الأعلى للإعلام يناقش القضايا والموضوعات المهمة على الساحة الإعلامية    بالصور.. محافظ سوهاج يسلم 25 عقد عمل لذوي الإعاقة ويطلق مشروعين لدعمهم    رئيس الوزراء: الأعاصير الإقليمية تكشف حكمة الرئيس السيسي    فني صحي طنطا يتصدر قائمة تنسيق الثانوية الصناعية 3 سنوات بحد أدنى 99.5%.. النتيجة كاملة    وفد نقابة المهندسين يتابع أعمال المرحلة الثانية من النادي بأسيوط الجديدة    مدبولي: الوصول إلى حجم الإنتاج الأقصى من حقول الغاز خلال 3 أعوام    بتكلفة 65 مليون جنيه.. محافظ الشرقية يفتتح 4 مشروعات جديدة غدًا    موعد صرف مرتبات شهر سبتمبر 2025 للموظفين والأشهر المتبقية بعد بيان المالية    مدبولي: زيادة البنزين المقررة في أكتوبر قد تكون الأخيرة.. ودعم السولار مستمر    نتنياهو: لن نتوقف عن التصعيد في غزة.. وألتقي ترامب قريبا    أسطول الصمود.. جسر بين التضامن العالمى وأجندات الإخوان .. هل يُعيد إحياء نفوذ الجماعة تحت ستار الإنسانية؟    عبد العاطي يؤكد دعم مصر لاتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية    أقدام البدلاء تمنح أرسنال الفوز على أتليتك بلباو    غرفة عمليات وإشراف قضائي.. كل ما تريد معرفته عن اجتماع الجمعية العمومية    أول تعليق من حسام البدري على قرار الخطيب بعدم الترشح لرئاسة الأهلي    محافظ الغربية ومدير الأمن يتابعان ميدانيًا السيطرة على حريق بمصنع سجاد في سمنود    فى الأقصر .. الإعدام ل4 متهمين لاتهامهم بمقاومة السلطات وحيازة مخدرات    الحلقة الرابعة من "ديجافو".. سيف يكشف سرًا مدفونًا ويقلب حياة ليلى رأسًا على عقب    موضة الألوان هذا الخريف.. لمسات عصرية ومتناسقة    الجرائم الأسرية دخيلة على المجتمع المصرى    ماريا كاري تخطف الأنظار بإطلالتها ومجوهراتها الفاخرة في حفل أم أي 2025    ريهام عبد الحكيم: المنافسة صحية وأنغام أقرب الناس لقلبي    فيديو - أمين الفتوى يوضح حالات سجود السهو ومتى تجب إعادة الصلاة    القاهرة تستضيف المؤتمر الدولي الثامن للسكتة الدماغية بمشاركة عربية وإقليمية واسعة    كم يحتاج جسمك من البروتين يوميًا؟    لأول مرة.. رئيس الوزراء يكشف عن رؤية الدولة لتطوير وسط البلد    رونالدو خارج قائمة مباراة النصر و استقلال دوشنبه ضمن منافسات الجولة الأولى من بطولة دوري أبطال آسيا للنخبة    ترامب يعلن التوصل إلى اتفاق مع الصين بشأن "تيك توك"    سفن التغييز .. بُعد استراتيجي للاستمرار في تأمين إمدادات الغاز    عمرو عبدالله يقدم ماستر كلاس عن فلسفة السينوغرافيا في مهرجان الإسكندرية المسرحي (صور)    فسحة تحولت لكارثة.. إصابة سيدتين في حادث دراجة مائية بشاطئ رأس البر    أمين الفتوى يوضح الجدل القائم حول حكم طهارة الكلاب    شن حملات تفتيشية على المستشفيات للوقوف على التخلص الآمن من المخلفات في مرسى مطروح    بعد صعودها لأعلى مستوى في 14 عامًا.. كيف تستثمر في الفضة؟    