كشفت كارثة المقطم حجم العشوائية والتخبط الذي يلازم حكوماتنا (الوطنية!) المتعاقبة.. فقد صار طبيعيا جدا أن نجد حكومتنا المسكينة غارقة في غيبوبتها التي لا تفيق منها، حتى تقع كارثة (وما أكثر الكوارث "الوطنية") فتضطر إلى الخروج من الغيبوبة لثوان معدودة لتبرر خيبتها في الفشل في منع الكارثة، والفشل في مواجهتها، والفشل في التعامل مع نتائجها، والفشل في تقليل حجم الضحايا والخسائر، بل والفشل في إخفاء حالة الخيبة التي تلازمها. والغريب أنهم لم يعودوا يشعرون أن حالتهم المرضية مكشوفة، وأن الشعب يسخر منهم ومن إعلامهم الغبي وتصريحاتهم المملة المكررة!. فالحكومة المسكينة- كما قالوا- بريئة من دم ضحايا الدويقة لأنهم هم الذين وضعوا أنفسهم في قلب الخطر، وكأنهم كانوا يعيشون في مغارات بعيدة عن الأعين!.. ولم يقل لنا أحد لماذا تركتهم الحكومة يفعلون ذلك (بالمخالفة للقانون) وهي التي فعلت مثلهم ببناء المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية في قلب هذه المنطقة العشوائية. وقد سارع أقطاب الحكومة الخائبة إلى (ادعاء) أنهم يعرفون كل المناطق العشوائية (ونتحدى أن يكون ذلك صحيحا!)؛ وأنهم يخططون للتخلص منها.. وقد وقعوا في شر تصريحاتهم، إذ يمكن بسهولة إثبات أن العشوائية سلوك حكومي أساسي، فقد شاهدنا العشوائية والارتجال وانعدام وجود أية خطط في الحرائق "الوطنية" المتعاقبة، وفي الانهيارات العقارية المتوالية، وفي التعامل مع رجال أعمال حزب الحكومة عندما مرغوا سمعة حزبهم في التراب، بل وعندما حاولوا أن يخططوا الشوارع لضبط الحالة المرورية لنجد تخطيطا عشوائيا رديئا بلا أي معنى أو فائدة. والأمثلة لا حصر لها ولكننا سنركز على حالة تثبت أنهم إما في غيبوبة وإما متفرغون لمصالحهم الخاصة وليحترق الوطن بمن فيه.. فقد أنشأت مدن جديدة تحيط بالعاصمة مثل الشروق والعبور...الخ، وهي مدن مخططة سلفا قبل أن تطؤها قدم، وكانت أمامهم الصحراء الشاسعة والمساحات غير المحدودة ليتخلصوا من المشكلات التي تخنق العاصمة ويتحججون بعدم إمكانية إصلاح ما أفسده الدهر فيها؛ مثل الازدحام والكثافة السكانية العالية وضيق الشوارع والبيوت.. فهل وعوا الدرس؟!، للأسف لا؛ فقد نقلوا صورة كربونية لمدننا التقليدية: المصالح الحكومية مكدسة في قلب المدينة، المساحات التي تخصص للمشترين محدودة وكأنهم يقطعونها من أجسادهم، الحدائق العامة محدودة.. لا نظام مروري عصري، لا أرصفة أو طرق واسعة، لا طرق مخصصة للدراجات... الخ، الخ. والأسوأ من ذلك أن منطقة عشوائية ضخمة نشأت (عمدا مع سبق الإصرار والترصد) أمام مدينة الشروق بمساحة تفوق المدينةالجديدة نفسها، ويقال أن هذه الأراضي الشاسعة استولى عليها الكبار من أهل الحكم (بعشرات ومئات الفدادين) بذريعة استصلاحها ثم قاموا ببيعها (بالمتر) لتبنى دون تراخيص ودون مرافق وتصبح إحدى القنابل العشوائية الموقوتة بأحدث المدن الجديدة. وقد سبق أن قرأنا تصريحا "خجولا" لوزير الزراعة يؤكد فيه أن هذه الأراضي مخصصة للزراعة وليس للسكن وأن المرافق لن تصل إليها. هل انتهت مسئولية الحكومة بهذا التصريح؟؟!.. لماذا تتعامى الحكومة عن البناء دون تراخيص إلا إذا كانت هناك فوائد تعود على البعض؟. ألا تدل هذه العشوائية التي تلازم حياتنا كلها، والكوارث المتعاقبة والفشل في التعامل معها أننا نحكم بحكومة مسكينة.. مكسورة الجناح؟، حكومة دائمة المسكنة والشكوي من المواطنين والقول إنه من المستحيل تخصيص جندي لكل مواطن!. وكأن هذه الحكومة تدير أرضا معادية ليست لها سيطرة عليها!. أين الإدارات المحلية?.. أين حراس الوطن?.. أين من يدعون معرفة "دبة النملة"?.. هل تعجز الحكومة بجلالة قدرها عن منع إقامة منشآت دون ترخيص?