا بالأسباب وتوكلوا على الله سبحانه وتعالى.
المهم لقد كان انكسار المغول في عين جالوت وما أعقبها من معركة أخرى حيث أباد المسلمون قوة من ألفي مقاتل من المغول أو أسروهم وقتلوا ابن هولاكو قائد القوة. وكان هولاكو يولول على البعد: هذه أول مرة يهزم فيها جيش بل ويهزم مرتين متواليتين: كان هذا الانكسار للمغول نهاية لتوغلهم في المستطيل القرآني/ الشرق الأوسط/ مركز العالم. بل لقد بدأ العد العكسي وبدأ المماليك معارك طرد المغول من الشام والعراق. ونلحظ هنا ان المغول رغم قلة ثقافتهم أدركووا كمحاربين وطامحين إلى حكم العالم أهمية المستطيل باعتباره مركز العالم. لقد حكم المغول نصف العالم على الأقل في لحظة من اللحظات وسعوا للسيطرة على النصف الثاني. لقد وصل جنكيز خان إلى روسيا واحتل موسكو وفرض على الروس دفع اتاوات منتظمة له. واحتل الأناضول كلها وعاصمتها أنقرة وقد كان يحكمها البيزنطيون واحتل أجزاء من أوروبا بالاضافة لمعظم آسيا كما أسلفنا القول، ومع ذلك فقد انهارت هذه الدولة العظمى سريعا لأنها لم تتمكن من السيطرة على مفصل العالم (المستطيل) بل كان انكسارها في المستطيل ايذانا بغروب شمسها وبمعدلات متسارعة ولم يستمر استقرارها لفترة معقولة ولم تترك في ذاكرة الشعوب إلا الحرق والتدمير والتخريب.
من ألطاف الله.. المغول يدخلون الاسلام:
من ألطاف الله ومعجزات الاسلام أن يرق قلب هؤلاء الغلاظ ويؤمنون بالله إيماناً صادقاً ويدخلون الاسلام بل ويشاركون في بناء حضارته العظيمة. ولعل أبرز مثال على ذلك دورهم في الهند، خاصة في ظل حكم الامبراطور المغولي العظيم: أكبر (1556- 1606م) الذي اذدهرت الهند في عهده في مختلف المجالات. وقد عرف عنه تمسكه بحرية العقيدة في نفس فترة اذدهار محاكم التفتيش في أوروبا التي كانت تحاكم أصحاب الرأي والفكر والبحث العلمي. وكان من ضمن قراراته رفض تحويل الهندوس للاسلام بالقوة حتى وان في سن الطفولة. {التنمية حرية- أمارتيا صن- الهيئة المصرية للكتاب- 2010- القاهرة- ترجمة شوقي جلال} المؤلف هندي غير متدين، خبير في المنظمات الدولية. في الكتاب عقد مقارنة بين التقدم الحضاري في الهند الاسلامية والتخلف الأوروبي ذلك الوقت.
أما فيما يتعلق بالمستطيل نشير إلى المشروع الذي استقر نسبيا وكان له مسحة حضارية وهو دولة تيمورلنك الذي دخل الاسلام، وأصله من أذربيجان ويوجد قبره بها، وتحتفل به دولة أذربيجان (بوسط آسيا) حاليا كبطل قومي. أقام تيمورلنك دولته في خراسان (أفغانستان) وسمرقند حيث كانت قاعدته 1369 وامتدت من دلهي في الهند إلى دمشق إلى الخليج العربي واحتل فارس وأرمينيا وأعالي الفرات ودجلة في الأناضول، ومن بحر قزوين حتى البحر الأسود و العراق وأجزاء من سوريا.
وحارب العثمانيين للصراع على زعامة الترك وانتصر عليهم واعتقل السلطان بايزيد وفكك الدولة العثمانية وأعاد الحكم في الأناضول إلى الأمراء السابقين في عهد السلاجقة. ذلك حتى تمكن محمد الأول من إعادة بناء الدولة العثمانية 1413. وهكذا نرى أن تيمورلنك احتل أكثر من نصف المستطيل ولكن دولته لم تعش طويلا ربما لأنه لا يوجد قبول للتتار (المغول في المنطقة حتى وان أسلموا.
وهنا لابد أن نشير إلى مسألة مهمة فروايات التاريخ تختلف في وصف تيمورلنك هل هو تركي؟ أم مغولي؟ في هذه الروايات تداخل بين التتار (المغول) والترك، هل هما عرقان مختلفان؟ أم كلهم من أصل تركي، والأتراك قبائل ضخمة ومتنوعة. وأساس هذا الاختلاط ان التتار والترك يتحركون في حزام واحد، وهو الحزام المتواصل من تركستان الشرقية في الصين حيث قبائل الايجور حتى تركيا الحالية. ويطلق على الأتراك أيضا "القومية الطورانية" نسبة إلى جبال طوران في وسط آسيا. والتتار يعيشون في نفس هذا الحزام. وعلى امتداد هذه المساحة من شرق الصين حتى تركيا فان اللغة التركية سائدة بين هذه البلدان ولكن عبر لهجات متعددة ومتنوعة، ويمكن لشعوب وسط آسيا أن يتحدثوا مع بعضهم البعض باللغة التركية ويفهمون بعضهم بصورة معقولة.
