خالد أبو بكر: «الدولار في النازل» والعجلة بدأت تدور    جهود «التضامن» في سيناء.. أكثر من 3 مليارات جنيه مساعدات للأسر الأولى بالرعاية    ارتفاع أسعار النفط 1% بعد قراءة بيانات نمو الاقتصاد الأمريكي    البنتاجون: الولايات المتحدة بدأت بناء رصيف بحري في غزة    عودة الشحات وإمام عاشور.. قائمة الأهلي لمواجهة مازيمبي    حمادة أنور ل«المصري اليوم»: «الزمالك قادر على تحقيق نتيجة إيجابية أمام دريمز»    تعرف على موعد سقوط الأمطار والسيول هذا الأسبوع.. هل يعود الشتاء؟    وصول سيد رجب ورانيا يوسف لحفل افتتاح مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    «السبكي»: جاهزون للمرحلة الثانية من التأمين الصحي.. وقدمنا 40 مليون خدمة بجودة عالمية    التنمية المحلية تزف بشرى سارة لأصحاب طلبات التصالح على مخالفات البناء    الجيل: كلمة الرئيس السيسي طمأنت قلوب المصريين بمستقبل سيناء    «ترشيدًا للكهرباء».. خطاب من وزارة الشباب ل اتحاد الكرة بشأن مباريات الدوري الممتاز    موقف ثلاثي بايرن ميونخ من مواجهة ريال مدريد في دوري أبطال أوروبا    «القاهرة الإخبارية»: دخول 38 مصابا من غزة إلى معبر رفح لتلقي العلاج    رغم ضغوط الاتحاد الأوروبي.. اليونان لن ترسل أنظمة دفاع جوي إلى أوكرانيا    جمال شقرة: سيناء مستهدفة منذ 7 آلاف سنة وبوابة كل الغزوات عبر التاريخ    أحمد عبد الوهاب يستعرض كواليس دوره في مسلسل الحشاشين مع منى الشاذلى غداً    محمد الباز: لا أقبل بتوجيه الشتائم للصحفيين أثناء جنازات المشاهير    عبد العزيز مخيون عن صلاح السعدني بعد رحيله : «أخلاقه كانت نادرة الوجود»    دعاء قبل صلاة الفجر يوم الجمعة.. اغتنم ساعاته من بداية الليل    بيان مهم للقوات المسلحة المغربية بشأن مركب هجرة غير شرعية    يقتل طفلًا كل دقيقتين.. «الصحة» تُحذر من مرض خطير    لماذا حذرت المديريات التعليمية والمدارس من حيازة المحمول أثناء الامتحانات؟    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    انخفضت 126 ألف جنيه.. سعر أرخص سيارة تقدمها رينو في مصر    بعد تطبيق التوقيت الصيفي.. تعرف على مواقيت الصلاة غدًا في محافظات الجمهورية    هل الشمام يهيج القولون؟    أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية بالاستفزازية    العثور على جثة مسن طافية على مياه النيل في المنصورة    فيديو.. مسئول بالزراعة: نعمل حاليا على نطاق بحثي لزراعة البن    عامل يتهم 3 أطفال باستدراج نجله والاعتداء عليه جنسيا في الدقهلية    يمنحهم الطاقة والنشاط.. 3 أبراج تعشق فصل الصيف    مدرب يد الزمالك يوجه رسائل تحفيزية للاعبين قبل مواجهة أمل سكيكدة الجزائري    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    استجابة لشكاوى المواطنين.. حملة مكبرة لمنع الإشغالات وتحرير5 محاضر و18حالة إزالة بالبساتين    بيان مشترك.. أمريكا و17 دولة تدعو حماس للإفراج عن جميع الرهائن مقابل وقف الحرب    وزير الرياضة يشهد انطلاق مهرجان أنسومينا للألعاب الإلكترونية    دعاء الاستخارة بدون صلاة .. يجوز للمرأة الحائض في هذه الحالات    مدرب صن دوانز: الفشل في دوري الأبطال؟!.. جوارديولا فاز مرة في 12 عاما!    