شاهد تخريج الدفعة 7 من المدرسة القرآنية فى سوهاج    الشيخ خالد الجندى: أبو هريرة كان أكثر الصحابة رواية للسنة النبوية    جماهير مارسيليا ترفع علم فلسطين وتدعم غزة ضد حرب الإبادة قبل مباراة الريال    مراسل "القاهرة الإخبارية" من النصيرات: غزة تباد.. ونزوح جماعى وسط وضع كارثى    "حياة كريمة" تنظم قافلة طبية شاملة لخدمة أهالي القنطرة غرب بالإسماعيلية    افتتاح المؤتمر السابع للشراكة من أجل المبادرات الدولية للقاحات (PIVI) فى القاهرة    طريقة تجديد بطاقة الرقم القومي إلكترونيًا 2025    أمل غريب تكتب: المخابرات العامة المصرية حصن الأمن القومي والعربى    رئيس هيئة النيابة الإدارية يلتقي معاوني النيابة الجدد    8 صور ترصد استقبال زوجه وأبناء حسام حسن له بعد مباراة بوركينا فاسو    برشلونة يعلن مواجهة خيتافي على ملعب يوهان كرويف    هتوفرلك في ساندويتشات المدرسة، طريقة عمل الجبن المثلثات    «شوبير» حزين لجلوسه احتياطيًا في لقاءات الأهلي ويطلب من «النحاس» تحديد مصيره    انتبه.. تحديث iOS 26 يضعف بطارية موبايلك الآيفون.. وأبل ترد: أمر طبيعى    البنك الأهلي المصري يحتفل بتخريج دفعة جديدة من الحاصلين على منح دراسية بمدينة زويل    السكك الحديدية: إيقاف تشغيل القطارات الصيفية بين القاهرة ومرسى مطروح    وزيرة الخارجية البريطانية: الهجوم الإسرائيلي على غزة متهور    مهرجان الجونة السينمائي يمنح منة شلبي جائزة الإنجاز الإبداعي في دورته الثامنة    الأرصاد: انخفاض طفيف فى درجات الحرارة.. وبدء الخريف رسميا الإثنين المقبل    وزير التعليم: المناهج الجديدة متناسبة مع عقلية الطالب.. ولأول مرة هذا العام اشترك المعلمون في وضع المناهج    أمين الفتوى: الشكر ليس مجرد قول باللسان بل عمل بالقلب والجوارح    الغلق لمدة أسبوع كامل.. بدء تطوير نفق السمك بشبين الكوم -صور    بلدية غزة: اقتراب موسم الأمطار يهدد بتفاقم الكارثة الإنسانية بالمدينة    إبراهيم صلاح: فيريرا كسب ثقة جماهير الزمالك بعد التوقف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة العلمانية والتنوع الديني: دروس هندية زائفة .. ليس بالدستور وحده تتحقق الديمقراطية!
نشر في الشعب يوم 23 - 07 - 2011

أفرزت تجربة الاستفتاء المصرية الأخيرة، على التعديلات الدستورية أزمة النخب العلمانية، التي كثيرا ما تشدقت بالتعددية والديمقراطية وحرية الممارسة السياسية والمعتقد الديني؛ لتأتي التعليقات على نتيجة الاستفتاء وتطيح بهذه القيم، وتمارس نوعا من الإقصاء من جهة، والديمقراطية الانتقائية من جهة أخرى.
فهذه النخب ترحب بالديمقراطية فقط حين تأتي نتائجها وفق هواها؛ لكن: حين تتفق إرادة الأغلبية على غير هذا الهوى، فإنها ترفض هذه الديمقراطية وتنقلب عليها، وتكفر بأخف مبادئها وطأة على هذه النخب، فتسعى لممارسة سياسة الإقصاء، ضد فصائل تضر بمصالح هذه النخب، وتمارس حجرا على الأغلبية، وتتهمها بالسذاجة وعدم القدرة على اتخاذ القرار الصحيح، لافتقادها الرؤية الثاقبة التي لا تتوفر إلا لهذه النخب التنويرية!!!.
والحقيقة: أن أزمة هذه النخب العلمانية، ليست في مصر وحده ولا في الشرق الأوسط فحسب، بل هي نتاج أزمةٍ تتعرض لها العلمانية في مستوى العالم أجمع، ربما تعصف بالنظرية العلمانية نفسها.
علمانية الإقصاء
تعرضت العلمانية على مدى العقود الثلاثة الماضية للعديد من الانتقادات؛ نتيجة بعض الممارسات الغربية، التي تنم عن حضور الدين في كثير من القضايا السياسية، وهو ما يتنافى مع أسهل مبادئ العلمانية، سواء منها: حظر الحجاب أو النقاب في بعض الدول الأوروبية، أو حظر بناء المساجد، أو غيرها من الممارسات الغربية المناهضة للحريات.
