مؤتمر كيفو: نتسلح بالتواضع ضد مونتيري.. والإيطاليون مهووسون بخطة اللعب    محافظ الأقصر يوجه بصيانة صالة الألعاب المغطاة بإسنا (صور)    بعد تراجعه 95 جنيها.. سعر الذهب يرتفع بحلول التعاملات المسائية اليوم    النيابة تعاين منازل المتضررين بسبب تسريب الصرف الصحى بسوهاج    وزير البترول يستعرض الفرص الاستثمارية في مصر خلال قمة تحول الطاقة باليونان    50 شهيدا في مجزرة بحق مُنتظري المساعدات بخانيونس..وحماس :الولايات المتحدة تدعم "مصائد الموت" بغزة    وزير الخارجية يجري اتصالين هاتفيين بنظيره الإيراني ومبعوث الرئيس الأمريكي    معلمو الحصة فوق 45 عامًا يُطالبون بتقنين أوضاعهم وتقدير جهودهم    ترامب: لدينا الآن سيطرة كاملة وشاملة على الأجواء فوق إيران    بعد المطالبة بترحيلها.. طارق الشناوي يدعم هند صبري: محاولة ساذجة لاغتيالها معنويًا    الشيخ خالد الجندي يروي قصة بليغة عن مصير من ينسى الدين: "الموت لا ينتظر أحدًا"    من سرقة بنك إلى المونديال.. الحكاية الكاملة لصن داونز وملهمه يوهان كرويف    خاص ل "الفجر الرياضي" | ريال مدريد سيوقع مع هذا اللاعب عقب المونديال (مفاجأة)    الجيش الإسرائيلي: إيران أطلقت 400 صاروخ حتى الآن    التعليم العالى تعلن فتح باب التقدم للمنح المصرية الفرنسية لطلاب الدكتوراه للعام الجامعى 2026    "فوربس" تختار مجموعة طلعت مصطفى كأقوى مطور عقاري في مصر    نائب محافظ الدقهلية يتفقد الخدمات الصحية وأعمال التطوير والنظافة بمدينة جمصة    مصرع شاب في حادث دراجة بخارية بالمنيا    بحضور أسر الصحفيين.. عروض مسرح الطفل بقصر الأنفوشي تحقق إقبالًا كبيرًا    رصاصة غدر بسبب الزيت المستعمل.. حبس المتهم بقتل شريكه في الفيوم    "أكبر من حجمها".. محمد شريف يعلق على أزمة عدم مشاركة بنشرقي أمام إنتر ميامي    قرار مهم من "التعليم" بشأن سداد مصروفات الصفوف الأولى للعام الدراسي 2026    رئيسة «القومي للبحوث»: التصدي لظاهرة العنف الأسري ضرورة وطنية | فيديو    «البحوث الإسلامية»: الحفاظ على البيئة واجب شرعي وإنساني    "المدرسة البرتغالية".. نجم الزمالك السابق يطلق تصريحات قوية بشأن الصفقات الجديدة    "الحرية المصري": نخوض الانتخابات البرلمانية بكوادر على غالبية المقاعد الفردية    محافظ أسيوط يستقبل السفير الهندي لبحث سبل التعاون - صور    درة تحتفل بتكريمها من كلية إعلام الشروق    الخميس.. جمعية محبي الشيخ إمام للفنون والآداب تحتفل بالذكرى ال30 لرحيله    معهد ستوكهولم: سباق تسليح مخيف بين الدول التسع النووية    بدء الجلسة العامة للبرلمان لمناقشة الموازنة العامة    محافظ المنيا يُكرم مديرة مستشفى الرمد ويُوجه بصرف حافز إثابة للعاملين    نجاح طبي جديد: استئصال ورم ضخم أنقذ حياة فتاة بمستشفى الفيوم العام    عرض غنوة الليل والسكين والمدسوس في ختام الموسم المسرحي لقصور الثقافة بجنوب الصعيد    مهرجان الإسكندرية الدولي للفيلم القصير يواصل تألقه بعرض خاص في القاهرة    التعليم العالي: جهود مستمرة لمواجهة التصحر والجفاف بمناسبة اليوم العالمي    تأجيل محاكمة متهمين بإجبار مواطن على توقيع إيصالات أمانة بعابدين    شملت افتتاح نافورة ميدان بيرتي.. جولة ميدانية لمحافظ القاهرة لمتابعة أعمال تطوير حى السلام أول    محافظ أسوان يشيد بجهود صندوق مكافحة