، أم أنها المسكنة والتهرب من المسئولية؟!. قس على ذلك ما يحدث في كل موقع وكل ميدان؛ بناء على الأرض الزراعية دون تصريح.. إنشاء أبراج سكنية دون التزام بالتنظيم أو الارتفاعات.. حفر في الشوارع دون تصريح وترك الحفر على هيئة كمائن للسائرين.. إنشاء «جبال- يسمونها مطبات» بعرض الطريق تؤذي السيارات بحجة إجبار السائقين على تهدئة السرعة وكأنه لا يوجد قانون للمرور.. القيادة بسرعات جنونية والقتل اليومي للمئات من الركاب والمشاة المساكين .. كسر الإشارات والوقوف في غير أماكن الانتظار دون رادع.. حجز أماكن «بالقوة» أمام البيوت وبعض المنشآت لمنع السيارات من الانتظار بها قبل دفع الإتاوة أو تحويلها إلى ملكية خاصة.. إلقاء القمامة على هيئة أكوام في شوارع مهمة .. تكديس مواد البناء ونواتج الهدم بالشوارع لشهور وسنوات.. استخدام أرصفة الشوارع لأعمال تجارية وحرفية ومنع المواطنين من استخدامها للسير.. توزيع سلع غير مطابقة للمواصفات... إلخ إلخ. إذا كانت الحكومة مسكينة ومكسورة الجناح إلى هذه الدرجة فلماذا تتحول إلى حكومة معمرة, بل لماذا تبقى في الحكم وهي فاشلة في كل شيء?!.. المفروض أن الحكومة تنوب عن الشعب في وضع الأنظمة واللوائح موضع التطبيق.. بل إن الشعوب عندما «تختار» حكوماتها فإنها تمنحها الحق في إنزال العقاب بالمخالفين للقانون حماية لهم ولباقي المواطنين. تري هل حكومتنا «المعمرة» لا ترى هذه المخالفات.. أم أنها تعتبرها أمورًا عادية. أم أن المسئولين بالحكومة مشغولون عنا بأمور أخرى?، وما هذه الأمور التي جعلت الحكومة مسكينة إلى هذه الدرجة؟!. لا شك أن أهم أسباب هذه العشوائية الحكومية تلك الجزر المعزولة داخل «مجلس» الوزراء.. فكل وزارة عبارة عن مملكة مستقلة لا يستطيع صاحبها الاقتراب من الممالك الأخرى لذلك لا تجد عملاً مخططًا أو متكاملاً, وإنما خبطة هنا وخبطة هناك.. فإذا قاموا بتنظيف شارع مثلاً وضعوا الأتربة في الشارع المجاور وأحيانًا فوق الرصيف في الشارع نفسه , لكي تعود إلى قواعدها سالمة عند مرور سيارة مسرعة!. ليت حكومتنا العشوائية تأخذ العبرة والخبرة من ذلك الرجل الذي سمعنا عنه ولم نره, الذي كان يمتلك حافلات نقل الركاب بالعاصمة قبل تأميمها.. فقد أنشأ إدارة لإصلاح المطلبات بالشوارع حفاظًا على مركباته ولتقليل الإنفاق على قطع الغيار, رغم أن ذلك لم يكن اختصاصه ولا واجبه، وإنما واجب الحكومة أو البلدية.. ولكنه أدرك أن نجاح مشروعه يتطلب التدخل (بماله) في اختصاصات الآخرين المقصرين أو الغافلين. وإذا أردنا أن نتبع سنة هذا الرجل البارع فلدينا الكثير مما يمكن اعتباره واجبًا ملزمًا لأكثر من وزارة.. من ذلك (مثلاً) مشكلة النظافة العامة التي تعتبر أكبر عار يجلل أية حكومة.. فلو كنت من وزير الصحة لاعتبرتها أولى واجبات الوزارة وقاية للمواطنين من الأمراض وتوفيرًا لنفقات علاج المرضى.. ولو كنت من وزير السياحة لامتنعت عن استقدام السائحين لحين الانتهاء من هذه المشكلة التي تنفرهم وتجعلهم ينقلون الدعاية السيئة عن بلادنا وآثارنا.. ولو كنت من وزير التعليم لأوقفت الدراسة بالمدارس والجامعات حتى يقوم الطلاب بتنظيف بيئتهم التي تعتبر عنوانهم. ولو كنت من وزير الشباب لأوقفت الأنشطة والمعسكرات الصيفية على هذه المشكلة المخجلة للشباب وغيرهم.. ولو كنت من وزير الداخلية لاعتبرت أن القاذورات والمطبات بالشوارع أحد مسببات الأزمة المرورية الخانقة وجندت جنود الأمن المركزي لإزالة هذا العار.. ولو كنت من وزير البيئة لاعتبرت أن مشكلة النظافة أولى من التلوث البيئي لأن من يفشل في حل مشكلة القمامة لن ينجح في إزالة التلوث المتشعب.. وهكذا. والواقع المؤسف أن كل هذه الوزارات وغيرها تعتبر أن الأمر لا يعنيها وتترك قضية النظافة العامة للبلدية أو المحافظة.. ويظل الحال على ما هو عليه: وزارة تبني ووزارات تهدم , ويسمون كل ذلك إنجازات!!. للأسف الشديد فقد صارت العشوائية جزءا أساسيا من حياتنا.. والبركة في الحكومة، أراحنا الله تعالى منها.