فهذه المجتمعات العلمانية، لم تستطع فصل الدين عن الدولة في كثير من الأحيان، بل غالبا ما تستدعي الدين في قضايا سياسية ومجتمعية، وفي الوقت نفسه لم تنجح في استيعاب التنوع الديني داخلها، وإنما سعت للإقصاء والتمييز، وهو ما يناقض مبدأ المواطنة، الذي تتشدق به هذه المجتمعات.
كل هذا الإخفاق، دعا بعض المتابعين إلى توجيه انتقادات معنوية وأخلاقية حادة للعلمانية الغربية؛ حتى أن هناك من أعلن صراحة: أن الوقت قد حان للتخلي عن العلمانية السياسية، إلا أن المفكر الهندي راجيف بهارجافا[1]، اعتبر أن التجربة الغربية في العلمانية، ما هي إلا وصمة عار في جبين النظرية العلمانية، وأن التجربة الهندية العلمانية، تقدم البديل الأكثر موضوعية، في استيعاب التنوع الديني والطائفي، وعلى الغرب أن يتعلم من التجربة الهندية، خاصة ما يتعلق منها بالسلام بين الطوائف وحقوق الأقليات[2].
وينتقد راجيف بشدة ما يدعيه الغرب، من أن العلمانية الغربية أصبحت محاصرة بالتشدد الديني الإسلامي؛ وأن التهديد الأوحد لها يأتي من الشرق الإسلامي، بدءا من الدولة الدينية في إيران، وما تلاها من ظهور الحركات الإسلامية السياسية، في مصر والسودان والجزائر وتونس وإثيوبيا ونيجيريا وتشاد والسنغال وتركيا وأفغانستان وباكستان؛ وحتى في بنغلاديش.
والواقع كما يرى راجيف:أن هناك الكثير من التحديات التي تواجه العلمانية غير الإسلام؛ فقدظهرت الحركات البروتستانتية، التي تشجب العلمانية في كينيا وجواتيمالا والفلبين، وأصبحت الأصولية البروتستانتية قوة في السياسة الأميركية، كما ظهرت في سري لانكا الحركة القومية السنهالية البوذية، وكذلك القوميون الهندوس في الهند، والمتشددون الدينيون في إسرائيل، والقوميون السيخ في ولاية البنجاب في الهند، وغيرها من الحركات التي تناهض العلمانية، ولا علاقة لها بالإسلام.
خرافة العلمانية
ويؤكد راجيف: أن العلمانية الغربية قد أمَّنت للمواطنين، العديد من الحقوق المدنية والسياسية؛ التي لم يسمح بها الدين في الفترة السابقة من الأخذ بالعلمانية، إلا أن هناك العديد من المشاكل التي أفرزتها العلمانية، ومن أهمها المشاكل: الناجمة عن الهجرات الكثيفة، من المستعمرات الأوروبية السابقة، التي جلبت معها تنوعا دينيا هائلا، نشأ بعده جيل يعيش حالة من الشك المتبادل، وعدم الثقة والعداوة والصراع، وهذا واضح في ألمانيا وبريطانيا، كما وضح في قضية الحجاب في فرنسا، ومقتل المخرج ثيو فان جوخ في هولندا، في أعقاب فيلمه المثير للجدل عن الثقافة الإسلامية.
ويستطرد راجيف في الحديث، عن مظاهر أخرى أفرزتها العلمانية الغربية، حيث أن هذه العلمانية: لم تفعل سوى محاولات هامشية، لتعزيز العلاقات بين الطوائف الدينية، أو الحد من التمييز بينها، ومع ذلك يرى كثيرون: أن العلمانية الغربية ما هي إلا خرافة؛ حيث أصبح التحيز الديني ظاهرة واضحة، في عديد من الدول الأوروبية، كلما تعمق التنوع الديني.
فالدول الأوروبية التي تدعي العلمانية، ظلت تنحاز للمسيحية، ومازالت تمول المدارس الدينية علنا، وتحافظ على رواتب مرتفعة لرجال الدين، وتدريب متميز لهم، كما تمول الكنائس، وتسهل سيطرتها على مساحات شاسعة من الأراضي، باختصار يرى راجيف: أنه لم يكن هناك نزاهة في نطاق الدين، وبالرغم من المساواة الرسمية، فمازال هناك تحيز فعلي للمسيحية، وهو ما يتناقض مع العلمانية.
هل العلمانية دينية؟!