الإدمان فى الأنشطة الوقائية    التعليم الفلسطينية: استشهاد أكثر من 16 ألف طالب وتدمير 111 مدرسة منذ بداية العدوان    زيلينسكي: روسيا هاجمتنا بالطائرات المسيرة بكثافة خلال ساعات الليل    المرور تحرر 47 ألف مخالفة متنوعة خلال 24 ساعة    هشام ماجد يسترجع ذكريات المقالب.. وعلاقته ب أحمد فهمي ومعتز التوني    وزير الرياضة يرد على الانتقادات: دعم الأهلي والزمالك واجب وطني.. ولا تفرقة بين الأندية    محافظ المنيا: استمرار أعمال توريد القمح بتوريد 509آلاف طن منذ بدء موسم 2025    البحوث الفلكية: الخميس 26 يونيو غرة شهر المحرم وبداية العام الهجرى الجديد    دار الإفتاء: الصلاة بالقراءات الشاذة تبطلها لمخالفتها الرسم العثماني    "ليست حربنا".. تحركات بالكونجرس لمنع تدخل أمريكا فى حرب إسرائيل وإيران    CNN: ترامب يواجه ضغوطا متعارضة من إسرائيل وحركته الشعبوية    «الرعاية الصحية» تُعلن توحيد 491 بروتوكولًا علاجيًا وتنفيذ 2200 زيارة ميدانية و70 برنامج تدريب    مستشفيات الدقهلية تتوسع في الخدمات وتستقبل 328 ألف مواطن خلال شهر    أسعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور اليوم    ضبط 18 متهمًا بحوزتهم أسلحة و22 كيلو مواد مخدرة في حملة أمنية بالقاهرة    بدء التشغيل التجريبي لمستشفى طب الأسنان بجامعة قناة السويس    «أمطار في عز الحر».. الأرصاد عن حالة الطقس اليوم الثلاثاء: «احذروا الشبورة»    بعد تلقيه عرضًا من الدوري الأمريكي.. وسام أبوعلى يتخذ قرارًا مفاجئًا بشأن رحيله عن الأهلي    «لازم تتحرك وتغير نبرة صوتك».. سيد عبدالحفيظ ينتقد ريبيرو بتصريحات قوية    ما هي علامات قبول فريضة الحج؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة العلمانية والتنوع الديني: دروس هندية زائفة .. ليس بالدستور وحده تتحقق الديمقراطية!
نشر في الشعب يوم 23 - 07 - 2011

أفرزت تجربة الاستفتاء المصرية الأخيرة، على التعديلات الدستورية أزمة النخب العلمانية، التي كثيرا ما تشدقت بالتعددية والديمقراطية وحرية الممارسة السياسية والمعتقد الديني؛ لتأتي التعليقات على نتيجة الاستفتاء وتطيح بهذه القيم، وتمارس نوعا من الإقصاء من جهة، والديمقراطية الانتقائية من جهة أخرى.
فهذه النخب ترحب بالديمقراطية فقط حين تأتي نتائجها وفق هواها؛ لكن: حين تتفق إرادة الأغلبية على غير هذا الهوى، فإنها ترفض هذه الديمقراطية وتنقلب عليها، وتكفر بأخف مبادئها وطأة على هذه النخب، فتسعى لممارسة سياسة الإقصاء، ضد فصائل تضر بمصالح هذه النخب، وتمارس حجرا على الأغلبية، وتتهمها بالسذاجة وعدم القدرة على اتخاذ القرار الصحيح، لافتقادها الرؤية الثاقبة التي لا تتوفر إلا لهذه النخب التنويرية!!!.
والحقيقة: أن أزمة هذه النخب العلمانية، ليست في مصر وحده ولا في الشرق الأوسط فحسب، بل هي نتاج أزمةٍ تتعرض لها العلمانية في مستوى العالم أجمع، ربما تعصف بالنظرية العلمانية نفسها.
علمانية الإقصاء
تعرضت العلمانية على مدى العقود الثلاثة الماضية للعديد من الانتقادات؛ نتيجة بعض الممارسات الغربية، التي تنم عن حضور الدين في كثير من القضايا السياسية، وهو ما يتنافى مع أسهل مبادئ العلمانية، سواء منها: حظر الحجاب أو النقاب في بعض الدول الأوروبية، أو حظر بناء المساجد، أو غيرها من الممارسات الغربية المناهضة للحريات.