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    إصابة سيدة وأبنائها في حادث انقلاب سيارة ملاكي بالدقهلية    جامعة حلوان توقع مذكرتي تفاهم مع جامعة الجلفة الجزائرية    طريقة عمل مافن الشوكولاتة بمكونات بسيطة.. «حلوى سريعة لأطفالك»    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    مشايخ سيناء في عيد تحريرها: نقف خلف القيادة السياسية لحفظ أمن مصر    الرئيس السيسي: خضنا حربا شرسة ضد الإرهاب وكفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة    أبطال سيناء.. «صابحة الرفاعي» فدائية خدعت إسرائيل بقطعة قماش على صدر ابنها    مستقبل وطن: تحرير سيناء يوم مشهود في تاريخ الوطنية المصرية    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    خبير في الشؤون الأمريكية: واشنطن غاضبة من تأييد طلاب الجامعات للقضية الفلسطينية    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    ملخص أخبار الرياضة اليوم.. إيقاف قيد الزمالك وبقاء تشافي مع برشلونة وحلم ليفربول يتبخر    الهلال الأحمر يوضح خطوات استقبال طائرات المساعدات لغزة - فيديو    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا أقسم الله بالشام ومصر ومكة في سورة التين؟
دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (13)
نشر في الشعب يوم 17 - 12 - 2017


قل لي: من يحكم القدس؟ أقل لك: من يحكم العالم!
شجرة الدر كانت أعظم من كثير من الحكام الرجال
(هذه دراسة غير منشورة وغير مكتملة بعد لمجدي حسين رئيس حزب الاستقلال ورئيس تحرير جريدة الشعب الذي يقبع الآن مغيبا خلف أسوار السجون بأحكام ظالمة وغير دستورية.. لقد تم ترتيب الجزء المكتوب من الدراسة في حلقات وسننشر تباعا الحلقات الموجودة لدينا لحين خروجه من محبسه وإكمال عطائه الفكري والسياسي والذي نأمل أن يكون قريبا بإذن الله..).
توقفنا عند شرح أسباب الدور القيادي لمصر خاصة في المعارك الفاصلة، بمناسبة استخدام صلاح الدين لمصر كمقر للحكم وكقاعدة لمحاربة الصليبيين وقصم ظهرهم في حطين ثم فتح القدس، وأشرنا إلى (1) حجم مشاركة المصريين في المعارك. (2) الجيش الخارج من مصر هو الذي يقاتل الصليبيين في المعارك الكبرى. (3) مصر قاعدة مستقرة ونواصل في هذه النقطة الجوهرية، وكنا قد ذكرنا أن قول سيدنا يوسف (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) كانت تشير إلى معاني عامة عن مصر وإلا كان بإمكانه أن يقول لأهله أنتم هنا آمنون في ظل حكمي أو أي عبارة أخرى لا تشير إلى مصر. ونرى جازمين أن أي كلمة توضع في القرآن بميزان أدق من الذهب، بميزان رباني. ففي حياة البشر إذا أشاد الحاكم بوزير فإن هذا يكون من علامات سعده وتثبيته في الحكم. فكيف بالخطاب الرباني الذي يذكر بلداً بالاسم (وحدها)، ويقرنها بالأمان والأمن في مرة من المرات. ويقول المفسرون عادة أن القصص القرآني منزوع منه كل التفاصيل غير المؤثرة ولا يترك فيه إلا مواضع العبرة والتوجيه.
