من يتابع مجريات الأحداث المتسارعة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، خصوصا في الضفة المحتلة وقطاع غزة المحاصر، يجد اختلافا شاسعا في التعاطي الفلسطيني مع الصراع الإسرائيلي الجاري، من حيث وسائل الدفاع والمقاومة المتاحة اليوم. ما فسر هذا الاختلاف والعجز أكثر هو تقرير جهاز الأمن العام الإسرائيلي” الشاباك” الذي لفت إلى أن المقاومة في الضفة المحتلة لم تعد كما السابق لاعتبارات عدة أبرزها استمرار التنسيق الأمني، والاعتقال المتكرر لعناصر المقاومة، وبناء جدار الفصل العنصري، وغيرها. بينما في قطاع غزة التي خاضت ثلاثة حروب في غضون ست سنوات ماضية أضحت وسائل المواجهة مع العدو أكثر تكتيكا من الضفة المحتلة، تبعا للظروف المختلفة بينهما. وفي الوقت الحالي اقتصرت مقاومة الضفة على فعاليات مرتبطة ببناء الجدار العازل، أو مقاطعة منتجات المستوطنات، أو حتى ردود فعل مؤقتة نتيجة اعتداءات المستوطنين المتكررة ضد الفلسطينيين. لكن قبل أن ترصد” ساسة بوست” أبرز الأسباب التي ساهمت في تراجع المقاومة الفلسطينية مؤخرا في الضفة المحتلة، لا بد من التنويه إلى أشكال المقاومة في الأراضي الفلسطينية المحتلة اليوم، وهي: أولا: المقاومة الناعمة ويقصد بها أنواع الاحتجاج الناعمة ضدّ ممارسات الاحتلال مثل النشاطات الدورية ضدّ الجدار العازل، ونشاطات مقاطعة منتجات المستعمرات، وغيرها من الفعاليات الرمزية التي لا تؤخذ صفة الديمومة، وتتجنب قدر الإمكان الاحتكاك مع جنود الاحتلال. ثانيًا: المقاومة الشعبية وهي المقاومة التي تخوضها جماهير الشعب الفلسطيني بشكل منظم، ولكن ليس على أسس فصائلية، حيث تقوم أساسًا على المشاركة الجماهيرية وليس على مشاركة الفصائل، دون أن يعني ذلك تغييب دور الفصائل في الحشد والتعبئة والتنظيم. ثالثًا: المقاومة المسلحة ويقصد بها مقاومة الاحتلال عبر الطرق المسلحة، على اختلاف طبيعة ومدى التسليح، ويتميز هذا النوع من المقاومة بسيطرة الطابع الفصائلي، لذلك فإن الفصائل المقاومة هي الأقدر على تنظيم المسلحين وتدريبهم وقيادة تحركاتهم، وتأمينهم بالسلاح، وتغطية مقاومتهم سياسيًا وأمنيًا وإعلاميًا. أبرز أسباب ضعف وتراجع المقاومة في الضفة المحتلة 1-استمرار التنسيق الامني وهو عهد اتخذته السلطة الفلسطينية أمام جملة الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، ضمن رسالة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، عام 1993 والتي صدرت قبل توقيع اتفاق أوسلو. حيث نصت على تعهد منظمة التحرير الفلسطينية بملاحقة الإرهاب والإرهابيين، وجاء اتفاق أوسلو بعد ذلك لينص على إقامة تنسيق أمني بين الفلسطينيين والإسرائيليين دون أن يدخل بتفاصيل. فضلا عن أن إسرائيل مسؤولة عن الأمن الإجمالي في الأرض المحتلة عام 1967، مما أعطى “إسرائيل” حق الدفاع عن هذه الأرض ضد أي عدوان خارجي، وحق العمل الأمني فيها في أي وقت تشاء. وبالتالي، أضحت مدن الضفة المحتلة مسرحا للتعاون الوثيق بين إسرائيل والسلطة، حيث يتم من خلاله منع أو إحباط أي عمليات فدائية، أو مظاهرات مناهضة للاحتلال وسياسته، وما زاد ذلك حينما حظرت السلطة أي نشاط لحركتي “حماس والجهاد الإسلامي” بعد أحداث حزيران 2007م في غزة. 2- تغيير نمط مواجهة المقاومة يشير تقرير” الشاباك” الإسرائيلي إلى أن المقاومة في الضفة وتحديدا حركة” حماس”، غيرت نمط نشاطها الذي كان سائدًا بين عامي 2006 و2009، وبات نشاط أفرادها يتمحور في منطقة سكناهم في الضفة الغربيةالمحتلة، عبر اعتماد الخلايا المحلية على الارتجال في نشاطها، وفي تزوّدها بالسلاح من دون الرجوع بالضرورة إلى الحركة الأم. وهذا ما يفسر إحباط غالبية العمليات داخل الضفة، مما يؤكد أن “بنك أهدافها” يتمحور حول مواقع ومركبات جيش الاحتلال أو المستوطنين، دون أي وجود مخطط لتنفيذ عمليات داخل أراضي 48، وذلك لصعوبة تنظيمها، مع ما يرافق ذلك من خطر المجازفة باكتشاف الأمر عند حواجز الاحتلال. وبالتالي فإنه من السهل على عناصر المقاومة في الضفة، الاكتفاء بتنفيذ عملية إطلاق نار على أهداف إسرائيلية، بدلًا من القيام بعمليات شائكة ومركبة، حيث مع تراجع نوعية وحجم العمليات، في ظل هذه التغييرات في نمط تركيب الخلايا أو التخطيط لعمليات فردية، فإن “الشاباك” لا يخفي، حقيقة استمرار نمط تشكيل خلايا مناطقية. 