والحقيقة فانني لا أهتم كثيراً بمسألة الأعراق، ومن الواضح ان الأتراك والمغول متداخلون مع بعضهم البعض وإن كان المغول هم الجناح الأقل تحضراً، إلا أنه يجمعهم عدد من الصفات أهمها: الروح والنزعة الحربية والاستعداد المستمر للقتال، والصلابة والخشونة والعناد والاعتزاز بالنفس والقبيلة. أما الآن فالكل مسلمون، والتتار من أفضل المسلمين في روسيا. ولكن تركيا قبل أردوجان وأثناء حكمه تولي اهمية خاصة لهذا الحزام التركي وتعتبره عمقاً استراتيجيا لتركيا. بينما التتار لم يعد يمثلون قوة إقليمية فضلاً عن عالمية، وذابوا واختلطوا بين عدة شعوب ودول مع وجود دولة منغوليا الصغيرة المحصورة بين الصين وروسيا بدون أي قوة تذكر.
ملحوظة: يطلق "التتار" على القبائل التي تعيش في منغوليا- ولكن سيطرة قبيلة المغول وهي منهم جعلت اسمها يطلق على الكل.
عودة إلى المماليك:
كان لابد أن نكمل سريعا قصة المغول وعلاقتهم بالمستطيل التي كانت قصيرة ومحبطة وغير مستقرة في أغلب الأحوال، فهم على قوتهم العسكرية لم يكونوا جديرين بحكم مركز العالم وبالتالي غير جديرين بحكم العالم. والآن نعود إلى المماليك ودلالة معركة عين جالوت التاريخية.
في معركة عين جالوت نجد صورة كربونية إلى حد كبير من معركة حطين ضد الصليبيين، فالقانون يعمل بشكل آلي (وكأنه كذلك): المعارك الفاصلة تجري على أرض الشام والقيادة التي تحسم المعركة تأتي من مصر.
كان المماليك يحكمون مناطق واسعة في الشام (كما كان الحال أيام صلاح الدين الأيوبي) ولكن حالة التشظي والتشرذم التي تصل إلى حد وجود العديد من الامارات الصغيرة حتى وإن كانت تابعة شكلاً لحكم القاهرة، هذه الحالة لا تخلق مكاناً راسخاً ثابتاً للتحضير للمعركة وإعداد جيش كبير حتى ولا في دمشق أو حلب كأكبر مدينتين، فقد كان حاكم كل مدينة أو بلدة مشغول بتعزيز مكانته وحكمه، أقول هذا كقاعدة عامة. أما في مصر فتوجد دولة مستقرة راسخة، وفي غياب صراع السلطة أو الأزمات الكبرى تكون كتلة واحدة من الحكام والمحكومين.
هذا حديث مهم للحاضر والمستقبل فالمسألة ليست مجرد تقييم تاريخي، فنحن نبحث عن الثوابت المستمرة لتنير لنا الطريق. وهذا الحديث استكمال لما كتبناه تعليقا على معركة حطين ودور مصر فيها، بمزيد من الاستفاضة والبحث والتنقيب.
إن مصر- عادة- كتلة واحدة موحدة ومتوحدة بين الحاكم والمحكوم. وهذا يتيح للحاكم الصالح- إن وجد!- المناخ الملائم لترتيب أمور الجيش والدفاع والحشد والتعبئة بل وأيضا ترتيب أمور الاقتصاد والمجتمع. أما في الشام ونحن نرى ما يحدث فيها الآن (2011- 2013) وكيف تحولت ثورة مدنية سلمية إلى مئات التنظيمات المسلحة المتعددة الولاء (وصلت بعض التقديرات إلى 1800 تنظيم) فهذه خاصية تاريخية وهذه أهمية دراسة التاريخ، فكما يقول المفكر الألماني الكبير (جوته): (من لا يعرف كيف يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة يظل يعيش في الظلام الدامس)!