من أهم أسباب حالة الأمن والاستقرار في مصر هو حالة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي القديم حول النهر منذ آلالاف السنين. فالمصري غير قلق على قوُته كالبدوي الذي ينتظر المطر او يبحث عن المرعى هنا وهناك. وأيضا النهر خلق علاقة مصلحة مستقرة بين الحاكم والمحكوم، فالحاكم ينظم الري ويشرف على تقسيم الأراضي وهو مشتري للمحصول (دعك من أي مظاهر للظلم المقترن بالانسان فنحن نركز الآن على القواعد العامة) وهو أيضا يحفظ الأمن، ونهر النيل من أكثر أنهار العالم هدوءاً واستقراراً من حيث سرعة تدفقه وانتظام فيضانه والفيضان كان يغرق القرى فيذهب الفلاحون إلى أماكن مرتفعة، ثم يعودون بعد انحسار المياه لاعادة توضيح حدود الملكية بين الأفراد وهذا أيضا دور الدولة. تبدأ الزراعة الحيضية بعد أن غسل النهر الأرض وزودها بالمزيد من الطمي.
لا تخلو الحياة من مشكلات فالفيضان قد يكون عاليا أكثر من المعتاد او أقل من المعتاد ولكن هذه التقلبات التي تأخذ شكل الدورات (كدورة سيدنا يوسف او التي اكتشفها من خلال تفسير حلم ملك) هي اهون بكثير خاصة إذا تمت مواجهتها بهذا الأسلوب (الذي اتبعه سيدنا يوسف في تخزين الحبوب وقد كشفت الآثار بعض هذه المخازن)، أهون من مشكلات حياة البداوة والقنص والاعتماد على المطر.
انبساط الأرض وانفتاحها على بعضها البعض ووجود النهر كوسيلة نقل وانتقال سريع. كل هذا ساعد على التوحيد الجغرافي ومن ثم النفسي للمصريين، والتوجه الجماعي بحثاً عن الله الواحد الأحد .
وفي التاريخ المكتوب لم نجد حتى الآن أي تراث يذكر للأنبياء رغم اننا على ثقة من تعددهم في مصر قد ذكر القرآن منهم: موسى وهود ويوسف وما يروى عن ادريس.
في مناطق الشام والعراق نجد واقعاً مختلفا رغم وجود نهري دجلة والفرات فإن عوامل معاكسة عديدة منعت الاستقرار (سنتحدث عنها فيما بعد ان شاء الله). وظلت حتى الان تعاني من حالة فسيفساء شديدة: ستجد كل المذاهب والأديان والملل في لبنان الصغيرة، كذلك في سوريا والعراق وحتى تركيا وإيران، كذلك في فلسطين وإن كانت أقلهم تشرذما وأقرب إلى مصر من حيث الانسجام الداخلي، بل لقد انتجت هذه المناطق مذاهب جديدة غير موجودة في العالم (مثل المارونية اللبنانية) هذا بالاضافة إلى التداخل العرقي: أكراد- تركمان (أتراك)- عرب- أرمن. وتساهم البيئة الجبلية في الحفاظ على هذا التعدد حيث تعتصم بعض الفئات في أعلى الجبال في مواجهة أعتى القوى وتستطيع أن تحيا وتبقى وتحمي نفسها من الفناء أو الذوبان (النصيرية كمثال) والخيرات كثيرة تغري أي طائفة أو حاكم مدينة ليعلن استقلاله ودولته الخاصة. كما حدث في مرحلة دولة المدينة في أوروبا في العصور الوسطى.
في العراق سنجد الفسيفساء في الشمال، أما في الوسط والجنوب فسنجد انقسام الشيعة والسنة كافيا- إذا لم يعالج على خير وجه- إلى احداث صراع وتصدعات إلى أبد الدهر.
في عهد عماد الدين زنكي ونور الدين زنكي وصلاح الدين، كان جنوب العراق مع الخليفة العباسي أما الشمال فهو بين الأكراد والتركمان والعرب، كما أن كل مدينة ترى نفسها جديرة بالاستقلال.. سنجد الموصل أشهرهم، وفي الشام، دويلات دمشق وحلب، والدول الساحلية، فكل ميناء مشروع دولة! حتى الصليبيين حين جاءوا دخلوا في نفس المنظومة، فلم تكن لهم دولة موحدة، فكانت إمارات الرها- أنطاكية- القدس- إمارات الساحل ومستوطنات متناثرة هنا وهناك تتمترس حول أو داخل تحصينات وقلاع.