3- تفكك البنى التنظيمية والقوة العسكرية لمعظم الفصائل وذلك من خلال الضربات التي تعرضت لها الفصائل المقاومة، والخسائر التي تكبدتها على صعيد الشهداء والمعتقلين، من قبل الاحتلال بعد انتفاضة الأقصى، حيث ساهمت السلطة الفلسطينية بشكل كبير في ذلك عبر تقديم معلومات للاحتلال. وبالتالي، فإنه من الطبيعي أن تؤثر هذه التراكمات على الاستعداد الشعبي لخوض تجربة مماثلة قد تكلف أثمانًا باهظة دون أن تحقق إنجازات سياسية ووطنية تليق بالأثمان المدفوعة حتى اللحظة، بالتزامن مع استمرار مشروع التعاون بين إسرائيل والسلطة. ويندرج هذا التفكك على العقيدة الأمنية الجديدة التي أعادت تأسيس قوى الأمن الفلسطينية عليها بعد الانقسام عام 2007م، أو ما عرف ب”الفلسطيني الجديد” الذي عمل على صناعته الجنرال الأمريكي كيث دايتون بالتعاون مع السلطة الفلسطينية، وهي ما تمثل اليوم عائقًا أمام المقاومة في الضفة. حتى أن التطور الهائل الذي حصل في تكنولوجيا المراقبة والكاميرات الإسرائيلية أصبح يعيق قدرة المقاومة على استهداف جنود الاحتلال ومستوطنيه، فأي عملية تقع اليوم معرضة للتصوير من مئات الكاميرات الحديثة المزروعة في معظم شوارع ونواحي الضفة. 4- تغيرات اجتماعية واقتصادية وهي التي أعقبت انتفاضة الأقصى والانقسام الفلسطيني، وتكبيل المواطن الفلسطيني اقتصاديًا بسبب ارتباط السلطة الفلسطينية “عضويًا” بالاحتلال من الناحية الاقتصادية، عبر العديد من الاتفاقات. فضلا عن أنها غيرت في المزاج الشعبي لبعض الشرائح في الضفة الغربية، وأدت إلى تحولات تدريجية في تطلعات فئات من مواطني الضفة الغربية من “شعب تحت الاحتلال”، إلى مواطن يسعى لتحقيق متطلبات “الرفاه”، بفعل السياسات التي اتبعتها حكومات سلام فياض في إطار مشروعها الذي يتلاقى بشكل أو بآخر مع خطط “السلام الاقتصادي”. فعلى مدى عقدين من وجود السلطة الفلسطينية وتضخم بيروقراطيتها، استطاعت أن تستوعب في قطاعاتها الخدمية مئات الآلاف من الفلسطينيين، الذين أضحوا معتمدين على رواتب شهرية تصلهم من مالية السلطة. وليس سرا أن ميزانية السلطة تعتمد بدورها على المنح والهبات الدولية المرتبطة عادة بمشروع التسوية، بالإضافة إلى عوائد الضرائب التي يتحكم بها الاحتلال، حيث أضحى الفلسطينيون مكبلين بأغلال اقتصادية تزيد من تقييد حركتهم الوطنية. 5- سيطرة الاحتلال حيث لا يخفى على أي فلسطيني سيطرة إسرائيل الكاملة على قرى وأزقة ومدن الضفة المحتلة، عبر العديد من الحواجز العسكرية، والطرق الالتفافية وغيرها من عناصر السيطرة الإسرائيلية التي تقلل من هامش الحركة لفعاليات المقاومة، بكافة أنواعها. وما عزز ذلك، هو وجود قرار إستراتيجي للسلطة الفلسطينية بمنع كافة أنواع المقاومة في الضفة الغربية باستثناء النوع الأول الذي اصطلحت هذه الورقة على تسميته ب”المقاومة الناعمة”. 6- غياب التوافق الوطني والفصائلي فشلت الفصائل الفلسطينية جميعًا في بلورة مشروع وطني موحد تتعاون في إنجازه قوى العمل الوطني المختلفة، فعلى مدى سنوات الانقسام الماضية كانت الجهود الفلسطينية مبعثرة ولا تصب في اتجاه واحد يعاكس سياسات الاحتلال. حتى بدا أن بعض الفصائل غير جادة في مقاومة الاحتلال، فبدل أن تكون عاملا مساعدا في توفير حاضنة للمقاومة كانت عامل إضعاف لها، مما مهد الطريق أمام السلطة لضرب الحاضنة الأساسية لعمل الفصائل الاسلامية عبر تقييد المساجد وإبعاد عناصر المقاومة عنها. إلى جانب نفور كثير من الشباب عن الفصائل قاطبة بسبب الانقسام، أفرزت بيئة جديدة عزلت المقاومة عن حاضنتها الشعبية، فوصل الأمر في مرحلة معينة إلى اقتصار العمل المقاوم على نخب محدودة من النشطاء وأهالي الأسرى والشهداء بينما بقيت جهود الكثير من الفصائل كامنة. المصادر