فكما قلنا فإن الشام إمارات شتى وتكاد تكون كل مدينة نواة لدويلة صغيرة ولكن مصر في أغلب الأحوال، اي فيما عدا بعض الفترات الاستثنائية، كتلة واحدة. ومن التعبيرات الموحية والمهمة للمفكر جمال حمدان أنه وصف مصر بأنها "قرية واحدة تتكون من كتلة الدلتا مع ذيل رفيع في الصعيد"!! وهذه حوالي 4- 6 % من مساحة المليون كيلو متر مربع، وهذه المساحة المأهولة بالسكان قريبة من مساحة مدينة أمريكية واحدة (لاوس أنجلوس)! أما الباقي فهو غرباً وشرقا يكاد يخلو من السكان والنشاط (بالمناسبة فإن كثيرا من سكان الوادي الجديد منحدرون من الصعيد أو الدلتا ومثل هذا في مدينة مرسى مطروح والبحر الأحمر في القطاع الاداري بل وبعض الأنشطة التجارية والحرفية) وأيضا الكثافة السكانية محدودة في الشمال (سيناء) حوالي نصف مليون نسمة.
إذن المجتمع السياسي والاقتصادي والثقافي...الخ هو أساساً في هذه القرية الممتدة بذيل رفيع (الدلتا والصعيد) وهذه القرية متحلقة حول نهر النيل.
(مصر هبة النيل: تعبير علمي دقيق لهيرودوت) وهذا يساعد على مسألة توحد السكان مادياً ومعنويا وتوحدهم مع الحكام، وأشرنا من قبل لدور الاقتصاد النهري الزراعي في هذا الصدد. وعندما تكون مصر مستقرة فإن حاكم مصر يكون أسعد حاكم في العالم، وهذا ما يجعل البعض (منا نحن المصريين) ينحو باللائمة على الشعب المصري وانه شعب خنوع وخاضع لأي حاكم. بل ان بعض المصريين يسخرون من أنفسهم ويرددون هذا الكلام العبثي. ويصبحون مثل الشخص الذي يسب ويشتم نفسه علنا وسط الناس.
وأنصح بقراءة مقدمة الأستاذ/ أحمد حسين في موسوعته (تاريخ مصر)- دار الشعب، لأنه يشرح فيها رؤيته المتميزة لشعب مصر وقد تأثر بعض المفكرين والمؤرخين بهذه الرؤية مثل د.نعمات فؤاد في كتابها شخصية مصر. أحمد حسين الذي وصفه البعض بأنه (ذلك الرجل الذي ظن أنه العاشق الوحيد لمصر!) ورغم ما في هذا الوصف من مبالغة أدبية قد تحمل معنى التقريظ أو النقد، إلا أنه قريب من الحقيقة. فأحمد حسين في مقدمته للموسوعة (وفي غيرها) يجيد وصف بدقة الحالة التي عايشها وأحبها. فعندما يصف الشعب المصري بالهدوء أكثر من اللازم وامتصاصه لتصرفات الحكام، فهو ليس عيبا بالضرورة، فكثرة الاضطرابات والثورات تؤدي إلى نتائج عكسية في كثير من الأحوال. فالثورات ليست لعبة وليست مسألة رد فعل عصبي (راجع تاريخ العراق في مجال العنف والثورات والتمردات المسلحة والتصفيات الجسدية على سبيل المثال مع كل الاحترام لكل الشعوب ومع إدراك الظروف الخاصة التي دفعت إلى هذا السلوك أو ذاك وسنأتي لموضوع التاريخ المتميز للعراق في إطار حضارته العظيمة في سياق هذه الدراسة إذا شاء الله). ومع ذلك فليس صحيحا أن الشعب المصري لا يثور أبداً، ولكنه من النوع "الثقيل" الذي يتحمل ويفكر كثيرا ويخزن ثم يثور. في المائة عام الماضية قام ب 3 ثورات كبرى وهذا يكفي جداً!: ثورة 1919- ثورة 1951 في القناة وعموم مصر ضد الانجليز والملك والتي انتهت بتحرك الجيش في 1952- ثورة 25 يناير 2011.
وبين هذه الثورات لم تنقطع مئات- إن لم يكن آلاف- التحركات الشعبية ضد المحتل وضد الحكام: مظاهرات- إضرابات- أعمال عنف فردية ضد الانجليز والخونة قبل عام 1952. ولكن بالمقارنة فإن الشعب المصري أهدأ كثيراً من غيره في المنطقة (الشام- العراق- واليمن مثلا) وهو بين الثورة والثورة يجنح إلى الهدوء والسكينة حتى تسير الحياة، وهذا يحدث في كل بلد آخر ولكن بمعدلات ومستويات أقل.
لذلك كان المغناطيس المصري هو الذي جذب صلاح الدين الأيوبي ليكون مقر حكمه في مصر رغم انه قادم من العراق والشام. وهذا المغناطيس المصري (أي الظرف المواتي) هو الذي جذب المماليك ليكون مقر حكمهم في مصر لا الشام. وهذا الادراك لدور مصر هو الذي جعل الصليبيين يلحون على غزو مصر عدة مرات في المرحلة الأخيرة لهم.