وهكذا كان اختلاط الأوراق في صندوق الشام مستمرا بشكل يومي أو اسبوعي أو شهري فتجد تحالف بين إمارة اسلامية وإمارة صليبية ضد إمارة إسلامية اخرى وهكذا. لذلك لعب عماد الدين ثم نور الدين ثم صلاح الدين دوراً رهيبا في توحيد هذا الشتات ضد الصليبيين، واحتاج الأمر لاستخدام القوة في العديد من المرات.
في مصر بعد انتهاء الصراع بين أجنحة حكم الفاطميين استقرت الأوضاع تماماً، فمصر تشهد صراعات سلطة أكثر من أي نوع آخر من الصراعات، وصراعات السلطة عادة لا تطول لأنها إذا طالت تؤدي إلى انهيار الدولة على رؤوس جميع المتصارعين، ولذلك نجد أن الحاكم الفاطمي (العاضد) هو الذي استدعى أسد الدين شيركوه ليحكم مصر وينهي هذه الصراعات، بعد ذلك لن نسمع عن أي مشكلات تذكر في الداخل المصري.
فالشعب المصري في ذلك الوقت أصبحت أغلبيته مسلمة سنة شافعية وقد عزز الأيوبيون المذهب الشافعي. والمسيحيون يمارسون حياتهم بصورة طبيعية لا تختلف اجتماعياً عن سلوكيات المسلمين والأصل لدى الكنيسة المصرية عدم التدخل في السياسة على عكس الوضع الراهن وهو جديد!
إذن لا توجد في مصر أسس للتناحر بين اقليم واقليم أو بين عرق وآخر او بين قبيلة وأخرى...الخ، والأغلبية الساحقة مزارعون وقلة شديدة بدو بالاضافة لقلة أخرى في العمل الاداري.
(4) من الناحية العسكرية مصر محمية بالبحار والصحراء ولا يمكن مفاجأتها بالغزو إذا كان نظام الحكم متيقظا وكانت حالة المجتمع متماسكة، (هذا على خلاف الأوضاع في العراق والشام) هذا من الناحية الدفاعية. ومن الناحية الهجومية يمكن ان تقوم بنفسها بدور كسارة البندق على مناطق الشام، فهي تستطيع الهجوم عبر طريق بري منبسط يجعلها فوراً في قلب الشام. ويمكن ان تستخدم في نفس الوقت أسطولاً بحريا لمهاجمة الشام (أقصد عندما يكون محتلاً بالصليبيين او غيرهم) من البحر، وقد استخدم الأيوبيين أسلوب الجمع بين الهجوم البري والبحري.
(5) من الناحية الاقتصادية مصر تملك مفاتيح التجارة العالمية فهي تملك إغلاق البحر الأحمر على من تريد من مضائق تيران حتى باب المندب (عندما تكون في حالتها الصحية الطبيعية)، كما أن معظم التجارة الآسيوية كانت تأتي عن طريق السويس ثم تنقل براً لدمياط أو الاسكندرية لتكمل طريقها بحراً إلى اوروبا، وكذلك بالعكس. وكان هذا هو الطريق الأساسي وليس طريق البر (الحرير) لأنه غير آمن دائما. وسنرى كيف استخدمت مصر هذا السلاح في الصراع الدولي في عهد المماليك. كذلك ففي فترات النفوذ المصري في الشام فإن مصر تتحكم أيضا في طريق التجارة البرية القادمة من الخليج أو من أعماق آسيا إلى موانئ الشام.
وسنرى كيف تتفاعل هذه العناصر كلها معاً في المراحل التالية.