فهذه المجتمعات العلمانية، لم تستطع فصل الدين عن الدولة في كثير من الأحيان، بل غالبا ما تستدعي الدين في قضايا سياسية ومجتمعية، وفي الوقت نفسه لم تنجح في استيعاب التنوع الديني داخلها، وإنما سعت للإقصاء والتمييز، وهو ما يناقض مبدأ المواطنة، الذي تتشدق به هذه المجتمعات.
كل هذا الإخفاق، دعا بعض المتابعين إلى توجيه انتقادات معنوية وأخلاقية حادة للعلمانية الغربية؛ حتى أن هناك من أعلن صراحة: أن الوقت قد حان للتخلي عن العلمانية السياسية، إلا أن المفكر الهندي راجيف بهارجافا[1]، اعتبر أن التجربة الغربية في العلمانية، ما هي إلا وصمة عار في جبين النظرية العلمانية، وأن التجربة الهندية العلمانية، تقدم البديل الأكثر موضوعية، في استيعاب التنوع الديني والطائفي، وعلى الغرب أن يتعلم من التجربة الهندية، خاصة ما يتعلق منها بالسلام بين الطوائف وحقوق الأقليات[2].
وينتقد راجيف بشدة ما يدعيه الغرب، من أن العلمانية الغربية أصبحت محاصرة بالتشدد الديني الإسلامي؛ وأن التهديد الأوحد لها يأتي من الشرق الإسلامي، بدءا من الدولة الدينية في إيران، وما تلاها من ظهور الحركات الإسلامية السياسية، في مصر والسودان والجزائر وتونس وإثيوبيا ونيجيريا وتشاد والسنغال وتركيا وأفغانستان وباكستان؛ وحتى في بنغلاديش.
والواقع كما يرى راجيف:أن هناك الكثير من التحديات التي تواجه العلمانية غير الإسلام؛ فقدظهرت الحركات البروتستانتية، التي تشجب العلمانية في كينيا وجواتيمالا والفلبين، وأصبحت الأصولية البروتستانتية قوة في السياسة الأميركية، كما ظهرت في سري لانكا الحركة القومية السنهالية البوذية، وكذلك القوميون الهندوس في الهند، والمتشددون الدينيون في إسرائيل، والقوميون السيخ في ولاية البنجاب في الهند، وغيرها من الحركات التي تناهض العلمانية، ولا علاقة لها بالإسلام.
خرافة العلمانية
ويؤكد راجيف: أن العلمانية الغربية قد أمَّنت للمواطنين، العديد من الحقوق المدنية والسياسية؛ التي لم يسمح بها الدين في الفترة السابقة من الأخذ بالعلمانية، إلا أن هناك العديد من المشاكل التي أفرزتها العلمانية، ومن أهمها المشاكل: الناجمة عن الهجرات الكثيفة، من المستعمرات الأوروبية السابقة، التي جلبت معها تنوعا دينيا هائلا، نشأ بعده جيل يعيش حالة من الشك المتبادل، وعدم الثقة والعداوة والصراع، وهذا واضح في ألمانيا وبريطانيا، كما وضح في قضية الحجاب في فرنسا، ومقتل المخرج ثيو فان جوخ في هولندا، في أعقاب فيلمه المثير للجدل عن الثقافة الإسلامية.
ويستطرد راجيف في الحديث، عن مظاهر أخرى أفرزتها العلمانية الغربية، حيث أن هذه العلمانية: لم تفعل سوى محاولات هامشية، لتعزيز العلاقات بين الطوائف الدينية، أو الحد من التمييز بينها، ومع ذلك يرى كثيرون: أن العلمانية الغربية ما هي إلا خرافة؛ حيث أصبح التحيز الديني ظاهرة واضحة، في عديد من الدول الأوروبية، كلما تعمق التنوع الديني.
فالدول الأوروبية التي تدعي العلمانية، ظلت تنحاز للمسيحية، ومازالت تمول المدارس الدينية علنا، وتحافظ على رواتب مرتفعة لرجال الدين، وتدريب متميز لهم، كما تمول الكنائس، وتسهل سيطرتها على مساحات شاسعة من الأراضي، باختصار يرى راجيف: أنه لم يكن هناك نزاهة في نطاق الدين، وبالرغم من المساواة الرسمية، فمازال هناك تحيز فعلي للمسيحية، وهو ما يتناقض مع العلمانية.
