مذكرات السجن - 6 صباحا - 17 يونيو 2000 قرأت بالأمس عددا من الصفحات فى كتاب مهم عن التصوف الإسلامى.. وهو عالم أهاب الاقتراب منه.. أو بالأحرى أهاب التعمق فيه، لأننى بالفعل أحيا تجربة روحية عميقة.. لم أعهدها من قبل، وهى على روعتها تهز كل كيانى.. وسألت الله عز وجل أن يرفق بى.. وأن يأخذ بيدى خطوة خطوة.. لأن نفسى تحولت إلى بركان مشتعل.. وفهمت ماذا يعنى محمد إقبال فى شعره (لابد للمكبوت من فيضان).. وعندما يقول: صعدت إلى شفتى خواطر مهجتى .. ليجيب عنها منطقى ولسانى أنا ما تعديت القناعة والرضا .. لكنها هى قصة الأشجان يدعو لك اللهم قلب لم يعش .. إلا لحمد علاك فى الأكوان شكواى أم نجواى فى هذا الدجى .. ونجوم ليلى حسدى أو عودى أمسيت فى الماضى أعيش كأنما .. قطع الزمان طريق أمس عن غدى والطير صادحة على أفنانها .. تبكى الربى بأنينها المتجدد قد طال تسهيدى وطال نشيجها .. ومدامعى كالطل فى الغصن الندى فإلى متى صمتى كأنى زهرة .. خرساء لم ترزق براعة منشد ويشير إقبال إلى تجاوب المجرات وزرافات النجوم والكواكب مع نداءات المؤمن لربه.. وجاوبت المجرة على صوتا .. سرى بين الكواكب فى خفاء وقالت هذا صوت شاك .. يواصل شدوه عند المساء ولم يعرف سوى رضوان .. وما أحراه عندى من وفاء ***** وليست الصوفية فى أصلها السليم، إلا التأسى بالقدوة المصطفى "صلى الله عليه وسلم"، والتأسى بسيرته.. فى طريق منير مستضئ إلى الله.. وهى رحلة تزدرى بكل الرحلات.. وتسخر من كل متاع الدنيا.. والخطورة كل الخطورة أن تتحول إلى طلاسم، أو أسرار خفية.. فالصوفية الحقة مبسوطة فى القرآن والسنة بلا أسرار.. وهى ملك الجميع.. هى مشاع.. أو قطاع عام.. لمن يريد أن ينهل بلا حدود.. وسيعرف طريقه وحده.. والصوفية من الصفاء.. وهذا أحلى تفسير لغوى لها.. أن تكون صوفيا يعنى أن تكون صافيا.. وهل يوجد أحلى من الصفاء؟! وكثرة البكاء فى جوف الليل هى من أبرز العلامات على الاقتراب من الله.. لأننى عرفت أناسا يبكون بصورة تمثيلية، كما يبكى الممثلون على خشبة المسرح، والبكاء فى جوف الليل أو عندما تكون خاليا مع الله، ليس فيه شبهة رياء للناس، أى ليس فيه شبهة التظاهر بالتقوى.. ومنذ بدأت كتابة مذكراتى فى السجن من عام 1998 كنت أريد أن أكتب فصلا عن البكاء.. ولكن الله لم يأذن لى.. وأنا أعنى البكاء من خشية الله، أو من شدة حبه؛ وهذا نوع خاص من البكاء. ومن علامات تدهور مجتمعنا من الناحية الإيجابية أن البكاء تحول إلى عيب, خاصة للرجال، ونحن كثيرا ما نقول: (الرجال لا يبكون) وهذا هراء عموما.. ليس فى مجال خشية الله فحسب, ولكن فى الأحداث الجسام كالموت.. فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يبكى فى وفاة الأعزاء: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن).. ولكن كان أكثر بكاءا حبا وخشية من الله.. ولا شك أن المرأة أكثر بكاءا من الرجل بوجه عام فى مجال الحياة اليومية.. وهذا ما ينفس عن المرأة، ويجعل صحتها أفضل، وعمرها أطول.. ولكن فى مجال خشية الله فلا أحسب أن هناك فرقا بين الرجل والمرأة.. فالمسألة متعلقة بالشحنة الإيمانية. ويطول الحديث فى هذا المجال.. وهو مسجل فى القرآن الكريم فى عدة مواضع: (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (الإسراء: 109). (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً) (مريم: 58). ولكننى أريد تسجيل بعض الأحاديث التى وردت فى مجلة منبر الإسلام فى عدد يونيو 1975، فقد وجدت هذه المجلة فى مسجد العنبر، وهى وثيقة تؤكد كيف تدهورت مصر فى كل المجالات.. فهى أفضل بكثير من حالتها الراهنة بعد ربع قرن، وأنت تود أن تقرأ المجلة كلها من الجلدة للجلدة.. وهى منوعة وشاملة لكل المجالات وبأفضل الأقلام.. وقد وجدت فيها هذه الأحاديث تحت عنوان: (أثر البكاء من خشية الله) وهى غير محددة المصدر بصورة كافية.. لذلك سأسجلها لمراجعتها فى كتب الأحاديث بعد خروجى إن شاء الله. * عن أبو سعيد الدرامى قال: حدثنى جدى عن أنس بن مالك قال: جاء فتى من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن أمى تكثر البكاء وأخاف على بصرها أن يذهب فلو أتيتها فوعظتها, فذهب معه فدخل فقال لها فى ذلك.. قالت: يا رسول الله أرأيت إن ذهب بصرى فى الدنيا ثم صرت إلى الجنة أيبدلنى الله خيرا منه؟ فقال: نعم.. قالت: فإن ذهب بصرى فى الدنيا ثم صرت إلى النار أفيعيد الله بصرى؟ فقال النبى للفتى: إن أمك صديقة. * عن ثابت بن سعيد قال: ثلاث أعين لا تمسها النار: عين حرست فى سبيل الله، وعين سهرت فى كتاب الله، وعين بكت فى سواد الليل من خشية الله. * وعن محمد بن الفضيل عن العلاء بن المسيب، عن الحسن قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: (ما من قطرة أحب إلى الله من قطرة دم فى سبيله, وقطرة دمع فى جوف الليل من خشيته، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة مصيبة موجعة ردها بصبر وحسن عزاؤه, وجرعة غيظ كظم عليها). صدقت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.