المهم أن العلاقة المثلثة بين الجزيرة العربية ومصر والشام قد تم الاشارة إليها في سورة التين، فالرأي الغالب لدى المفسرين القدامى والمعاصرين ، أن التين والزيتون تشير إلى الشام، وطور سنين هي مصر بوضوح "وهذا البلد الأمين" تشير إلى مكة، وقد ذكرنا من قبل أن 3 أماكن في المستطيل يرد ذكرها مكرراً في القرآن أكثر من غيرها وهم على الترتيب: (الجزيرة العربية- ثم مصر ثم الشام. فالجزيرة عمود فقري العقيدة (مكة) وعلى أرض الشام تجري المعارك الفاصلة، والقيادة عادة تكون لمصر في هذه المعارك. ولقد أقسم الله بالثلاثة معاً في ثلاث آيات متتالية في إشارة إلى الارتباط العضوي بينها، وإلى أهميتها وقدسيتها عند الله.
*************
ضياع القدس بعد وفاة صلاح الدين:
ذكرت من قبل أن الفاصل الأخير من حياة صلاح الدين كان حزينا نسبياً لولا أهمية الموضوع بالنسبة لدراستنا ما تطرقت إليه، بالاضافة إلى انني أفرق بين نوعين من الدراسات:
(1) دراسة للشباب والنشأ والاعلام والمناهج الدراسية المدرسية فهذه تركز على الجوانب المضيئة لأنها هي الأساس. (2) دراسة للمتخصصين لابد أن تتناول كل شيئ، بالدراسة والتحليل. وأنا أعتبر أن قراء مثل هذه الدراسة في الانترنت هم من القيادات السياسية الجادة واعتبرهم من المتخصصين أو مشروع متخصصين وعموماً المستوى الثقافي الأعلى من القراء.
كما لن أتناول كل مظاهر الحزن في أواخر حياة صلاح الدين إلا ما يتعلق بدراستنا (المستطيل والرؤية الاستراتيجية)، باختصار فإن مظاهر ضعف الدولة الأيوبية ظهرت في أواخر حياة صلاح الدين عندما أضطر لمواجهة الحملة الصليبية الثالثة التي جاءت من أوروبا وهي fresh أي غير منهكة بالمعارك. وحدث ما ذكرنا حيث هزم صلاح الدين في معركة الرملة، وعقد صلح الرملة. وخلاصة الأمر أن الصليبيين استعادوا الساحل ولكن صلاح الدين ظل متمسكا بالقدس.
كانت عناصر ضعف الدولة الأيوبية في أشقاء وأبناء صلاح الدين الذين لم يكن معظمهم على مستوى صلاح الدين. المهم بعد وفاة صلاح الدين بفترة ما استعاد الصليبيون القدس لمدة 11 عاما، ولم يتم هذا بمعركة حربية ولذلك لم يشتهر الأمر في كتابات التاريخ المختصر. ولكننا فقدنا القدس في إطار عمليات مساومة وتفاوض وفي ظل خلل في موازين القوى بسبب بعض الخونة من أمراء الشام. ولكن الملك الصالح (وهو اسم على مسمى) نجم الدين وآخر الحكام الأيوبيين الكبار استعاد القدس عام 1244 م، بمساعدة الدولة الخوارزمية.
في هذه المرحلة أدرك الصليبيون بشكل متزايد أهمية مصر من الناحية الاستراتيجية فرأوا ألا يحاولوا من جديد استعادة القدس، لأنهم لن يستقروا في الشام أو في القدس إلا إذا تخلصوا من الصداع المصري. فلابد من احتلال مصر. وهذه الفكرة كانت موجودة دائماً، ولكنها أصبحت ملحة أكثر، كما بدا للصليبيين انها ممكنة أكثر في مرحلة ما بعد صلاح الدين. وتعددت الغارات الصليبية البحرية على مصر واستخدمت قبرص كمحطة صليبية لكل أوروبا، كما عمل ملك قبرص بالأصالة عن نفسه مجموعة من الغارات، عندما لاحظ الضعف المصري. فقام ملك قبرص (لاحظ الهوان الذي أصبحت فيه مصر) بالاعتداء عى مصر1204 م واجتاح مصر من خلال فرع رشيد حتى فوة، وهو لا يملك أن يحتل مصر، فيقوم بعمليات تخريب ويعود محملاً بالغنائم. وتظل سفنه تعتدي على السفن المصرية في البحر حتى وإن كانت سفنا تجارية، كان هذا في عهد العادل الأيوبي وفي عهده أيضا حدث هجوم صليبي آخر على دمياط 1218 وشاركت قبرص فيه، ولكن الحملة فشلت في تثبيت أي موضع لقدم. ثم جاءت الحملة الكبرى بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا عام 1248 والتي انطلقت من قبرص وشارك فيها ملك قبرص.