هل العلمانية دينية؟!
ويتساءل راجيف: لماذا إذاً لا تتخلى الدول الأوروبية عن العلمانية؛ طالما أن الدين مازال محور سياساتها؟
وللإجابة عن هذا السؤال يعرض راجيف لأنموذجين من العلمانية الغربية، الأنموذج الأول: هو الأنموذج الفرنسي، الذي يفصل الدين عن الدولة، مع احتفاظ الدولة بسلطة التدخل في الدين، أي أن العلمانية الفرنسية ببساطة تعني الاستبعاد من جانب واحد، حيث يجوز للدولة التدخل في الدين، سواء بالمساعدة أو بالمنع، ولكن في الحالات جميعاً: هذا التدخل من الدولة يكون لضمان سيطرتها على الدين.
فالدين يصبح الهدف من القانون والسياسة العامة، ولكن فقط من جانب الدولة،وهذا المفهوم نشأ استجابة للهيمنة المفرطة للكنيسة الكاثوليكية في فرنسا؛ وبالتالي سعت الدولة لترويض المؤسسة الدينية، وتهميش الدين تماما، ولكنها في الوقت نفسه لا تمنع طائفة دينية بعينها، أن تهيمن على الطوائف الأخرى، أو حتى تهميشها واضطهادها.
وربما تكون الأقلية المسلمة في أوروبا، الأكثر تعرضا للاضطهاد، فعلى سبيل المثال في بريطانيا، لا يوجد سوى فقط مدرستين إسلاميتين مقابل كل ألفي مدرسة كاثوليكية، وكذلك فشل فرنسا في التعامل مع مسألة الحجاب، و مطالب المسلمين في بناء المساجد، والأمر نفسه في ألمانيا وإيطاليا والدنمرك، أي أن الإسلاموفوبيا تتحكم في المجتمعات الغربية بشدة، وهو ما ينبئ عن احتمال أن ينال المسلمين مزيد من الاضطهاد، بسبب انتمائهم الديني.
أما الأنموذج الثاني للعلمانية الغربية – كما يرى راجيف فهو النموذج الأمريكي، الذي يعني الفصل المتبادل بين الدين والدولة، فلا يتدخل أي منهما في الآخر، كما يوفر للجميع حرية إقامة مؤسساتهم الدينية والحفاظ عليها. كما يعني الأنموذج الأمريكي: الإيمان بحرية الفرد في معتقداته الدينية ، وهذه العلمانية الأمريكية، يجب أن تتحقق في المستويات الثلاث: (أ) الغايات (ب) المؤسسات، والأفراد (ج) القانون والسياسة العامة.
فالمستوى الأول والثاني: يجعلان الدولة غير دينية من الناحية النظرية، أما المستوى الثالث: فيضمن أن الدولة لا تتدخل لصالح الدين لا بالسلب ولا بالإيجاب. فهي لا تتدخل في المسائل الدينية، حتى عندما تنتهك بعض القيم، المعلنة من قبل الدولة ضمن المجال الديني، (مثل المساواة)، فالكونجرس بوضوح تام: لا يملك سلطة التشريع بشأن أي مسألة تتعلق بالدين.
العلمانية الهندية
من أجل ذلك يرى راجيف: أن أزمة العلمانية تكمن في التطبيق الغربي إياها، الذي لا يقوم على احترام التنوع والتعدد الديني، لذا يطرح راجيف الأنموذج الهندي للعلمانية، الذي قام في الأصل على أساس التنوع الديني، ليس هذا فحسب، بل لقد قام على حد قوله: على الالتزام بقيم الحرية والمساواة، بالمعنى الشامل لجميع الطوائف الدينية، إضافة إلى السلام والتسامح بين المجتمعات، وحق الأفراد في اعتناق معتقداتهم الدينية، وإقامة وإدارة المؤسسات التعليمية، التي تحافظ على تقاليدهم الدينية المميزة.
وثمة سمة أخرى للعلمانية الهندية في نظر راجيف، وهي مساواة الطوائف الدينية في الحقوق السياسية كما يكفله الدستور، بالإضافة إلى أن الفصل بين الدين والدولة ليس صارما، بل تحتفظ الدولة ببعض الثغرات، التي تسمح لها بالتدخل لصالح طائفة بعينها، كالتدخل لمنح مساعدات لإقامة معابد أو مدارس لفئات مهمشة. كما تتسم العلمانية الهندية بعدم وجود مؤسسة دينية مهيمنة أو دين معين سائد؛ ولكن للجميع حق ممارسة دينهم بالمساواة نفسها.