إذاً كانت مشكلة المماليك عندما تولوا الحكم هي المماليك! أي الصراعات فيما بينهم. ولكن عندما يتمكن أحدهم من إحكام قبضته على الحكم تستقر الأحوال في البلاد تماما.
الدور المتميز لمؤسسة الأزهر:
في إطار الشخصية المصرية.. شخصية التدفق الهادئ لمياه النيل نمت مؤسسة الأزهر بصورة متميزة لا مثيل لها في دول المشرق. فقد تولت إدارة الصراعات أو المنازعات بين الحكام والمحكومين بصورة مؤسسية هادئة وهذا هو الدور التاريخي للأزهر الذي قام بتمثيل الشعب وإحداث التوازن بين الحاكم والمحكوم في إطار نظامي غير فوضوي.
وهي مؤسسة لا مثيل لها في العراق أو الشام، بنفس القوة، من حيث الدور والهيبة، وليس من ناحية التعليم والفقه فهذه النواحي الأخيرة كانت موجودة في كل المدن الاسلامية الكبرى وربما تفوق مراكز الفقه في العراق مراكز الفقه في مصر، بل حدث ذلك عادة ولكن ليس في هذا العهد المنكود لبغداد الذي سبق سقوط الخلافة.
بالنسبة لمؤسسة الأزهر فبالاضافة لدورها التعليمي والعلمي والفقهي فقد أصبحت عندما يوجد بها شيخ إسلام ذو شخصية قوية وقدرات فقهية وتقوى- من قبل ومن بعد- تدرك أهمية دور الفقيه الحق في مواجهة ظلم وتجاوزات الحاكم أو من يلوذ به، ودور الفقيه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. في ظل مثل هذا الشيخ يتحول الأزهر إلى مؤسسة معبرة عن الشعب وطموحاته وآماله في الحد الأدنى من العدل! وأصبحت هيبة شيخ الاسلام المستمدة أيضا من مؤسسة الأزهر أداة ووسيلة نظامية لممارسة الضغط على الحكام، وقناة تواصل مؤثرة بين الشعب والحاكم بعيداً عن الاضطرابات أو أي شكل من أشكال العنف. كذلك فان حاكم مصر يمكن أن يتفاعل مع مثل هذا النوع من الضغوط السلمية لأنها أفضل من غيرها، وهو يحلم دائماً بأن يستمر الشعب على هدوئه، وهو يقارن أحوال مصر بغيرها، خاصة في غياب أي شكل من أشكال التحزب أو القبلية أو المذهبية أو الجبهوية العائلية حيث يوجد في الشام وعموم الشرق مرتعا لها.
شيخ الاسلام في ذلك الوقت (في عهد قطز) كان العز بن عبد السلام وهو لم يكن مصرياً بل من أصل شامي، وهكذا نؤكد مجدداً أن المصرية هي "الشخصية" وليست "العرقية". ولقد كانت له صولات وجولات مع المماليك وكانت له شعبية بين جماهير الناس بسبب إخلاصه وعلمه وتواضعه وانحيازه لمطالب الشعب وحقوقه. وقد كان تولي الشيخ العز بن عبد السلام المشيخة في إطار صحوة استمرت بعده مع شيخين آخرين على الأقل، أولهما الامام تقي الدين (ابن دقيق العيد) والذي كان يتولى موقع قاضي القضاة.
ولابد أن نتوقف مع قصة العز بن عبد السلام مع المماليك ومع السلطان سيف الدين قطز، لأنها كانت من أسباب نصر الله للمسلمين على المغول..أي على المغول الذين أرعبوا بلاد المشرق والمغرب.
إقرأ أيضًا:
* ·المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (1)
* ·دراسة المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- الحلقة (2)
* ·آدم يمني..نوح عراقي..أيوب مصري..إلياس فلسطيني
* ·نوح عاش في المستطيل.. دلائل قرآنية إضافية
* ·لماذا مصر في رباط إلى يوم الدين؟
* ·مصر هي البلد الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن
* ·بعثة محمد (ص) وضعت الشرق الأوسط في البؤرة
* ·هنا.. يجري استعداد أمريكا واليهود لمعركة نهاية العالم
* انجيل أمريكا: مصر والشرق الأوسط أساس السيطرة على العالم
* رسول الله لم يسع إلى إقامة دولة اسلامية بالحبشة
* البابا يدعو لتحرير القدس من قبضة المسلمين الأنجاس
* الفاطميون يندفعون كالاعصار من طنجة إلى مكة
* لماذا أقسم الله بالشام ومصر ومكة في سورة التين؟
* المغول اجتاحوا آسيا وأوروبا وروسيا والمشرق..وهزمتهم مصر!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.