وهكذا نرى كيف أن جزر شرق البحر المتوسط كانت خنجراً في ظهر المسلمين، ونرى من الأخطاء الاستراتيجية لكل مراحل حكم المسلمين انهم لم يهتموا بهذه الجزر واستصغروا شأنها، وكانوا يضربونها وينسحبون، ولم يبذلوا أي جهد ملحوظ لنشر الدعوة الاسلامية أو توطين المسلمين بها: قبرص- مالطة- سردينيا- كريت- صقلية هي أبرزها. ولا نجد الآن سوى قسم مسلم تركي في قبرص. المهم لقد ظلت هذه الجزر محطات للحملات الصليبية والاستعمارية حتى العصر الحديث. ويأتي إهمال المسلمين لهذه الجزر في إطار عدم إعطاء أهمية كافية للقوة البحرية عدا الدولة العثمانية ولكنها ظلت حتى النهاية أقرب إلى القوة البرية منها إلى القوة البحرية.
المهم أن الملك الصالح دافع عن القدس والتواجد الاسلامي في الشام ودافع عن مصر، ولكنه سار في نفس الطريق الذي بدأ في عهد صلاح الدين وهو استجلاب المماليك من آواسط آسيا، وسميت في عهده المماليك البحرية لأنها كانت تتركز في قلعة الروضة بجزيرة الروضة. قصة حملة لويس التاسع معروفة وأحسب أنها تدرس في المدارس ولكن بدون تفصيل كاف ، فهي ملحمة رائعة للمقاومة الشعبية وتلاحم الدولة مع الشعب وظهور الدور الحربي للمماليك سواء احببنا ذلك أم لا، فهذا هو التاريخ. معارك المقاومة بدأت من دمياط وتواصلت حتى المنصورة، وتستحق أن تدرس بالتفصيل في المدارس وفي الكليات الحربية وأيضا لدى فصائل المقاومة. لست مؤرخاً وهذه الدراسة ليست للتأريخ ولكن وبهذه المناسبة أرجو لمن يتحدث عن شجرة الدر أن يتحدث باحترام ولا يحولها لمادة فكاهية كما يحدث بمناسبة الطريقة التي ماتت بها. لأن هذا من علامات احتقار النفس، حين تحتقر شخصية محترمة من تاريخك.
فشجرة الدر سيدة عظيمة كانت أمة (لم تكن حرة) وتزوجها الملك الصالح وأحبها، وعندما أصابه مرض عضال في ظل الهجمة الصليبية قامت بدور نادر في التاريخ وهو إخفاء موته حتى لا تتأثر المعنويات في القتال ولكنها أبلغت كبار القادة العسكريين (المماليك). وهي لم تكن متهافتة على الحكم، بل تصرفت بصورة عاقلة وأرسلت إلى ابن الملك الصالح (توران) ليأتي من الشام ويتولى الحكم رغم أن علاقتها به لم تكن جيدة، وقد جاء بالفعل وتسلم الحكم.
المعركة حسمت في المنصورة وهزم الصليبيون وتم أسر لويس التاسع ملك فرنسا. ولم يكن توران صالحا للحكم.