إذاً: في نظر راجيف، تختلف العلمانية الهندية عن الغربية، في أن الأخيرة علمانية سياسية، أما الأولى فهي علمانية سياسية واجتماعية، فلا امتياز لفئة على أخرى، في تمويل المدارس ودور العبادة، ولا انتصار لطائفة على أخرى، مع حضور بادي للدين لكل الطوائف في كافة مظاهر الحياة. فالدولة إذاً: تقف على مسافة واحدة من الأديانوالمذاهب جميعاً، وتحتفظ لنفسها بحق التدخل في حالة هيمنة طائفة على أخرى، وتقوم بتوزيع الموارد على بالتساوي الطوائف جميعاً.
وأي امتياز يمنح لطائفة دينية، لابد أن يقابله امتياز مماثل للطوائف الأخرى، على سبيل المثال يعفى السيخ من الالتزام بارتداء خوذة الشرطة الرسمية، ليتمكنوا من ارتداء العمائم الدينية، وفي الوقت نفسه، يسمح لليهود بارتداء العمائم الخاصة بهم، كما يسمح للنساء المسلمات بارتداء الشادور. وكذلك تطبق كل طائفة، القوانين الخاصة بها في شريعتها، سواء في الزواج أو الطلاق أو قوانين الإرث أو الملكية أو التحكيم في المنازعات المدنية، فلا تتدخل الدولة في هذه القوانين، وينطبق ذلك على الطوائف جميعاً.
ويطلق راجيف على هذا النوع من العلمانية مصطلح العلمانية السياقية، على اعتبار أنها تسعى لضمان حقوق كل من الفرد والمجتمع في الوقت نفسه ، وكثيرا ما تنتقد العلمانية الهندية، وتتهم بالتناقض، لما يحويه الدستور الهندي، من مواد خلافية عميقة وغامضة، تشكل الطبيعة العلمانية للدولة الهندية، ولكن حسبما يرى راجيف: فإن هذه الطبيعة المتناقضة واحدة من نقاط القوة العظيمة للعلمانية الهندية، دون أن يوضح كيفية ذلك.
إخفاقات هندية
لكن هل ما يبشر به راجيف، من علمانية هندية، ينبئ بالفعل عن أنموذج مثالي، يحتذى به في الحريات والتعددية الدينية؟
في ظني أنها تجربة زائفة؛ فبالنظر إلى حالة شبه القارة الهندية، لن نجد هذه العلمانية المثالية التي يتحدث عنها راجيف؛ فهناك العنف الممارس ضد المسلمين، والذي شهدناه في جوجارات، وفي هجمات مومباي، وشهدناه في هدم المسجد البابري عام 1992، وفي تحرشات الهندوس المستمرة بالمسلمين ،على مرأى ومسمع من السلطات الحكومية.
وهذه الجماعات الهندوسية المتطرفة، تقوم بقتل عائلات مسلمة بأكملها، وتهدم المساجد وتغتصب النساء وتحرق المسلمين أحياء، وترتكب مجازر وحشية في الأحياء الإسلامية، ليس هذا فحسب بل ما تمارسه الشرطة الهندية، من انتهاك بحق المسلمين لحقوق الإنسان، من اعتقال تعسفي وتعذيب يعبر عن اضطهاد رسمي منظم للمسلمين؛ من قبل الدولة، إضافة إلى ما يمارسه الإعلام الهندي، من تعميق الكراهية تجاه المسلمين، وما يتضمنه من حث للجماعات الهندوسية المتطرفة، على ممارسة أعمالها الوحشية، بحجة مقاومة الإرهاب الإسلامي، وأصبح كل مسلم هندي متهماً بولائه لباكستان.
وينبغي التأكيد على: أن أكثر الممارسات الإرهابية ضد المسلمين في الهند؛ يقوم بها أتباع منظمة "آر إس إس"، التي نشأت عام 1925، على يد السياسي القومي المتطرف الدكتور "كيثورام بلرام هيد كيوار"، واليوم يعد حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي المعارض، الجناح السياسي لهذه المنظمة التي قامت بالعديد من عمليات الاغتيالات.