ويتساءل راجيف: لماذا إذاً لا تتخلى الدول الأوروبية عن العلمانية؛ طالما أن الدين مازال محور سياساتها؟
وللإجابة عن هذا السؤال يعرض راجيف لأنموذجين من العلمانية الغربية، الأنموذج الأول: هو الأنموذج الفرنسي، الذي يفصل الدين عن الدولة، مع احتفاظ الدولة بسلطة التدخل في الدين، أي أن العلمانية الفرنسية ببساطة تعني الاستبعاد من جانب واحد، حيث يجوز للدولة التدخل في الدين، سواء بالمساعدة أو بالمنع، ولكن في الحالات جميعاً: هذا التدخل من الدولة يكون لضمان سيطرتها على الدين.
فالدين يصبح الهدف من القانون والسياسة العامة، ولكن فقط من جانب الدولة،وهذا المفهوم نشأ استجابة للهيمنة المفرطة للكنيسة الكاثوليكية في فرنسا؛ وبالتالي سعت الدولة لترويض المؤسسة الدينية، وتهميش الدين تماما، ولكنها في الوقت نفسه لا تمنع طائفة دينية بعينها، أن تهيمن على الطوائف الأخرى، أو حتى تهميشها واضطهادها.
وربما تكون الأقلية المسلمة في أوروبا، الأكثر تعرضا للاضطهاد، فعلى سبيل المثال في بريطانيا، لا يوجد سوى فقط مدرستين إسلاميتين مقابل كل ألفي مدرسة كاثوليكية، وكذلك فشل فرنسا في التعامل مع مسألة الحجاب، و مطالب المسلمين في بناء المساجد، والأمر نفسه في ألمانيا وإيطاليا والدنمرك، أي أن الإسلاموفوبيا تتحكم في المجتمعات الغربية بشدة، وهو ما ينبئ عن احتمال أن ينال المسلمين مزيد من الاضطهاد، بسبب انتمائهم الديني.
أما الأنموذج الثاني للعلمانية الغربية – كما يرى راجيف فهو النموذج الأمريكي، الذي يعني الفصل المتبادل بين الدين والدولة، فلا يتدخل أي منهما في الآخر، كما يوفر للجميع حرية إقامة مؤسساتهم الدينية والحفاظ عليها. كما يعني الأنموذج الأمريكي: الإيمان بحرية الفرد في معتقداته الدينية ، وهذه العلمانية الأمريكية، يجب أن تتحقق في المستويات الثلاث: (أ) الغايات (ب) المؤسسات، والأفراد (ج) القانون والسياسة العامة.
فالمستوى الأول والثاني: يجعلان الدولة غير دينية من الناحية النظرية، أما المستوى الثالث: فيضمن أن الدولة لا تتدخل لصالح الدين لا بالسلب ولا بالإيجاب. فهي لا تتدخل في المسائل الدينية، حتى عندما تنتهك بعض القيم، المعلنة من قبل الدولة ضمن المجال الديني، (مثل المساواة)، فالكونجرس بوضوح تام: لا يملك سلطة التشريع بشأن أي مسألة تتعلق بالدين.
العلمانية الهندية
من أجل ذلك يرى راجيف: أن أزمة العلمانية تكمن في التطبيق الغربي إياها، الذي لا يقوم على احترام التنوع والتعدد الديني، لذا يطرح راجيف الأنموذج الهندي للعلمانية، الذي قام في الأصل على أساس التنوع الديني، ليس هذا فحسب، بل لقد قام على حد قوله: على الالتزام بقيم الحرية والمساواة، بالمعنى الشامل لجميع الطوائف الدينية، إضافة إلى السلام والتسامح بين المجتمعات، وحق الأفراد في اعتناق معتقداتهم الدينية، وإقامة وإدارة المؤسسات التعليمية، التي تحافظ على تقاليدهم الدينية المميزة.
وثمة سمة أخرى للعلمانية الهندية في نظر راجيف، وهي مساواة الطوائف الدينية في الحقوق السياسية كما يكفله الدستور، بالإضافة إلى أن الفصل بين الدين والدولة ليس صارما، بل تحتفظ الدولة ببعض الثغرات، التي تسمح لها بالتدخل لصالح طائفة بعينها، كالتدخل لمنح مساعدات لإقامة معابد أو مدارس لفئات مهمشة. كما تتسم العلمانية الهندية بعدم وجود مؤسسة دينية مهيمنة أو دين معين سائد؛ ولكن للجميع حق ممارسة دينهم بالمساواة نفسها.