المهم حدثت تطورات عدة اضطرت شجرة الدر أن تحكم مصر حوالي 80 يوما بعد ان قتل المماليك توران. ومن الطريف أن الخليفة العباسي أرسل رسالة شديدة اللهجة لحكام مصر قال فيها: "ان لم يكن لديكم رجل يحكم البلاد فأرسلوا لنا كي نبعث لكم رجلاً".! ويطرب البعض لهذه الكلمة ولكنهم لا يتذكرون أن قائلها هو نفسه كان يحتاج رجلا ليحكم بغداد بدلا منه لأنه بعد 10 سنوات ستحدث كارثة اجتياح المغول لبغداد وسنرى موقفه المخزي. هذا دين لشجرة الدر في عنقي، أديته لها، ولا أرى خطأ شرعياً في تولي امرأة لإحدى الولايات أو المحافظات إذا كانت أهلا لذلك، أو ادت الظروف إلى ذلك ولو بصورة مؤقتة فهذه ليست الإمامة العظمى. وإذا كان الرأي الآخر أي رفض تولي المرأة لأي ولاية أو محافظة مطلقا هو الأرجح عند البعض فلا أرى إلا الحديث عن شجرة الدر باحترام بقدر ما قدمته لمصر وللمسلمين ولحسن تصرفها في واحدة من أكبر الأزمات. وسنرى ماذا فعل المماليك الذين ورثوها؟ وكيف قتلوا بعضهم بعضا حتى في ظل المعارك مع الصليبيين والتتار.
المهم لقد طويت صفحة الدولة الأيوبية بمقتل توران ابن الملك الصالح وبدأ عهد المماليك. ولكن الأيوبيين سلموا مصر ومعظم الشام والقدس في يد المسلمين واستلم المماليك المستطيل القرآني كاملاً عدا الساحل الشامي المحتل، وأعلنوا ولائهم للخليفة العباسي وهو ولاء شكلي وكان الحكم في المستطيل للمماليك حتى مجيئ العثمانيين.
لماذا ظلت القدس تتأرجح؟
هذه مقولة أذكرها وأنا مغمض العين.."قل لي من يحكم القدس..أقل لك من يحكم العالم!"
في هذه اللحظة كانت القدس تحت السطرة الفعلية لمصر، والتبعية الاسمية للخلافة العباسية بدون تعارض.
أقول هذا بمناسبة تأرجح القدس بين الصليبيين والمسلمين عقب وفاة صلاح الدين. فالصليبيون يعلمون أن السيطرة على القدس ضرورة لتثبيت حكمهم في المشرق وهذا التأرجح للقدس لسنوات معدودة بين الطرفين يؤكد وجود خلل في توازن القوى. ولكن عودة القدس إلى أحضان المسلمين كان علامة مطمئنة أنهم سيظلون يحكمون المستطيل الأوسط في المدى المرئ وهذا ما حدث.
عندما كانت مصر هي الدولة الأولى في العالم كانت القدس (أورشليم) تابعة لها. وعندما تعرضت مصر للغزو كان الغزاة يضعون تاج القدس على رؤسهم أولاً. (المعلومات التالية من كتاب (انحطاط وسقوط الامبراطورية الرومانية للمؤرخ الانجليزي إدوارد جيبون)
- عندما قام بختنصر ملك بابل في 546 ق.م باحتلال المستطيل أي مركز العالم- أحرق بيت المقدس وأسر اليهود وحملهم إلى بابل.
- عندما جاء الرومان بعد الميلاد استولوا على بيت المقدس في 70 م
- وعندما قامت ثورة لليهود في عام 132 م قمع الامبراطور هادرين الثورة وطرد اليهود من القدس وأنشأ مدينة على أطلال مدينة القدس المحترقة.