وهناك قضية كشمير، والممارسات الهندية الوحشية ضد الشعب الكشميري الأعزل، والحرج الذي تقع فيه الحكومة الهندية دوما، حين تتهم بالاستبداد وعدم الديمقراطية، بسبب لجوئها إلى تزوير الانتخابات في كشمي،ر وتحويل العاصمة سرينجار ثكنةً عسكرية أثناء الانتخابات، يعلو فيها صوت الرصاص وتفوح رائحة الدماء.
كل هذا يدفع إلى القول: بأن ما يقدمه راجيف من أنموذج مثالي للعلمانية الهندية؛ لا يمت إلى لواقع بصلة، فالمساواة في الحقوق لا تكفله فقط الدساتير ، بل تضمنه الممارسات العملية، صحيح أن الدستور الهندي من الناحية النظرية، يؤكد أن الهند دولة ديمقراطية علمانية، وأنه يكفل لكل الطوائف حريتهم في حماية لغتهم وثقافتهم، ويمنع سلطات الحكم المحلي إصدار قوانين تفرض ثقافة أو لغة معينة على الأقليات؛ ويساوي بين جميع الطوائف، في التسهيلات الحكومية المقدمة، لتوفير تعليم يعتمد على اللغة الأم لكل طائفة، كما يضع الدستور إطارا لحماية الأفراد من أشكال التمييز، ويمنح الأقليات حرية إنشاء المؤسسات الدينية والتربوية والثقافية.
فهو إذاً: دستور مثالي يضع الهند على رأس الدول الديمقراطية في العالم!!!؛ لكن ليس بالدستور وحده تتحقق الديمقراطية، فالواقع يؤكد هيمنة الهندوس على الدولة، واضطهاد الأقليات الأخرى ،خاصة من المسلمين، الذين يشكلون 12% من الشعب الهندي، فهم محرومون المناصب السيادية كافة، وكذلك المشاركة في الهيئات العسكرية والأمنية، وينالهم العنف والإرهاب، الذي تمارسه جماعات يمينية متطرفة، برعاية حكومية باقتدار.
العلمانية في أزمة
ونعود الآن إلى أزمة العلمانية الغربية، فمع تقديرنا لرأي راجيف حول إخفاق العلمانية الغربية، فإنه ينبغي أن لا ننسى: أن الهدف من الأنموذج العلماني الأمريكي في الأصل، كان حل النزاعات بين الطوائف المسيحية المختلفة، ضمان قدرٍ من المساواة بينها، إلا أن ظهور المسلمين في المجتمع الأمريكي، قد انتقص من هذا الفصل بين الدين والدولة، صحيح أن المسلمين لديهم حرية في أمريكا تمكنهم من ممارسة شعائر دينهم أكثر منها في الدول الأوروبية؛ إلا أن الإسلاموفوبيا مازالت المهيمنة لدى النخب وصناع القرار.
والأمر نفسه ينطبق على أوروبا، إذ أنها قامت بفصل الدين عن الدولة، يوم أن كان الدين واحداً، ولكنها لم تهيأ للتعامل مع التنوع الديني فاصطدمت به، ولم تستطع الاحتفاظ بالمبادئ نفسها، التي دعت إليها لتحييد الدين وفصله عن الحياة السياسية، فوقعت في أزمة حقيقية، بين حرية المعتقد وعدم تدخل الدولة في الدين، أيا كان هذا الدين من ناحية، وبين انحيازها المطلق للمسيحية، الذي يجعلها تطيح بكل المبادئ التي آمنت بها ودعت إليها.
ومازالت الحرب على الإسلام (باسمها الحركي: الحرب على الإرهاب) تنطلق من أيديولوجية دينية متطرفة، تعتبر هذه الحرب حربا صليبية مقدسة، لا يمكن إزاءها أن يتحدث الغرب عن استمرار تمسكه بالعلمانية بمعناها التقليدي؛ فهي إذاً علمانية انتقائية- إقصائية، فالدين لا يُسمح له بالتدخل في الحياة السياسية فقط حين يكون هو الإسلام، أما إن كان المسيحية، فيرحب بها وبتدخلها في السياسة والحكم والحرب بقدر ما.

------------------------------------------------------------------------
[1] Rajeev Bhargava, باحث ومفكر هندي، ورئيس مركز دراسات المجتمعات النامية بدلهي، له العديد من الكتابات حول العلمانية، خاصة العلمانية الهندية.
[2] انظر مقال راجيف بعنوان " الدول والتنوع الديني وأزمة العلمانية" المنشور على موقع أوبن ديموكراسي يوم 22 مارس 2011.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.