إذاً: في نظر راجيف، تختلف العلمانية الهندية عن الغربية، في أن الأخيرة علمانية سياسية، أما الأولى فهي علمانية سياسية واجتماعية، فلا امتياز لفئة على أخرى، في تمويل المدارس ودور العبادة، ولا انتصار لطائفة على أخرى، مع حضور بادي للدين لكل الطوائف في كافة مظاهر الحياة. فالدولة إذاً: تقف على مسافة واحدة من الأديانوالمذاهب جميعاً، وتحتفظ لنفسها بحق التدخل في حالة هيمنة طائفة على أخرى، وتقوم بتوزيع الموارد على بالتساوي الطوائف جميعاً.
وأي امتياز يمنح لطائفة دينية، لابد أن يقابله امتياز مماثل للطوائف الأخرى، على سبيل المثال يعفى السيخ من الالتزام بارتداء خوذة الشرطة الرسمية، ليتمكنوا من ارتداء العمائم الدينية، وفي الوقت نفسه، يسمح لليهود بارتداء العمائم الخاصة بهم، كما يسمح للنساء المسلمات بارتداء الشادور. وكذلك تطبق كل طائفة، القوانين الخاصة بها في شريعتها، سواء في الزواج أو الطلاق أو قوانين الإرث أو الملكية أو التحكيم في المنازعات المدنية، فلا تتدخل الدولة في هذه القوانين، وينطبق ذلك على الطوائف جميعاً.
ويطلق راجيف على هذا النوع من العلمانية مصطلح العلمانية السياقية، على اعتبار أنها تسعى لضمان حقوق كل من الفرد والمجتمع في الوقت نفسه ، وكثيرا ما تنتقد العلمانية الهندية، وتتهم بالتناقض، لما يحويه الدستور الهندي، من مواد خلافية عميقة وغامضة، تشكل الطبيعة العلمانية للدولة الهندية، ولكن حسبما يرى راجيف: فإن هذه الطبيعة المتناقضة واحدة من نقاط القوة العظيمة للعلمانية الهندية، دون أن يوضح كيفية ذلك.
إخفاقات هندية
لكن هل ما يبشر به راجيف، من علمانية هندية، ينبئ بالفعل عن أنموذج مثالي، يحتذى به في الحريات والتعددية الدينية؟
في ظني أنها تجربة زائفة؛ فبالنظر إلى حالة شبه القارة الهندية، لن نجد هذه العلمانية المثالية التي يتحدث عنها راجيف؛ فهناك العنف الممارس ضد المسلمين، والذي شهدناه في جوجارات، وفي هجمات مومباي، وشهدناه في هدم المسجد البابري عام 1992، وفي تحرشات الهندوس المستمرة بالمسلمين ،على مرأى ومسمع من السلطات الحكومية.
وهذه الجماعات الهندوسية المتطرفة، تقوم بقتل عائلات مسلمة بأكملها، وتهدم المساجد وتغتصب النساء وتحرق المسلمين أحياء، وترتكب مجازر وحشية في الأحياء الإسلامية، ليس هذا فحسب بل ما تمارسه الشرطة الهندية، من انتهاك بحق المسلمين لحقوق الإنسان، من اعتقال تعسفي وتعذيب يعبر عن اضطهاد رسمي منظم للمسلمين؛ من قبل الدولة، إضافة إلى ما يمارسه الإعلام الهندي، من تعميق الكراهية تجاه المسلمين، وما يتضمنه من حث للجماعات الهندوسية المتطرفة، على ممارسة أعمالها الوحشية، بحجة مقاومة الإرهاب الإسلامي، وأصبح كل مسلم هندي متهماً بولائه لباكستان.
وينبغي التأكيد على: أن أكثر الممارسات الإرهابية ضد المسلمين في الهند؛ يقوم بها أتباع منظمة "آر إس إس"، التي نشأت عام 1925، على يد السياسي القومي المتطرف الدكتور "كيثورام بلرام هيد كيوار"، واليوم يعد حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي المعارض، الجناح السياسي لهذه المنظمة التي قامت بالعديد من عمليات الاغتيالات.