- انتصار الفرس الذي أشار إليه القرآن في سورة الروم كان في عام 616 م وأدى إلى أسر 50 ألف رومي واستولى الفرس على أورشليم (القدس) وأحرقوا كنيسة القيامة (مدفن المسيح وفقا لعقيدتهم) وكنائس أخرى ونهبت النذور والأوقاف الدينية ونقل الصليب الأصلي- كما يتصورون إلى إيران وقتل 90 ألف نسمة وسقطت انطاكية العاصمة الشرقية، وواصل الفرس فاستولوا على مصر (ليستكملوا السيطرة على المستطيل وامتدت حدود الدولة الفارسية إلى الحبشة وطرابلس الغرب ومختلف المستعمرات البيزنطية وكثير من مناطق أفريقيا. واستمرت المخيمات العسكرية الايرانية أمام القسطنطينية 10 سنوات. ولو كانت إيران تملك أساطيل لاحتلت ما تبقى من الولايات البيزنطية. وانحصرت الدولة البيزننطية في أسوار القسطنطينية (الحصينة والتي دوخت المسلمين بعد ذلك) وفي بعض مناطق اليونان وإيطاليا وأفريقيا بالاضافة لبعض القرى الساحلية مثل صور وطرابزون. وقد أدى سقوط مصر التي كانت تورد للرومان القمح وشتى أنواع الحبوب وكانت توزع مجانا على أهل روما وما حولها منذ عام 303 م ، أدى سقوط مصر إلى توقف هذا التموين بدءاً من عام 618 م.
وبعد 9 سنوات كما ذكر القرآن الكريم، وكما أوضح الرسرل صلى الله عليه وسلم لأبي بكر فإن "بضع" تعني من 3 إلى 9 سنوات. وكان أبو بكر قد راهن في البداية على 5 سنوات مع المشركين (راجع القصة في السيرة) بعد 9 سنوات بالضبط أي 625 م قام هرقل ( والذي كان في الأصل حاكم فاشلا) بهجوم مضاد عبر الأناضول وكردستان ونهر دجلة ونينوي والمدائن ووصل إلى قلب بلاد فارس!
وقد ورث الرومان - من اليونان – الصراع مع فارس حول القدس، فقد كان يتم تداول السيطرة عليها بين الطرفين في بدايات القرن الأول الميلادي كإغارة (أنطونيوس الرابع- أو أبيقانس) ملك أنطاكية اليونانية على بيت المقدس 168 م. بل ظل اليونان والرومان يتبادلان الهجوم على القدس وانتزاعها من الفرس. وقد حدث ذلك بين اليونان والفرس قبل الميلاد وكانت اليونان تسمى (الحضارة الهلستينيىة) هذا وفقا للتقويمات الغربية التي تستبعد فارس وغيرها من الحضارات من التصنيف التاريخي لتطور الحضارات. بل يصل الأمر أحيانا لاستبعاد الحضارة المصرية والعراقية، ويقولون أن الحضارة الانسانية بدأت بالمرحلة الهلستينية. وقد كان كارل ماركس مؤسس النظرية الماركسية يحتقر ما أسماه النمط الآسيوي للانتاج، ويعتبر الحضارات التي نشأت حول الأنهار في مصر والعراق والهند والصين حضارات استبدادية متخلفة لم تولد أي نوع من التقدم. أما ما ذكرناه عن التقارير الغربية التي تؤكد أهمية وأصالة الحضارة في مصر وبلاد الرافدين، فهذه من انتاج الأكاديميين غير المصنفين أيديولوجيا، والأمناء علمياً.
وأخيراً رأينا كيف كانت القدس أشبه بالكرة الملتهبة التي تتبادلها القوى المسيطرة على العالم. ونعود فنقول: قل لي من يحكم القدس.. أقل لك من يحكم العالم.


اقرأ أيضًا : -
* ·المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (1)
* ·دراسة المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- الحلقة (2)
* ·آدم يمني..نوح عراقي..أيوب مصري..إلياس فلسطيني
* ·نوح عاش في المستطيل.. دلائل قرآنية إضافية
* ·لماذا مصر في رباط إلى يوم الدين؟
* ·مصر هي البلد الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن
* ·بعثة محمد (ص) وضعت الشرق الأوسط في البؤرة
* ·هنا.. يجري استعداد أمريكا واليهود لمعركة نهاية العالم
* انجيل أمريكا: مصر والشرق الأوسط أساس السيطرة على العالم
* رسول الله لم يسع إلى إقامة دولة اسلامية بالحبشة
* البابا يدعو لتحرير القدس من قبضة المسلمين الأنجاس
* الفاطميون يندفعون كالاعصار من طنجة إلى مكة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.