وهناك قضية كشمير، والممارسات الهندية الوحشية ضد الشعب الكشميري الأعزل، والحرج الذي تقع فيه الحكومة الهندية دوما، حين تتهم بالاستبداد وعدم الديمقراطية، بسبب لجوئها إلى تزوير الانتخابات في كشمي،ر وتحويل العاصمة سرينجار ثكنةً عسكرية أثناء الانتخابات، يعلو فيها صوت الرصاص وتفوح رائحة الدماء.
كل هذا يدفع إلى القول: بأن ما يقدمه راجيف من أنموذج مثالي للعلمانية الهندية؛ لا يمت إلى لواقع بصلة، فالمساواة في الحقوق لا تكفله فقط الدساتير ، بل تضمنه الممارسات العملية، صحيح أن الدستور الهندي من الناحية النظرية، يؤكد أن الهند دولة ديمقراطية علمانية، وأنه يكفل لكل الطوائف حريتهم في حماية لغتهم وثقافتهم، ويمنع سلطات الحكم المحلي إصدار قوانين تفرض ثقافة أو لغة معينة على الأقليات؛ ويساوي بين جميع الطوائف، في التسهيلات الحكومية المقدمة، لتوفير تعليم يعتمد على اللغة الأم لكل طائفة، كما يضع الدستور إطارا لحماية الأفراد من أشكال التمييز، ويمنح الأقليات حرية إنشاء المؤسسات الدينية والتربوية والثقافية.
فهو إذاً: دستور مثالي يضع الهند على رأس الدول الديمقراطية في العالم!!!؛ لكن ليس بالدستور وحده تتحقق الديمقراطية، فالواقع يؤكد هيمنة الهندوس على الدولة، واضطهاد الأقليات الأخرى ،خاصة من المسلمين، الذين يشكلون 12% من الشعب الهندي، فهم محرومون المناصب السيادية كافة، وكذلك المشاركة في الهيئات العسكرية والأمنية، وينالهم العنف والإرهاب، الذي تمارسه جماعات يمينية متطرفة، برعاية حكومية باقتدار.
العلمانية في أزمة
ونعود الآن إلى أزمة العلمانية الغربية، فمع تقديرنا لرأي راجيف حول إخفاق العلمانية الغربية، فإنه ينبغي أن لا ننسى: أن الهدف من الأنموذج العلماني الأمريكي في الأصل، كان حل النزاعات بين الطوائف المسيحية المختلفة، ضمان قدرٍ من المساواة بينها، إلا أن ظهور المسلمين في المجتمع الأمريكي، قد انتقص من هذا الفصل بين الدين والدولة، صحيح أن المسلمين لديهم حرية في أمريكا تمكنهم من ممارسة شعائر دينهم أكثر منها في الدول الأوروبية؛ إلا أن الإسلاموفوبيا مازالت المهيمنة لدى النخب وصناع القرار.
والأمر نفسه ينطبق على أوروبا، إذ أنها قامت بفصل الدين عن الدولة، يوم أن كان الدين واحداً، ولكنها لم تهيأ للتعامل مع التنوع الديني فاصطدمت به، ولم تستطع الاحتفاظ بالمبادئ نفسها، التي دعت إليها لتحييد الدين وفصله عن الحياة السياسية، فوقعت في أزمة حقيقية، بين حرية المعتقد وعدم تدخل الدولة في الدين، أيا كان هذا الدين من ناحية، وبين انحيازها المطلق للمسيحية، الذي يجعلها تطيح بكل المبادئ التي آمنت بها ودعت إليها.
ومازالت الحرب على الإسلام (باسمها الحركي: الحرب على الإرهاب) تنطلق من أيديولوجية دينية متطرفة، تعتبر هذه الحرب حربا صليبية مقدسة، لا يمكن إزاءها أن يتحدث الغرب عن استمرار تمسكه بالعلمانية بمعناها التقليدي؛ فهي إذاً علمانية انتقائية- إقصائية، فالدين لا يُسمح له بالتدخل في الحياة السياسية فقط حين يكون هو الإسلام، أما إن كان المسيحية، فيرحب بها وبتدخلها في السياسة والحكم والحرب بقدر ما.

------------------------------------------------------------------------
[1] Rajeev Bhargava, باحث ومفكر هندي، ورئيس مركز دراسات المجتمعات النامية بدلهي، له العديد من الكتابات حول العلمانية، خاصة العلمانية الهندية.
[2] انظر مقال راجيف بعنوان " الدول والتنوع الديني وأزمة العلمانية" المنشور على موقع أوبن ديموكراسي يوم 22 مارس 2011.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.